شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ماضيك يبدو لك مستقبلاً... التَّماس بين الجن وعوالم الشعراء

ماضيك يبدو لك مستقبلاً... التَّماس بين الجن وعوالم الشعراء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 9 يونيو 202210:45 ص

يندرج المقال في ملف عن السحر أعدته وأشرفت عليه أحلام الطاهر

ذكر حسين البرغوثي في نص له بعنوان "قصص عن زمن وثنيّ"، حكاية لافظ بن لاحظ، كبير جن وادي عبقر الذي كان يُملي على امرئ القيس شعره. يحكي أن جماعة مرت بوادي عبقر، فخرج عليهم كائن له هيئة إنسان، دار حولهم وحدّق فيهم حتى تجمدوا خوفاً، وسألهم: من أشعر العرب؟ فلم يجيبوا. فقال: أشعرهم من قال: "وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بعينيك في أعشار قلب مقتل". فعرفوا أنه يقصد امرئ القيس، وسألوه: "من أنت؟". فقال:" أنا لافظ بن لاحظ، من كبار الجن. لولاي ما قال صاحبكم شعراً".

وقد ساد هذا الاعتقاد لدى العرب زمناً طويلاً، وظنوا بأن لكلّ شاعر شيطان يُمليه شعره، ويُسمّى الشاعر "عبقرياً" نسبة إلى هذا الوادي.

امرؤ القيس نايٌ في يدي

رأيت أفقاً أكثر مما رأيت جبيناً، بهذا بدأ القرشي حكايته عن لقائه بلافظ بن حافظ، كبير الجن. ثم تابع: ولوهلة رأيت عينين شاسعتين كالصحراء والبحر: من يقف فيهما لا يستره شيء، لا "صحرة" ولا "بحرة"، وفي شعره الأسود الأجعد أعشاش حمام، أو بقع ربيعية فيها غزلان وأسراب من بقر الوحش.

وسألني كمن يتكلم مع نفسه: "يا قرشي الحسب، من أشعر العرب؟"

"امرؤ القيس ولافظ"، أجبتُ بخوف. فغضب لأني ذكرت اسم امرؤ القيس قبل اسمه، وأخذ يغني: "امرؤ القيس ناي في يدي، وعليه أعزف ما بي كيف يعرف ما به، ثم يجهل ما بي؟" ثم دار حديث بينهما، فسأله قرشي عن معنى قوله "الأحرف نساء عرايا".

فأجاب لافظ: "إن كان امرئ القيس من أوحى إلى نفسه بمعلقته، سله عن معنى هذا؟ وإن عجز عن الجواب، قل له: عندما يسأل كبير الجن، قف جانباً يا كبير الشعر وتعلّم الإصغاء". وابتعد وهو يغني: "امرؤ القيس ناي في يدي، وعليه أعزف ما بي كيف يعرف ما به ثم يجهل ما بي؟".

أول مرة أمسكت فيها ديواني مطبوعاً وقرأته كنت أشعر بالرهبة، لم أقل أبداً: "أنا"، كدلالة على من قام بكتابته، فلم أكن على ثقة من أنني "أنا" من فعل ذلك. كنت أقول "هم"، وتحديداً "هو". من هو؟ لا أعرف

العبور إلى العالم الآخر

وقد استوقفني كثيراً قول لاحظ بأن امرئ القيس لا يعرف المعاني في شعره الذي كتبه، لأنه في الحقيقة ليس هو من كتبه فعلاً، ثم أسقطتُ ذلك على رحلتي الطويلة مع الشعر، وعن اندهاشي بعد كتابة القصائد، وقراءتها مراراً لاكتشاف معان جديدة وتنبؤات، وشهقتي كل حين بعد القراءة وأنا أقول: ما معنى هذا؟ كيف كتبتُ هذا؟ كيف عرفت؟ كيف خطر ببالي؟

فأيام كتابتي للشعر، كانت القصائد امتداداً لأحلامي، يتخللها بعض الوعي والصحو، كأن تحلم حلماً وفي منتصفه تدرك بأنك داخل حلم، لكنك تُكمله على كل حال، لأنك مستمتع به، أو لأنك لا ترغب بأن تصحو ببساطة. لذلك كتبت كثيراً عن عوالم الشعر، فهي لا تشبه عوالم الأحلام تماماً، لكنها مزيج من الحلم والصحو، منطقة ما في المنتصف، حلقة عبور، كوكب يقع في منتصف الأزمنة، والعوالم.

وبغض النظر عن زياراتي العديدة، لعوالم أخرى، إلا أن هذه الزيارات كانت أكثر ألماً، لأنها تتم أثناء اليقظة، فأنت صاحٍ، لكن ليس تماماً، تتخطفك عوالم بعيدة، تريك أشياء وتلقنك القصائد. وكنت أعود كل مرة بقصيدة لا أعرف كيف كتبتُها، ولا من أين أتت. ثم أنام لساعات، غير قادرة على تحريك جسدي، وكأنني عدت تواً من رحلة شاقة. وأظل أياماً لا أستطيع أن أعيد قراءة ما كتبتُ، لأن كل قراءة كانت تصعق روحي. حتى أنني كنت أبحث عن مكان آمن أخبئ فيه قصائدي، لأني كنت أشعر بأنني سأموت في أية لحظة، أو أنني ذات يوم لن أعود من هناك. وكان نشري للقصائد مجرد محاولة لإنقاذها، لأنني إن متّ ستتعرض للتلف، فكنت أنشرها على الإنترنت، وأرسلها لأصدقاء أثق بهم.

"هو" من كتب ديواني

كتبتُ أول فصل من ديواني "العهد الجديد كليّاً" في جلسة واحدة، في ليلة واحدة. ولم أستطع أن أُعيد قراءته حتى بعد ذلك بسنوات. أرسلته إلى إحدى صديقاتي وائتمنتها عليه: إذا لم أستطع أن أخرجه للنور، إذا مت أو جننت قبل أن أتمكن من ذلك، فيجب أن تنشريه. ولسنوات ظل العهد مُخبئاً، كملف أرسلتُه لنفسي على الإيميل، وتجنبت فتحه مجدداً. حتى مرّرته ذات صباح للناشر، وقلت: "افعل به ما تريد". ولم أستطع قراءته أو مراجعته، إلاّ عندما نُشر وبدأ الناس يصورونه ويقتبسون منه بعض المقاطع، وجدتني مضطرة لقراءة اقتباساتهم.

أول مرة أمسكت فيها العهد مطبوعاً وقرأته كنت أشعر بالرهبة، لم أقل أبداً: "أنا"، كدلالة على من قام بكتابته، فلم أكن على ثقة من أنني "أنا" من فعل ذلك. كنت أقول "هم"، وتحديداً "هو". من هو؟ لا أعرف، شخص ما، رجل عجوزٌ كُنتُه في حياة سابقة. وكنت شديدة الإيمان بذلك، لكنني لا أتمكن في الوقت ذاته من أبوح به للناس، كي لا أُتّهم بالجنون أو الكذب.

كنت أستقبل الإطراء على الديوان بابتسامة، غير أني في داخلي كنت أخاف منه "هو"، من أن يظن أني أتلقى الفضل عوضاً عنه. لأنه بلا جسد، بلا كيان ملموس، غير موجود في كوننا هذا، ولا يعرفه سواي، وربما مات قبل أن يقول كل ما أراد قوله، لذلك ظل لوقت طويل يتلبسني كي أنقل كلامه.
عوالم الشعر لا تشبه عوالم الأحلام، هي مزيج من الحلم والصحو، منطقة ما في المنتصف، حلقة عبور، كوكب يقع في منتصف الأزمنة، والعوالم...

أكتب تحت البطانية بوضعية الجنين

أثناء كتابتي للعهد، كنت أذهب في رحلة. شوارع أعرفها جيداً، طرق وبيوت وبحر بدا مألوفاً، وفي داخلي يقين بأن هذه كانت حياتي السابقة. وعندما أقترب من مغارة تحت الأرض، بالقرب من البحر، تزداد دقات قلبي، ثم أهبط الدرج. حينها أكون مجرد صبي صغير. ثم أراه يجلس على رخام حجري يشبه الحمامات القديمة، ولا أستطيع أن أقـترب كثيراً، لأن طاقـته أكبر من أن أتحملها، لكني أخطو نحوه بضع خطوات، فيحدث ما يشبه المس، وتندمج روحي بروحه، وأكونه أو يكونني. نكون واحداً.

كنت أعود كل مرة بقصيدة لا أعرف كيف كتبتُها، ولا من أين أتت. ثم أنام لساعات، غير قادرة على تحريك جسدي، وكأنني عدت تواً من رحلة شاقة. وأظل أياماً لا أستطيع أن أعيد قراءة ما كتبتُ، لأن كل قراءة كانت تصعق روحي
عندما ألتقيه أكتب بلا توقف، وأكون غائبة عن الواقع تماماً. جسدي بارد وراجف، ويتعرق في الآن ذاته. ولا أستطيع سوى أن أخلع ملابسي كلها، فلا أقدر حينها على احتمال أية أردية، وأتدثر في نفس الوقت ببطانيات كثيرة، ثم أكتب على جهازي، على الهاتف غالباً، وأنا في وضعية تشبه وضعية الجنين.
أكتب دون توقف لساعات كثيرة، حتى ينتهي، ويذهب، وتدريجياً يغيب ذلك العالم، وكائنه، أو كائناته. ثم أعود للواقع، لكن من شدة تعبي، كنت أنام أحياناً لأيام، وبعدها أصحو، وأستعيد عافيتي تدريجياً. أمشي ببطء في الواقع، برهبة وتعب وخوف، بانتظار القصيدة/الإغماءة التالية.

كانت القصائد تختلف في شدتها، فإذا غبت كثيراً عن الواقع، وكانت رحلتي هناك قاسية ومريرة، كتبتُ عهداً، أما إذا كانت أقل قسوة، فإنني أكتب قصائد، وإذا لم يمسني منهم سوى القليل، فإنني أكتب تلك القصائد اليومية، التي أستمدها من عالمي الأصلي، ووقتها أستطيع أن أكتب في مقهى مثلاً، وتتعب روحي قليلاً، لكن ليس إلى حد أن أختبئ في المنزل تحت بطاطين كثيرة.

ظللت هكذا لسنوات، أجيء وأذهب، وقد كان ذلك يصيبني منذ الطفولة، ثم اشتدّ في مراهقتي، وطوال الوقت كنت أشعر بأنني أنهي شيئاً ما، ولا أعيش حياتي. ومع الوقت أحسست بأني على وشك أن أنتهي منه، وسأتفرغ أخيراً للواقع. فأنا لن أتمكن من العيش هنا حتى أنهي ما عليّ هناك، وربما لم أتمكن من إنهائه في حياة سابقة.

حياتي بدأت الآن

وقبل عامين تقريباً، عشت ثلاثة أيام كنت أشعر بأنها أيام التصفية، فنحن نصفّي ما بيننا، أصفي حسابي معهم، أو يصفون حساباتهم معي. وقتها خيروني بين أبقى هنا أو أن أظل هناك. لكنني اخترت أن أبقى هنا، وبكيت كثيراً، فأنا لا أحب الواقع، ومثل المدمن على المخدرات، جربت عوالم ولذات ورحلات من شدتها أصبح الواقع باهتاً، رديئاً وبلا لذة. لكنني اخترت على مضض، وبحزن شديد، أن أبقى هنا. فلم أعد أريد أن أنسحب كثيراً بعد الآن. أردت أن يتوقف تعبي، بالإضافة إلى أني شعرت بأني أنهيت ما عليّ.
وقتها بكيتُ لأيام طويلة، وعشت حداداً، بدأت بعده أنسى طرقاً وعوالم وذكريات وأتجذر في الواقع. تعمّقت علاقتي بالآخرين، ونما شيء من الانتماء بيني وبينهم. لم أعد أشعر بتلك الكائنات من حولي، واختفى ذلك الذي كنتُه، ذاب تقريباً، صار روحاً واندمج بالسماء. أشعر أن حياتي بدأت الآن، أحلم أن أصير ممثلة وأصنع أفلاماً، ولم أعد أكتبُ الشعر إلا قليلاً.

"ماضيك يبدو لك مستقبلاً"، قيلت على لسان كبير الجن لاحظ بن لافظ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image