تختلف احتياجاتنا وتتنوع ملذاتنا، منا من يهتم بلذة الطعام، وآخرون ينجذبون للجنس، وأكثرنا قد يحتاج إلى الإشباع العاطفي أكثر، أما الأدب فيخلط بين هذه المتع، ويضع لها مذاقاً خاصاً داخل غلاف واحد، لينتج لنا نوعاً مميزاً من الأدب الحسي.
لذة الإمتاع التي تصلنا من أعمال تتناول نكهات الطعام مميزة، فهي خلطة سحرية، يضع فيها الكاتب خبرته الحياتية ممزوجة بهذا الشغف عن الحب والعلاقات، وكيف يمكن أن ندمج بينهما في إيقاع موسيقي، متناغم حتى نبلغ "لذة النص".
الطعام والجنس
في كتاب "أفروديت – حكايات ووصفات وأفروديتيات أخرى" للروائية التشيلية إيزابيل الليندي، تطرح رؤى مختلفة وأصواتاً متباينة، مستعرضة علاقة الطعام بالجنس، وعما روي عنه منذ القدم، وعن بعض الموروثات الشعبية الخاطئة والمتعلقة بها.
"كانوا في الماضي يلجؤون إلى منقوع الخس، الذي يُشرب عند النوم، وإلى حجر القدح تحت السرير لتجنب الاستمناء الليلي والأحلام السعيدة عند الفتيان في الخدمة العسكرية، وتلامذة المدارس الدينية، وتفيض الأفكار المتناقضة حول هذا الموضوع".
"الخيار، الذي يعتبر في كثير من الديانات إيروسياً نظراً لشكله، يستخدم عند ديانات أخرى في الأديرة لتهدئة التأجج الذكوري عند الرهبان".
تحكي إيزابيل بأسلوب ساحر عن تجاربها الشخصية، وعن ذكرياتها منذ الطفولة حتى صارت امرأة، مستعرضة وصفات لمتعة تفتقدها هي وغيرها من النساء، تقول: "أنتمي إلى جيل النساء اللواتي ما إن يفقدن عذريتهن؛ حتى يفقدن قيمتهن في سوق الزواج".
إيزابيل تأخذ مقتطفات لنصوص صينية وهندية ويونانية عن الطعام، والعلاقة، ومفاهيمها العتيقة، كما ترصد وصفات لجأت إليها الشعوب لتأجيج المحبة وأسماء بعض المشروبات والتوابل وعلاقتها بممارسة الحب. المرأة بالنسبة إلى كاتبتنا "الأيروتيكية" حساسة لـ"الحلاوة"، كلماتٍ وموسيقى.
حرت في وضع إيزابيل، هل تؤمن بالحب وتقدسه أم تنتصر لرغبات الجسد المسيطرة؟
بين السطور، تعرفت على تناقض بعض أفكارها، أو ربما إمكانية تشابك المتناقض وتصالحه في آن واحد؛ تؤمن بالحب من النظرة الأولى، وتنتظر عسل الكلام في حين تضع الشهية والجنس في إناء واحد، فتقول: "الشهية والجنس محركا التاريخ الكبيران، يحفظان وينشران النوع، يثيران حروباً وأغاني، يؤثران في الدين، القانون والفن".
"الخلق كله سيرورة لا تنقطع من الهضم والخصب".
"الشهية والجنس محركا التاريخ الكبيران"، "كل شيء يتلخص بأجهزة يلتهم بعضها بعضاً"، "أجد وقوفي في المطبخ وحيدة، هو استيلاد لخيالات جامحة، بوابة لحيوات تمنيت عيشها"
"كل شيء يتلخص بأجهزة يلتهم بعضها بعضاً، معيدة إنتاج ذاتها، ميتة، مخصبة الأرض، وتعود لتولد متحولة. دم، مني، عرق، رماد، دموع، وخيال بشرية شاعري لا شفاء منه، يبحث عن معنى".
الكاتبة لم تعزل المتعة التي يخلفها الحب عن الكتابة، ففي نظرها أنها وقود يدفع الكاتب نحو الإبداع دفعاً، ويجعله يفرغ ما في داخله بتدفق.
" هل من علاقة بين الإبداع والرغبة الحسية؟ آمل ذلك، فالسعادة التي أشعر بها بعد ممارسة الحب تنعكس على عملي، إذ يوجه الجسد المشبع أفضل طاقاته ليمنح الكتابة أجنحة".
كالماء للشوكولاتة: طهو الحب
حرارة الحب لا تختلف عن حرارة الطعام وغليان الماء، هو ذاته اشتعال العاطفة والرغبة. بدون حرارة لا يكتمل الطعام، ولا يكتسب الحب "طعماً".
وكما أن كل شيء بمقدار، فأي زوائد أو نقصان قد تخرب من الوصفة أو تحول الحب إلى مسمى آخر، ويفقد قيمته. هذا ما تقوله الكاتبة المكسيكية، لاورا إسكيبيل، في روايتها "كالماء للشوكولاتة" ،التي ترجمها صالح علماني، فمثلما يُطهى الطعام، يُطهى الحب بمقادير محددة تزيد أو تنقص.
تقدم لاورا الواقعية السحرية بتجلٍّ خالص، تعيش بطلة الرواية تيتا حياة صعبة، فتحرم من حبها لبيدرو، حيث قدر لها كابنة صغرى ألا تتزوج، وتتفرغ لرعاية والدتها، بينما يتزوج حبيبها من شقيقتها الكبرى. هذا إلى جانب حياتها وسط المطبخ وبين الأطعمة ولذتها.
الرواية مكوّنة من 12 فصلاً كما الشهور، كل فصل يحمل وصفة، بمقادير دقيقة كتبتها لاورا.
تقول تيتا: "التقت عيناها بعيني بيدرو، وفي هذه اللحظة أدركت بالضبط ما لابد لعجينة الزلابية أن تشعر به عند ملامستها الزيت المغلي. كان حقيقياً جداً الإحساس بالحرارة التي اجتاحت جسدها كله إلى حد خشيت معه أن تبدأ فقاعات بالتقافز، مثل عجينة الزلابية من بدنها كله – الوجه، البطن، القلب، النهدين".
تقدم لاورا وصفتها الأهم وهي "الشوكولاتة"، وتشرح بكل دقة كيف أن الحرارة في هذه الوصفة تحكم عليها بالفشل أو النجاح؛ فالنقص أو الزيادة في الحرارة قد تؤدي إلى احتراقها أو كثافة قوامها، وهو ما يحدث في الحب عندما يتأرجح بين حرارة البداية والنهاية.
تصور لاورا عواطفنا كأعواد الثقاب، وترى أننا ولدنا وبداخلنا مواد قابلة للاشتعال، فتقول: "إذا كنا جميعنا نولد وفي داخلنا فسفور بمقدار علبة من ثقاب، فإننا لا نستطيع أن نشعلها وحدنا... لذا يجب علينا البقاء بعيدين عن أشخاص أنفاسهم جليدية، فبمجرد حضورهم وفقاً للنتائج التي صرنا نعرفها، يمكن أن يطفئ أشد النيران زخماً. وكلما ابتعدنا أكثر عن هؤلاء الأشخاص، تكون حمايتنا من أنفاسهم أكثر سهولة".
"ثورة الفانيليا"
عدد من الرسائل قدمتها القاصة هبة الله أحمد، من داخل عالمها الذي تنجذب إليه باستمرار وهو "المطبخ"، تخاطب ذاتها الحائرة، تعيد ترتيب الأشياء وتغير تسميتها باختلاف الحالات التي توضع بها، ومع أدواتها الخاصة تصنع عوالم مختلفة، وتضع لها توابل خاصة، تهاجم رائحتها حواس القارئ عند أول اختلاط له مع لغة مشبعة وثرية.
حيوات متنوعة، تخرج هبة من واحدة لتدخل في أخرى، مولدة عدداً من الخيالات الجامحة، تساعدها في التخلص من وحدتها، وفي عيش حبها الحقيقي والمصنوع بجرأة.
امرأة في جوّها الدافئ داخل المطبخ، تستند على أذرعه لتتخلص من الجليد المحيط بقلبها، وتنتزع بين الحين والآخر تلك العناقات المسروقة.
تخاطب حبيبها، قائلة: "تقطيف الملوخية ورقة ورقة، أو تقطيع الكوسا تمهيداً لتفريزها، على أنغام أغنية راقصة تنبعث من الراديو، هي أحداث بسيطة، لكنها تفقد الهواجس هيبتها، وتنزع عن الوحدة قناعها الجامد... الرقص يا صديقي على ذبذبات طحن الكمون في الخلاط الكهربائي، توازي فاعلية تناول حبيبات مستطيلة ومربعة لمهدئات ضارة جداً".
"قالت لي صديقتي وجود المرأة بالمطبخ لفترات طويلة، وشغل البيت هو أشبه بمعتقل مجتمعي لها، ومحاولة تدجين مستمرة لخيال المرأة، إلا أنني أجد وقوفي في المطبخ وحيدة، هو استيلاد لخيالات جامحة، بوابة لحيوات تمنيت عيشها".
داخل المطبخ، تخاطب الكاتبة صديقها الصامت، تزيل الغياب بكلمات تحمل العتاب والشوق، وتهديه صفاتها التي تؤنس وحدتها، وتشارك كل ذلك مع كائنات حية تسكن السقف أو الأرض، تدور بين لحظاتها الثمينة، وتنتظر مكافأة.
"ثورة الفانيليا"، هي ثورة على الذات والثوابت وإعادة قولبتها في صورة تسمح لنا بالتنفس والتنفيس عن الرغبات المكبوتة.
في الرسائل التي تحملها الفانيليا بين كفيها، تجد نفسك، وصديقك، وأحداثك مبعثرة بين كراكيب المطبخ، تستطيع من خلال قراءتها أن تطعم قلبك الجائع لكل المشاعر، وتطفئ نار وحدتك بكلمات تغازل حنينك، وتكشف عن خبايا ماضيك، الذي قد تصادفه مختبئاً داخل إناء، نسيته منذ زمن في زاوية المطبخ.
للرائحة أهمية كبيرة، فهي تحب رائحة القرفة والفانيليا، تلك الرائحة التي تمنح لليوم طعماً خاصاً، فمن خلال الرائحة تفيض أنوثتها، وتستعد للتحدي أينما كان
تقول هبة لصديقها في إحدى رسائلها: "سأعد اليوم أرزاً باللبن للعشاء، وسأضيف إليه قطرات من ماء الورد، وحبة مستكة واحدة، والكثير من السكر، جدتي قالت مرة: السكر كاذب... وأنا اليوم أحتاج الكثير من السكر والكذبات لأصدق أنك ما زلت تحبني، وستمطرني بأشواق كثيرة... كأمطار نوة الكرم".
تحكي هبة عن المناخ المصاحب لوجودها في المطبخ، من خلال رسائلها عن النهار والليل والظلام، وعن الإسكندرية وبرودتها وأمطارها، التي تعصف بشباك مطبخها وتؤرق وحدتها.
وللرائحة أهمية كبيرة، فهي تحب رائحة القرفة والفانيليا، تلك الرائحة التي تمنح لليوم طعماً خاصاً، فمن خلال الرائحة تفيض أنوثتها، وتستعد للتحدي أينما كان.
شعرتُ بقراءتها، لذة ومتعة.
بحسب رولان بارت، في كتاب "لذة النص" فإن "نص اللذة هو النص الذي يُرضي، فيملأ، فيهب الغبطة. هو النص الذي ينحدر من الثقافة؛ فلا يُحدث قطيعة معها، ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة، وأما نص المتعة فهو الذي يجعل من الضياع حالة، وهو الذي يحيل الراحة رهقاً، ولعله يكون مبعثاً لنوع من الملل، فينسف بذلك الأسس التاريخية، والثقافية، والنفسية للقارئ نسفاً. ثم يأتي إلى قوة أذواقه، وقيمه، وذكرياته، فيجعلها هباء منثوراً. وإنه ليظل به كذلك، حتى تصبح علاقته باللغة أزمة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين