أنا الكاتب، أنا الكتاب
طبعت الرواية الأولى في مكتبة بالقرب من جامعة تشرين. طبعت نسخة واحدة حتّى أعيد قراءتها، ثمّ رأيت أنّها غير مناسبة للنشر، كان هذا في عام 2009. شعرت بأنّها ذاتية إلى حدّ ما، شاعرية وخاصّة بي. فقررت إعادة كتابتها. وقد أعدت كتابتها بالفعل، وصنعت منها رواية مختلفة بالكامل. نفس الحكاية. لكن كلّ شيء فيها اختلف.
من جديد طبعت نسخة واحدة في مكتبة بالقرب من جامعة تشرين، حتّى أعيد قراءتها، وكنّا دخلنا عام 2012. ثمّ أرسلتها إلى دار نشر عربية، وأرسلوا لي بعد أشهر بروفة للكتاب كي يصدر في معرض بيروت (2013). لكن الأحداث التي بدأت في سورية، أخذت تنسف الوعي بالممكن الذي كنّا نعيش وهمه. البلد كما عرفناه كان ينهار، الناس يُعتَقلون ويُقتَلون في مجازر العنف "الديني" وعنف "الدولة". وأخذ الأصدقاء يذهبون إلى الحرب أو إلى المنفى من غير أمل بالعودة.
في تلك الآونة بدأت كتابة رواية "حقول الذرة". فاعتذرت عن فرصة النشر، وقررت أن يكون عملي الأول عمّا يحدث. لا عن قصة حبّ ذاتية. وربما أخطأت. وهكذا بسبب الشعور باحتمال الموت، وبوجوده على مقربة، قررت أن أكتب شهادتي أيضاً. لأنّ ما يحدث لن يتكرّر في حياة أيّ منّا.
على هذا النحو، لم يرَ كتابي الأول النور لمرتين على الأقل. أقول على الأقل، لأنّني في تلك الفترة جهزت ديوان شعر للنشر في 130 صفحة. ولم أنشره. إذن، أنا لم أنشر كتبي الثلاثة الأولى، وأخشى أنّ هذا صار طبعاً لدي.
مع الوقت يدرك المرء أنّ الكتابة هي التي تعنيه، لا النشر، لكن منذ البداية كان لدي ذلك الإدراك، ولا أعرف من أين جاءني في الحقيقة. كان ممكن للكتاب الأول أن يصدر في عام 2009، لكنه صدر بعد ذلك بسبع سنوات. والوقت بين إمكانية النشر وبين النشر الفعلي هو ما صنع جلّ تفكيري في النشر.
قبول العيش في بلد مثل سورية، يجعلك تعرف متى تسأل ومتى تجيب ومتى تصمت... مجاز في رصيف22
في النهاية ينشر المرء، الذي يجد نفسه كاتباً، شيئاً ممّا يكتبه. وهذا ما حدث في 2016 بعد أن حصلت "حقول الذرة" على جائزة الطيب صالح. وعوض أن أقول في العشرين، إنّني كاتب، قلتها في السادسة والعشرين. عندما تنظر إلى المسألة بعد سنوات، لا تجد فارقاً بين هذين العمرين. غير أنّ الكتب وصلتني بعد أكثر من عام، وقد أرسلها الأصدقاء في الخرطوم عن طريق تاجر حلبي، لا يعرفونه، وما إن وصل دمشق حتّى أرسلها إلى اللاذقية عن طريق شركة نقل القدموس، ولخطأ ما، لم يخبروني في الشركة، فبقيت الكتب تروح وتجيء بين دمشق واللاذقية، حتّى قرروا إتلافها بعد عام.
آنذاك، اتصلوا بي، وسألوني إن كنت أنتظر شيئاً من الشام. وأنا بطبيعة الحال، لم أكن أنتظر. لكنني ذهبت واكتشفت أنّ روايتي الأولى صارت بين يدي أخيراً، بعد قرابة ثماني سنوات من الكتابة شعرت بالحلاوة الكاوية كما رآها دوستويفسكي. المهم، اتصلت مع التاجر على الرقم الموجود على الطرد، كي أشكره، فلم يذكر المسألة بسهولة. دائماً ما أَوصل غرباء لا أعرفهم ولا يعرفوني كتبي إلى سورية، والآن ليس لدي نسخة واحدة من أيٍّ من كتبي، إذ دائماً كان هناك نسخة أخيرة أعطيها لأحد الأصدقاء أو الغرباء ممّن يطلبونها.
توجد حكاية ثانوية حدثت مع شركة DHL، إذ أرسلت صديقتي التي شاركت في العام التالي في جائزة الطيب صالح، نسخةً من الرواية ما إن عادت إلى ألمانيا. وقالت لي سيصل كتابك خلال 20 يوم كما أخبروها، واستمريت بالسؤال عن الكتاب مدة ستة أشهر، وربما أكثر، لا أتذكر بالضبط. لكنهم لم يفرجوا عن الرواية، وقال لي الموظف في البريد إنّ الكتب تحتاج إلى تصريح. ما إن عرفت ذلك توقفت عن السؤال. كنت أعرف أنّهم لن يمنحوها تصريحاً للإقامة معنا. وبطبيعة الحال، وربما بطبيعتي، خفت من السؤال مجدّداً. قبول العيش في بلد مثل سورية، يجعلك تعرف متى تسأل ومتى تجيب ومتى تصمت. وقد اعترضت صديقتي بشجاعةٍ وودّ على استسلامي. وقالت إنّها ستشتكي على شركة DHL. ولكنني اعترضت على فكرتها. إذ كنتُ في مرحلة ما قد أدركتُ، بصورة مؤكدة، أنّني خارج العالم. ونما لدي شعور، كما آخرين، أنّنا نقيم في الجحيم إقامة أبدية. نحن عالقون.
مع الوقت يدرك المرء أنّ الكتابة هي التي تعنيه، لا النشر، لكن منذ البداية كان لدي ذلك الإدراك، ولا أعرف من أين جاءني في الحقيقة. في النهاية ينشر المرء، الذي يجد نفسه كاتباً، شيئاً ممّا يكتبه... مجاز
أمّا عن النشر نفسه، فقد حاولت نشر الرواية قبل الجائزة. وكنتُ أفضّل هذا على الرغم من رومانسيته. أرسلت الرواية إلى دار نشر عربية في بداية العام 2015، ووافقوا على المخطوط، لكنهم طلبوا مني مبلغاً كبيراً لقاء النشر. بغض النظر عمّا كنت أملك عندما وصلني العقد. لكنني لستُ مع النشر الذي يدفع الكاتب مقابلاً له، أفهم لجوء البعض إلى هذا الخيار. ولكنني أرفضه. منذ البداية كنت أرفضه. قدّم لي أصدقاء نصائح عديدة، وحاولوا تزكية الرواية لدى أصدقائهم الناشرين كي يقرأوها. وأنا أشكرهم من قلبي. لكن هذه الأمور لا تنجح في الحقيقة. وهكذا وجدتُ نفسي أرسل الرواية إلى جائزة أدبية تستقبل النصوص مغفلة الاسم.
أرسلت الرواية مثل الحكايات التي نسمعها عن الأقدار، قبل أن تغلق الجائزة بساعات. أقل من يوم على انتهاء الترشيح. ربما كانت الرواية الأخيرة التي يقبلونها. لا أعرف. لكن الباقي معروف؛ صدرت الرواية في النهاية، ورأيتُ هذا حسناً. ثمّ صدرت في طبعة ثانية عن دار ممدوح عدوان في الإمارات. لكن لم تدخل سوى نسخ قليلة منها إلى سورية. وأعرف في أيّ البيوت موجودة. وأحياناً أزورها. وأحياناً أراها في المكتبات على الإنترنت. إنّها موجودة. هذهِ حقيقة الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 22 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت