يندرج المقال في ملف عن السحر أعدته وأشرفت عليه أحلام الطاهر
لا نعثر على تاريخ مفصّل لحياة أحمد بن علي البوني سوى تاريخ وفاته (622 ه/1225م)، ولم تقدّم الطبعات الرسمية لكتبه أو كتب الأنساب معلومات عنه، فسيرة الرّجل يكتنفها الكثير من الغموض.
وتعود كنيته إلى مدينة "بونة" بالجزائر وهي "عنّابة" حاليّاً. وينسب العديد من المتصوّفة والفقهاء ورجال الصوفيّة إلى هذه المدينة. حتّى أن البعض خلط بين البوني صاحب "شمس المعارف" وبونيّ آخر، وهو صاحب "تفسير الموطّأ " للإمام مالك. ويتمّ ضمّ الباء في نطق نسبته، على عكس بقيّة المكنّين بهذه الكنية (فتح الباء وإسكان الواو).
غياب المعلومات عن الرّجل، على الرغم من شهرة كتابه، أمر يدعو إلى التساؤل من وجهة نظر تاريخيّة. فهل غيَّب النسّابون ذكر اسمه، أم أنّ حياته كانت فعلاً على درجة كبيرة من الغموض والعزلة؟ فقد عرف غيره من العاملين بالتنجيم وحساب الجمّل والخيمياء والفلك، أو من كانت لهم محاولات في طرق باب السّحر والتنجيم. وذكر ابن خلدون بعضهم، في باب حديثه عن الكهانة والزايرجة والعرافة وغيرها من المادّة السحريّة، الذين ينتسبون إلى بلاد المغرب والأندلس وإفريقيّة. ومن أشهرهم أبو العباس السّبتيّ، إذ تنسب هذه الزايرجة لأهل الرّياضة، وفي الغالب للسّبتيّ.
اشتهر البوني بكتابه "شمس المعارف الكبرى ولطائف العوارف" أكثر من شهرته بكتابه الثاني "اللّمعة النورانيّة"، وهو كتاب صوفيّ روحانيّ ذو مسحة سحريّة، يتوفّر في الغالب على أنواع من الأدعية والأذكار التي تحصّن الفرد وتحميه، فكأنّه تتمّة لكتاب "شمس المعارف" أو فرع له. وتوفّي البوني بالقاهرة، ولم تورد المصادر وصفاً دقيقاً لحياته أو كيف كان انتقاله من المغرب إلى المشرق. فهل غفل النسّابون عن ذكر سيرته أم أنّه غيّبوها عمداً؟ وهل يعود ذلك إلى الموقف الشرعيّ من السّحر؟ خاصّة وأنّ أغلب الفقهاء ورجال الدّين، اتّخذوا موقف سلبيّاً منه، حتّى أنّ البعض اعتبروا جميع الكتب السحريّة الموجودة حديثاً، قد انبثقت من كتابه، يقول الشيخ محمّد بن شمس الدّين: "أظنّ أن كلّ السحرة اليوم تربّوا على كتابه".
نسخة صحيحةٌ أم محرّفة؟
تعود الطبعة المشهورة والمتداولة بين الناس الآن إلى طبعة المكتبة الشعبيّة ببيروت (1986)، وهي النسخة المطابقة لما طبع في مصر والهند. وتتوفّر هذه النسخة على تنويه مفاده أنّ "هذا الكتاب طبع مراراً نظرا لشدّة الناس إليه".
ولاحظ بعض الباحثين المختصّين، على غرار كونستان هاميس في بحث بعنوان "إشكالية السحر في الإسلام ووجهات النظر الإفريقية" (2008)، أن المخطوطات القديمة الأولى لهذا الكتاب، ومنها ما هو موجود بالمكتبة الوطنيّة الفرنسيّة، يضمّ ما بين 108 و 143 ملفّاً، في حين أن المطبوعات الحديثة نسبيّاً -أي من القرن السادس عشر- تحتوي ما بين 348 و483 ملفّاً، وبناء عليه يوجد اختلاف كبير في المحتوى، وفي المواد المعروضة. وهو أمر يدعونا إلى التساؤل إذا ما كانت النسخة التي بين أيدينا هي مجرّد جزء من المخطوط الأصليّ؟
تشير بعض الأخبار إلى أنّ النسخ الأصليّة من هذا الكتاب توجد في مكانين اثنين، أولاً في المكتبة البريطانيّة، وثانياً عند أمير عربيّ. وتبدو هذه الفكرة عرضيّة بالنّظر إلى طبيعة المقال، ولكنّ توفّر بعض المواد الطلسميّة في كتاب البوني الموجّهة إلى الملوك والحكّام، يمكّننا من تفسير ذلك. يقول: "اعلم أنّ هذا الشّكل الكافي والرّسم الوافي يدلّ على الأمراء والملوك والرّؤساء، ويعطي حامله ما في قوّته من العزّ والهيبة".
ورغم اشتغال بعض الأنثروبولوجيين المحدثين بموضوع السّحر والكهانة، - وقد أفرد بعضهم بحوثاً مطوّلة حول كتاب البوني- إلاّ أنهم لم يشيروا مطلقاً إلى هذه الفرضيّات، واكتفوا بالتأكيد على إمكانيّة تعرّض النسخة المتوفّرة بين أيدينا إلى النحل أو التزييف.
"من كتب على سبع لوزات بإبرة من نحاس أصفر يوم الجمعة ساعة [كوكب] الزهرة وقرأ الاسم عدده على اللّوز وأطعمه لمن يريده أحبّه حبّاً جمّاً"... ملف السحر
كتاب "مرعب" بشهادة صاحبه
يقول البوني في مقدّمة تعريفه بكتابه: "حرامٌ من وقع كتابي هذا في يده أن يبديه لغير أهله، أو يبوحَ به في غير محلّه، فإنّه مهما فعل ذلك أحرمه اللّه تعالى منافعه ومنعت عنه فوائده أو بركته". وبهذا يستحيل الكتاب خطراً لا يجب أن يوضع بين أيدي العامّة، فهو مقصور على "العارفين والعاملين لله والأولياء والصّالحين"، على ما يقرّر البوني في مواضع كثيرة من الكتاب. ولعلّ إعمال الكتاب في غير محلّه، وهو كسب الخير والثواب ونفع الناس به، يحول دون كنه أسراره الداخليّة. وكأنّ البوني بهذه الإشارات، يستحضر السّلطة الدينية (الفقهاء والمحدّثين) ويتحصّن بهذه الدّعوة للخروج من دائرة النقد السلبي.
وبالنّظر إلى انتشار استعمال الكتاب في الإسلام الشعبي، بطرق مختلفة، ترتبط به ارتباطاً جوهرياً، إذا ما نظرنا في الممارسات العامّة، نستطيع أن نؤكد التأثير الذي بلغه كتاب "شمس المعارف" ودوره في المواد السّحريّة المنتشرة.
أسباب وضع الكتاب
"و إنّي لمّا رأيت كلام الأحياء ممّن علت كلمتهم ( ...) قد ألّفوا بالتعريف في الأسماء والصّفات وأسرار الحروف والأذكار والدّعوات ،وقد رغب إليّ من تعلّق بي ودّه في توضيح ما ألفوه وذخيرة ما كنزوه ، فأجبته من الإقرار بالعجز عن فهم مدارك السّلف الماضيين والأئمّة المحقّقين الهادين، ورجوت من اللّه بذل الاعتراف والاقتراف...". من مقدّمة شمس المعارف .
يظهر ممّا تقدّم أنّ إقدام البوني على تأليف الكتاب كان مردّه استشكال الناس فهم طبيعة المؤلّفات القديمة في هذا الباب، وتحديداً علم الحروف أو الخيمياء. من هذا المنطلق، يمثّل كتاب "شمس المعارف" تأصيلاً لجملة تلك العلوم وشرحاً لها، وتتأكّد وجاهة هذا الرّأي إذا ما أمعنّا النظّر في الجانب التطبيقيّ - الإجرائيّ لكتاب البوني. فالكتب التي تناولت هذه المباحث أو اختصّت بها قبله يمكن أن ندرجها في باب "النظريّات". ومع كتابه هذا نصل إلى تأصيل حقيقيّ لظاهرة "السّحر الإسلامي". أمّا الهدف الذي يبديه البوني من خلال تأليفه لكتابه فيمكن تلخيصه في معرفة أسرار الأشياء وبواطنها انطلاقاً من أصل قرآنيّ أو دينيّ بشكل عام. يقول: "إنّ المقصود من فصول هذا الكتاب العلم بشرف أسماء الله تعالى، وما أودع الله تعالى في بحرها من أنواع الجواهر الحكميّات واللطائف الإلهيّات وكيف التصرّف بأسماء الدّعوات وما تابعها من حروف السّور والآيات".
من هنا، تختلط المسحة الروحانيّة والصوفيّة والسحريّة في أهداف الكتاب. إنّ الأمر يتجاوز مجرّد التقّرب إلى اللّه أو البحث عن السعادة الفرديّة أو الجماعيّة من خلال أذكار أو أدعية أو اقتصار على ذكر أسماء الله الحسنى، إلى توليفة خاصّة مع مواد ذات طبيعة مادّية، تتحوّل معها تلك الأدعية إلى وصفات سحريّة دقيقة.
رؤية باطنية صوفية
نظرة البوني إلى الإنسان والعالم تنطلق من رؤية باطنيّة-صوفيّة، فالعالم المحسوس ليس صورة حقيقيّة أو أوّليّة، وإنّما يضمر في طيّاته البعيدة المنال، أسراراً باطنيّة أخرى لا يمكن أن يصل إليها إلاّ أصحاب الدربة والعارفين. وهو ما يفسر اختياره لهذا العنوان بالتحديد. إنّه بمثابة العتبة الأولى لفكّ شيفرات البنية الذّهنيّة والنفسيّة التي تحرّك تفكيره.
وضع كتاب البوني أمام المشتغلين بالسّحر والعرافة والطلسمة كلّ الآليّات التي تمكّنهم من ممارسة هذه الطقوس، وهو ما جعل السّحر يأخذ تنويعات شتّى في الإسلام الشّعبيّ
يعتبر البوني أنّ العلم بمراتب النجوم والأفلاك وأسرار الحروف ومجرياتها على النفس الإنسانيّة هي من العلوم التي لا تتوفّر لعامّة الناس، فهي للصفوة المختارين، والمتّبعين للهداية الإلهيّة، الذين استطاعوا الوصول إلى الكشف الربّاني.
ويقع الإنسان بالنسبة للبوني، في نقطة التقاء تفاعليّة بين العرضيّات أو الأحداث التي يمرّ بها وحالات وعيه الخاصّة، وتعود هذه الرؤية إلى النظريّة الباطنيّة للصوفيّين والمنجّمين. وفي معرض حديثه عن "سلسلة مشائخه"، يذكر صاحب شمس المعارف أعلاماً كثراً، من بينهم ابن عربي وابن سيرين وداود بن ميمون الهريري والجنيد البغدادي والشيرازي، وغيرهم من الذين ارتبطت أسماؤهم بالحقول الصوفية أو الباطنية.
أقسام الكتاب و"شروط" تصفّحه و استعماله
يقسّم البوني كتابه إلى فصول موزّعة على أربعة أجزاء "ليدلّ كلّ فصل على ما اختاره وأحصاه من علوم دقيقة يتوصّل بها للحضرة الربّانيّة من غير تعب ولا إدراك مشقّة... وما يتوصّل منها إلى رغائب الدّنيا وما يرغب فيها". بناء على ذلك، ينزع تفكير البوني إلى إقامة توليفة مخصوصة بين ما هو دنيوي وربّاني، أي بين ما يرضي اللّه وما يرضي الإنسان. ويشير في موضع متقدّم من كتابه، أنّه اختار عنوان هذا الكتاب "المنتخب العديم المثل الرّفيع العلم... لما في ضمنه من لطائف التعريفات وعوارف التأثيرات". هذه التأثيرات التي تتجلّى أساساً في استحضار الجنّ أو الاسم الأعظم أو الملائكة المطهّرين أو في الاستخدام الدقيق والرياضيّ لبعض السّور والأسماء.
ويضع البوني شروطاً خاصّة لتصفّح كتابه مستخدماً أساليب النّهي والأمر والتأكيد. يمكن تلخيصها في نقاط أساسيّة وهي: الصدّق والتعفّف وبسط النيّة والنظافة أو الطهارة. فيجب "أن لا تمسّه إلاّ وأنت طاهرٌ، ولا تقرّ به إلاّ إذا كنت ذاكراً، لتفوز منه بما تريده، ولا تصرّفه إلاّ فيما يرضي اللّه تعالى... فإنّه كتاب الأولياء والصالحين والطائعين والمريدين والعاملين الرّاغبين. وكن به ظنيناً، ولا تدع منه قليلاً ولا كثيراً، وليكن يقينك صادقاً، وإيمانك واثقاً. إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئ ما نوى".
إقدام البوني على تأليف كتابه عن السحر كان مردّه استشكال الناس فهم طبيعة المؤلّفات القديمة في هذا الباب، وتحديداً علم الحروف أو الخيمياء. من هذا المنطلق، يمثّل كتاب "شمس المعارف" تأصيلاً لجملة تلك العلوم وشرحاً لها
ويلحّ البوني في مواضع كثيرة من كتابه، وخاصّة في أوائل الفصول وأثناء تقديمه لطقوس الطلسمات والوصفات السحريّة، بضرورة الحذر من تغيير مادّة أو وجهة، والحرص على اختيار الوقت المناسب، فكلّ ذلك وسائل تضمن نجاح العمليّة السحريّة. وهو ما يفسّر قوله " ولا تدع منه قليلاً ولا كثيراً".
أما عبارة "عقد النية" فتسري في الوسط السحريّ والعرافيّ الشعبيّ، باعتبارها محدّداً أساسيّاً لضمان عمليّة نجاح الطلسمات أو الوصفة السحريّة. ويمكن تفسير جذورها في كتب العرافة والسحر والكهانة وخطوط الرّمل على اختلاف مراتبها، وتأثيراتها في الإسلام الشعبيّ بشكل عامّ. يقول البوني مشدّداً على هذا المصطلح، أو ما يمكن وصفه بالحالة النفسيّة الضروريّة التي تمثّل مطلع الطقس السحريّ: "وإذا قامت لك نيّة في عمل من الأعمال فتؤمن به وتصدّق لقوله عليه الصّلاة والسّلام. لا يدعو أحدكم إلا وهو موقنٌ بالإجابة"، واقطع على عملك بالصحّة لقوله عليه الصّلاة والسّلام "إذا سأل أحدكم فليجزم.. فإنّه لا يكره وتيقّن الإجابة".
بناء على ذلك، يعتبر ركن الإيمان ضروريّاً في الطقس السحريّ، ويمكن تقسيمه إلى نوعين: داخليّ وخارجيّ. أما الداخليّ فيعود إلى الاستعداد النفسيّ لطالب الوصفة السحريّة، ويرجع الخارجيّ إلى الإيمان باللّه وبصدق تحقّق معجزاته. إنّ كتاب البوني لا ينفكّ يدور حول هذه الثنائيّة: التأصيل الإسلامي القرآني والسنيّ للمادّة السحريّة وخاصّة اللّغويّة منها، وكذلك، التحضير النفسيّ والاستعداد للتواصل مع قوى غيبيّة- غير مرئيّة عبر وسائط لغويّة أو حسّية.
ويشتمل كتابه أو ما يسميّه - بالقانون القويم - على أربعين فصلاً، " كلّ فصل يشتمل على معان وإشارات ورموز خفيّات وظاهرات، فتدبّره بعقلكَ وتأمّله بفكركَ". ويمكن تلخيص هذه الفصول بالنّظر إلى المادّة التي تتوفّر عليها إلى: فصول ذات مواد فلكيّة ورياضيّة وفصول ذات مواد لغويّة (علم الحروف)، وأخرى ذات مواد قرآنيّة (أو إسلاميّة ) وأخرى ذات مواد طلسميّة وسحريّة غير مفهومة. وتتفاعل كلّ هذه الفصول مع مواد أخرى ذات مرجعيّة طبيعيّة أو تطببيّة أو نباتيّة أو هندسيّة، أو مع وسائط روحانيّة غيبيّة وغير محسوسة.
البوني و"أسلمة" السّحر
إنّ التدقيق في الخليط السّحريّ أو الوصفة السّحريّة للبوني، يتجاوز المكوّنات البربريّة أو المغربيّة، بل هو في تواصل مع عناصر هلنستيّة ومكوّنات إيرانيّة وعراقيّة قديمة. "فإذا ما دقّقنا النّظر في الكيفيّة التي تصنع بها التعويذات وتفاصيلها، نلاحظ أنّ المنطق السّحريّ والمواد المستخدمة لا علاقة لهما بالإسلام".
إنّ هذا البراديغم السّحري قدّ بشكل دقيق، وهو في تطوّر مستمرّ، وقد استوعب جميع العناصر المختلفة لثقافات متنوّعة، ليتجلّى كماله في كتاب شمس المعارف.
يشير ابن خلدون في كتاب العبر ( 1983) إلى انتشار ظاهرة السحر والشعوذة والزايرجة في العالم الإسلامي، وذكر في معرض حديثه عن هذه الظواهر جابر بن حيّان، كما أشار إلى أحد أهمّ الأعلام المعروفين بمنطقة المغرب الذي أخذ عنه أغلب من امتهن هذه الظواهر، وهو أبو العبّاس بن البنّاء، ويذكر في موضع آخر أنّ المسعودي صاحب "مروج الذّهب"، فصّل القول أيضاً في هذه الظواهر.
ومن أهمّ الكتب المتّصلة بهذه المباحث، كتاب نسب للمجريتي بعنوان غاية الحكيم (2007). ترجم إلى القسطليّة وبعدها إلى اللاّتينيّة تحت عنوان " Picatrix". ويشير الباحث الأنثروبولوجي الفرنسي بيار لوري Pierre Lory في مقاله "السحر والدين في مؤلف محي الدين البوني" (1986) إلى أن "هذه الاهتمامات الفلكيّة والسحريّة في العالم الإسلامي في القرن الخامس، سواء كانت في البصرة أو قرطبة، نمت بعيدة عن مجتمع إفريقيّة. ولكن من المؤكد أن هذه العناصر السحريّة انتقلت إلى المغرب، بشكل أو بآخر. فرسائل إخوان الصّفا مثلاً جلبها طبيبٌ أندلسيّ زار الشرق للتبحّر في العلم، وهو أبو الحكم الكرماني القرطبي، أمّا منتسبو هذه الجماعة فقد كانوا على درجة من الغموض، واستعملوا أدوات جديدة يعتمل فيها الفلسفي والدّيني والسحري- الطلسمي. ويتمثّل مذهبهم "في النظر في جميع الموجودات بأسرها، ظاهرها وباطنها، جليّها وخفيّها، بعين الحقيقة من حيث هي كلّها من مبدأ واحد، وعلّة واحدة ونفس واحدة محيطة جواهرها المختلفة و جزئيّاتها المتغيّرة"، مقدّمة إخوان الصّفا.
ويؤثر عليهم قولهم: "إنّ الأمور الطبيعيّة أكثرها جعلها الباري جلّ ثناؤه، مربّعات مثل الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرّطوبة واليبوسة، ومثل الأركان الأربعة التي هي النّار والهواء والماء والتراب "... إلى غير ذلك من الجهات والأزمان والأخلاط والمكوّنات الأربع: المعادن، النباتات، الحيوان والإنس.
العناصر الكهنيّة التي كانت في الشرق، أضيفت إليها عناصر بربريّة حين انتقلت مع العرب الفاتحين إلى شمال إفريقيّة وشبه جزيرة إيبيريا، يقول توفيق فهد في كتابه الكهانة العربيّة قبل الإسلام: "دخلت جرعة كبيرة من السّحر والرّقَى إلى داخل الكهانة الإسلاميّة في المغرب، حيث كان الفنّ الكهانيّ، الذي يتمتّع بحظوة كبيرة، هو قراءة خطوط الرّمل، والذي ازدهر داخل سائر إفريقيّة الإسلاميّة". نعثر في كتاب البوني على فصل مستقلّ بعنوان "فصل رسالة ميزان العدل في مقاصد أحكام الرّمل"، وهو ما يؤكّد فرضيّة انتشار هذه الظاهرة في مجتمع إفريقيّة.
لم تستطع الجغرافيا الإفريقيّة التخلّص من الإرث الكهني البربري والأندلسي، بل طوّعته لصالح ممارسة سحريّة وطقسيّة تخضع لضوابط شرعيّة دينيّة. فالمواد المستعملة في رسائل إخوان الصّفا (1928) أو في كتاب غاية الحكيم (2007) على سبيل المثال، نجد صداها في كتاب البوني، وتبرز إضافاته الحقيقيّة في إعطاء العمليّة السّحريّة طابعاً قدسيّاً عبر وسائط لغويّة إسلاميّة صرفة. لذلك يغلب على الكتاب الطابع التفسيريّ، وهي عمليّة ضروريّة لتكثيف المادّة السحريّة.
الحروف والأوقات
يبرز دور علمي الحروف والأوقات في كتاب البوني بشكل جلّي، ولا يمكن الحديث عن مادّة سحريّة دون هذين "العلمين". فعلم الخيمياء (أو الجبر أو الجفر أو علم الحساب أو حساب الجمّل)، من الأمور المنتشرة في العالم الإسلاميّ، و لفكرة السببيّة موضع خاصّ في هذه العلوم، بل لعلّ البحث في علاقة الإنسان بالعالم، و في سبب وجوده من قبل مفكّري القرن الخامس، قد أدخل علم الفلك والجبر والحساب وعلم الحروف في هذه المعادلة، إذ نزعوا إلى تجسيد الإنسان و تفسير أسباب وجوده، من خلال رسوم وطلاسم شبه علميّة بما أنّها قدّت بواسطة الحساب والمنطق والهندسة والحسابات الفلكيّة. لذلك يطلق بيار لوري على كتاب شمس المعارف "موسوعة العلوم الغامضة ".
ويظهر هذا خاصّة في كتاب البوني، من خلال الطلسمات والتعويذات الخاصّة بجلب الحبيب والرزق أو التفريق والقطع بين الأشخاص. إذ عوّضت الكتابة الصّورة، بأشكال رياضيّة (مربّعات، مثلّثات، دوائر) وبأرقام إسلاميّة، وأصبحت لأسماء اللّه الحسنى وأسماء النبيّ، مكانة هامّة في الطلسمة البونيّة، توضع في شكل قلم أو جدول. وتم تدريجيّاً استبعاد الصّورة الحيوانيّة والبشريّة أو النباتيّة من سحر الكتابة الإسلاميّة، وأخذ القرآن والحديث والأدعية الحديث مكان الصور القديمة. إنّه تأصيل للسّحر من خلال المعجم الإسلاميّ بأدواته المختلفة. هذه الوصفات حوّلت القرآن من نصّ طقسيّ تعبّديّ، إلى آخر طلسميّ- سحريّ فعّال.
ويشكّل احترام الأوقات حسب التوقيت الإسلامي مبدأ هامّاً في الطقس السّحريّ، وهو ما يسمح للمنجّم بفحص جيّد للطالب، وعليه أن يأخذ حالته النفسيّة بعين الاعتبار (اليأس، الغضب..)، وهذا ما يمكّنه من أخذ القرار الصائب. وتتجاوز أحياناً العمليّة السحريّة كلّ ما له علاقة بعلم الحروف أو الأوقات إلى ما هو سحريّ صرف (العقدة وفكّها + تحويل الألم الإنساني إلى حيوان أو جثّة)، أي بواسطة الاستعانة بقوى غيبيّة كالجنّ أو الملائكة. وبشكل عام تؤثّر هذه القوى الغيبيّة في الطّقس السحريّ عند البوني بطريقتين: يمكن أن نطلق على الأولى "التعاطف" والثانية "التفاعل المباشر". ويتطلب هذا الطّقس الخاصّ رياضة معيّنة ودربة خاصّة واحتراماً دقيقاً للمواقيت، وإلاّ فإنّه سيكون محكوماً بالفشل أو "برجوع اللّعنة ".
يشكّل المعجم الإسلاميّ المادّة الأوّليّة في كتاب "شمس المعارف"، وعمله ضروريّ في الطقس السحريّ، كاستخراج الجنّ من جسم مريض، وطلب الغنى والثراء من ملائكة قويّة، وإحباط العين.. ويتفاعل هذا المعجم مع مواد أخرى ذات طبيعة ماديّة- معدنيّة (خشب، نحاس، حديد...) أو نباتيّة (البخور، مسك، زعفران...). هذا التشكيل البصريّ أو الشفوي للمادّة السحريّة لا يحاكي الواقع وإنّما يقفز عليه، و يتجسّد هذا خاصّة من خلال استعمال "الاسم الأعظم" و"الحروف النورانيّة " (ألم، هعيكص...) وعددها 14، "وسواقط الفاتحة"... الخ.
مثال1: يركّز البوني في الفصل الخامس "أسرار البسملة وما لها من الخواصّ والبركات والخفيّات" على المكانة العليا للفاتحة كنصّ ملازم لجميع حركات المسلم، "فكلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمان الرّحيم، فهو أجذم". ويحاول من خلالها أن يستبطن معانيها العميقة، فقد تمّ تحميل البسملة أبعاداً روحانيّة من خلال تركيز خطوات ثابتة وقراءات مخصوصة (عدد المرّات تختلف باختلاف الطلب والموضع)، واستعمالات حذرة يمكن من خلالها أن يصل الإنسان إلى مبتغاه. من هنا تحوّلت الفاتحة أو البسملة إلى قوّة سحريّة.
مثال2: "فمن كتب على سبع لوزات بإبرة من نحاس أصفر يوم الجمعة ساعة [كوكب] الزهرة وقرأ الاسم عدده على اللّوز وأطعمه لمن يريده أحبّه حبّاً جمّاً".
إنّ الرؤية السحريّة للبوني لا تقتصر فقط على مجرّد آلية كونيّة، سواء كانت بسيطة أم معقّدة، بل يلعب الوعي والإرادة البشريّة دورين مهمّين في كشف العلميّة السّحريّة. وهذا كلّه مرتبط بإرادة خضوع كلّية للخالق، وتصديق مطلق لجميع الوسائل المعتمدة. فجميع الطقوس التي يقترحها البوني تحت رعاية اللّه، وأحياناً يستدعي الله بصورة غير مباشرة عبر النبيّ أو الملائكة أو الصحابة.
من هذا المنطلق، "لا يعتبر سحر البوني تطبيقاً هامشيّاً أو تحدّياً للشريعة أو إثباتاً لموقف، وإنّما هو ذوبان وتحلّل في أحضانها ورمزيّاتها.
ولا شكّ أن البوني أثّر في كتب السّحر التي ألّفت بعده، ومن أبرزها "نعت البدايات وتوصيف النّهايات" للشيخ ماء العينين القلقميّ، الذي يتوفّر كتابه على تشابه كبير مع كتاب البوني، حيث تبنّى بعض التعويذات والطّلسمات بشكل كلّي. وقد وضع كتاب البوني أمام المشتغلين بالسّحر والعرافة والطلسمة كلّ الآليّات التي تمكّنهم من ممارسة هذه الطقوس، وهو ما جعل السّحر يأخذ تنويعات شتّى في الإسلام الشّعبيّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...