أول الشبابيك
أحبُّ الشبابيك. أبحث عنها دائماً لأتنفس، ولأجد نفسي، وألملم روحي، فهي هوية البيوت وأشجار ذاكرتها. لذلك، في كل بيت سكنته أو سأسكنه، أختار لي شبّاكاً ليكون لي ملجأً ومحراباً.
قد أحتاج في مرحلة ما إلى هجرة جديدة وغربة وشبابيك جديدة، لأتعرف على نور داخلي آخر، ولأتغذى من شموس أخرى، ولكن فتح أي شباك جديد لن يكون أبداً بإغلاق شباك قديم أو هرباً منه.
مع الأيام، جمعت لنفسي، منذ طفولتي إلى الآن، مجموعةً من الشبابيك الغالية على قلبي، إلا أن من بين جميع شبابيكي، يبقى شبّاك غرفة الغسيل في بيتنا، محرابي الأول وزيتون ذاكرتي وبرتقالها. هو شباك كبير لغرفة صغيرة لا تحوي سوى غسالة ومغسلة وسلال ومساحيق غسيل. لا يطلّ هذا الشباك على بحر أو مناظر خلابة أو سهول واسعة، بل على بيوت الجيران المتلاصقة وإضافاتها العشوائية. شبابيك مفتوحة وأخرى مغلقة وأسطح وشُرفات حديدية مخالفة، ومكتظة بأغراض وأكوام من الخردة الفوضوية.
لا مكان للجلوس في هذه الغرفة، ولا أحتاج فيها إلى كرسي أو قهوة أو موسيقى هادئة أو إلى خلق أي طقوس أو تفاصيل. أقف وأستند مرةً إلى حافة الشبّاك الكبير ومرةً إلى الغسالة. أفتحه على مصراعيه وأنظر طويلاً إلى السماء. أفكر، وأتأمل، وأبكي، وأطرح على نفسي أسئلةً وأصيغ لها بعض الإجابات.
أتخذ بعض القرارات وأتهرب من أخرى. أتأمل جروحي وخيباتي. أحتضنها وأراقب شفاءها وتغير ألوانها بصبر وتفكر. أحلم وأخطط لأحلامي، وأستمتع بصنعها وتخيلها وتأثيثها بالتفاصيل والروائح، وكأنني أهرب من أكوام الخردة البشعة والفوضوية. أهرب منها، ولكنني لا أخاف من النظر إليها طويلاً، وتعريفها بما هي عليه. أتساءل من دون أن أجد إجابةً: تُرى من المسؤول عن تلك الأكوام والبشاعة؟ هل هي مسؤولية فردية؟ هل كل منّا مسؤول عن سطح بيته وشبابيكه؟ أم هي مسؤوليتنا الجماعية كشعب أو كمجتمع؟ أم هي نتيجة التضييق والاحتلال؟ أو أنّ أرضنا وبحرنا سُرقا ويُسرقان منّا كل يوم، فلم يعد لنا سوى السطوح، والسماء وشبابيك بعضنا البعض؟
أتساءل من دون أن أجد إجابةً: تُرى من المسؤول عن تلك الأكوام والبشاعة؟ هل هي مسؤولية فردية؟ هل كل منّا مسؤول عن سطح بيته وشبابيكه؟ أم هي مسؤوليتنا الجماعية كشعب أو كمجتمع؟ أم هي نتيجة التضييق والاحتلال؟ أو أنّ أرضنا وبحرنا سُرقا ويُسرقان منّا كل يوم، فلم يعد لنا سوى السطوح، والسماء وشبابيك بعضنا البعض؟
شبابيكنا المغلقة
بالرغم من انشغالي بشبّاكي المفتوح، وبأسئلتي وبأحلامي وبمحاولات غسل روحي وتعافيها، ونسج ما يتمزق فيها يومياً، تشغلني الشبابيك المغلقة والخائفة والمعتمة، وتؤلمني. وتخنقني ذرات الغبار والهباء التي تراكمت وتحولت إلى جبال تجثم على صدورنا جميعاً. تؤلمني لأنني أعرف جيداً النساء اللواتي يقفن خلفها وينتظرن. اللواتي يبكين ويختنقن ويغلقن الشبابيك خوفاً وهروباً من سؤال واحد وموحد: "ليش يا حرام؟". على هيئة سهم ملوث وصدئ ينغرس مباشرةً في القلب والروح. قد تتغير صيغة الجملة المرفقة بالسؤال من سنة إلى أخرى، أو من امرأة إلى أخرى، إلا ان هذا السؤال يلاحقنا جميعاً منذ ولادتنا وحتى مماتنا.
"ليش يا حرام؟"؛ لمن تنتظر أن تنجب طفلها الأول بعد خمس سنوات من العلاجات الطبية وإبر الهورمونات المنهكة وزيارات للشيوخ والعطارين؟ أو لمن أجهضت جنينها للمرة الثانية على التوالي؟ أو لتلك التي أنجبت أربع بنات ولم تُرزق بصبي، أو من تخطت العشرين عاماً ولم تتم خطبتها بعد، أو تلك التي تطلقت قبل عشر سنوات، أو تلك الطالبة التي لم تنجح في امتحان ما، في الفصل الأخير من الجامعة. "ليش يا حرام؟"؛ لتلك الممرضة المتفوقة التي تخرجت ولم تجد عملاً بعد، أو لمن تم تشخيص مرضها بالسرطان، وتنتظر عمليةً مركبةً سيتم فيها استئصال نصف أحشائها، أو عن الأم التي لم يتزوج ابنها الوحيد بعد، أو تلك الطفلة ابنة الاثني عشر عاماً وتغطي بعض البثور والحبوب وجهها. "ليش يا حرام؟"؛ لابنة السادسة عشر التي ازداد وزنها، أو للفتاة السمراء وشعرها المجعّد، أو لابنة الست سنوات التي تأتأت في إلقاء قصيدة في طابور الصباح، أو للمولودة حديثاً وتلك الوحمة الحمراء الكبيرة على رقبتها، أو لبنات السيدة التي توفيت في حادث على الطريق في العاشرة ليلاً!
هناك ما يكفي من الـ"ليش يا حرام؟"، لنا جميعنا وإلى الأبد. أسئلة مغلفة بشفقة سخيفة وبائسة تنهش بقسوة كل ما يتعلق بك كامرأة، من كثافة شعر حاجبك ورموشك، وجسدك وكيلوغراماته الزائدة أو الناقصة ولونه وكل بقعة صغيرة عليه، إلى أحشائك وتوقيت رحمك. طوفان من هذا السؤال لن يغيّره أي شيء، ولا أعتقد بأنني أملك أي قدرة على الوقوف أمامه وحيدةً، ولا حتى مع جميع النساء خلف الشبابيك المفتوحة أو المغلقة لأن الكثير من مخزون "ليش يا حرام؟"، تتوارثه النساء ويصنعنه، بإصرار وبإخلاص النساء للنساء.
هناك ما يكفي من الـ"ليش يا حرام؟"، لنا جميعنا وإلى الأبد. أسئلة مغلفة بشفقة سخيفة وبائسة تنهش بقسوة كل ما يتعلق بك كامرأة، من كثافة شعر حاجبك ورموشك، وجسدك وكيلوغراماته الزائدة أو الناقصة ولونه وكل بقعة صغيرة عليه، إلى أحشائك وتوقيت رحمك.
لكنني لا زلت أبحث وأحاول -بين الحين والآخر- أن أصنع لنفسي ولمن تحتاج إلى أن ترتاح قليلاً، سفينةً خشبيةً في وسط هذا الطوفان، أو حتى مجرد لوح خشبي أو درع نتمسك به بين موجة وأخرى. فلا أعرف لماذا لم يعلمنا أحد عن استخدام جمل: "هذا لا يعنيك/ مدخلكيش/ مدخلكاش/ شو خصك؟"، بمقدار كافٍ. بتنا نفكر ونتردد قبل أن نتلفظ بها، وكأن هذه الجمل ومرادفاتها محرّمة وغير لطيفة، وخادشة للحياء، لأننا، بالطبع، نرتعب من خدش الحياء ولا نبالي لنهش القلوب والأرواح.
أعترف بأنني، وبالرغم من فهمي لأهميتها، لا زلت مقلّةً في استخدام هذه الجمل، وأعلم أنني بحاجة إلى أن أتدرب عليها يومياً، مرةً في الصباح ومرةً قبل النوم. فهناك تراكمات داخلية وترسبات أعرف بعضها ولا زلت أجهل بعضها الآخر، تمنعني من المواظبة عليها. لكنني أحاول، وأنجح أحياناً. وحين أنجح، أرى أنني لم أحرج بها أحداً. ربما أحرجت من لم يفكر قبل أن يتكلم أو يتساءل. وهذا الإحراج مُلحّ وضروري.
أتساءل، أحياناً، هل ربما إذا أرفقنا قبلها وبعدها كلمتنا المفضلة "يا حرام"، لتصبح "شو دخلك، يا حرام"، سيصبح السؤال أكثر قبولاً ولطافةً؟
شبكة عنكبوت وحمامة، وعصفور يطلّ من الشباك
ومع كل هذا التأمل الواعي والإصرار، فإن مهمة التعامل مع عواصف الغبار والأسطح الفوضوية المكتظة وإبقاء الشبابيك مفتوحةً، ليست مهمةً فرديةً، ولا يمكن أن تكون كذلك، بل هي أمر مرهق ومتعب وخانق. فبين الحين والآخر، أحتاج إلى إغلاق شبّاكي لفترة لأحافظ عليه مفتوحاً لفترة أطول بعد ذلك.
أحياناً، تراودني فكرة الهجرة والهروب إلى أرض أخرى، وبلاد أخرى شبابيكها مفتوحة أو ربما متباعدة أكثر. لكن في قلبي كرم وبيّارة لا تزهر ولا تثمر إلا بنور بلادنا وشمسها ومائها، وتحت سمائها وبين شبابيكها، فأنا أحبها، وأتنفس جمالها مهما أتعبني غبارها.
هذا الجمال نفسه وما فيه من حياة، علّماني أن أفتح شبابيكي أكثر، وأن أدافع عنها بشراسة أكثر، فلكل شباك مفتاح واحد ووحيد أحاول أن أحافظ عليه، فلا أتركه ولا أنساه عند جهته الخارجية، حتى لا تتحكم به حالة الطقس والغبار وعابرو السبيل، بل أحفظه بعناية، مرةً بين رموشي ومرةً في ركن قلبي الداخلي. لكن شبابيكي لا تبقى مفتوحةً بفعل المفتاح فقط، فأنا لا أستطيع ولا أريد ولا أحتاج إلى أن أكون لنفسي كل شيء.
ما يحمي الشبابيك ويحصّنها ويبقيها مفتوحةً، هي شبكة خارجية منسوجة بكثير من اللطف والرحمة الربانية والدعاء وصلوات لا تكلّ ولا تملّ، مكللة بحب دافئ متجدد، وحبال زينة ملونة علّقتُ عليها ما تلقيت من نصائح داعمة وصادقة وخبرات وتجارب وأحلام سابقة تحولت إلى إنجازات حية. هي شبكة من حبال تحميها حمامة بيضاء ويؤنسها بين الحين والآخر عصفور يطل من الشباك يهديني سلاماً وأغنيةً.
أحياناً، تراودني فكرة الهجرة والهروب إلى أرض أخرى، وبلاد أخرى شبابيكها مفتوحة أو ربما متباعدة أكثر. لكن في قلبي كرم وبيّارة لا تزهر ولا تثمر إلا بنور بلادنا وشمسها ومائها، وتحت سمائها وبين شبابيكها، فأنا أحبها، وأتنفس جمالها مهما أتعبني غبارها
لعبة تبادل الأدوار
مع مرور الوقت والأيام، كبرتُ وتغيرت. تنقلتُ وما زلتُ أتنقل بين شبابيكي المفتوحة، ولكنني أعود دائماً إلى شبّاكي الأول، شبّاك غرفة الغسيل العادي، فقد نثرت على حافاته حفنات من روحي وأصبح لي مصنعاً من نور ونبع حياة أغسل فيه قلبي. ولا زلت أنظر بين الحين والآخر إلى السطوح، وحبال الغسيل، وأكوام الخردة، والسماء. ولكنني أنظر إليها الآن بشيء من النضج وقرار بأنه قد حان الوقت ربما لتبادل الأدوار. فعلى هذه الأكوام الفوضوية والأسطح أن تتعامل مع شبّاكي ونوره كحقيقة ثابتة، كما تعاملت وأتعامل معها أنا بشجاعة، فأنا مثلها باقية أيضاً، ولن أغلق شبّاكي.
قد أحتاج في مرحلة ما إلى هجرة جديدة وغربة وشبابيك جديدة، لأتعرف على نور داخلي آخر، ولأتغذى من شموس أخرى، ولكن فتح أي شباك جديد لن يكون أبداً بإغلاق شباك قديم أو هرباً منه، بل إنّ فتح كل شباك جديد سيمرّ حتماً بكل ما سبقه من شبابيك من دون أن يغلقها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع