شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"أقسَم أنه سيذلّني، وذلّني"... "معارك" الطلاق الطويلة في المحاكم الشرعية الأردنية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 28 مايو 202201:44 م

يقولون إن الصبر مفتاح الفرج، وإن أصحاب النفس "الطويل"، غالباً ما يقطفون ثمار صبرهم، إلا في حالات قضايا الطلاق في الأردن، فمفتاح الصبر غالباً ما يفتح باب الضرر للطرف الأضعف، والسبب واحد: طول أمد التقاضي.

وهذه القضايا في المحاكم الشرعية الأردنية تشبه المعركة، حسب وصف عدد من الحقوقيين الذين تحدث رصيف22 إليهم، لأنها عبارة عن نزاعات لا تنتهي بين طرفي القضية، أي الزوج والزوجة، وتشارك فيها أطراف أخرى تساهم في إطالة مدة القضية، منها أطراف مركزية مثل المحامين، ومنها من يؤدي دور "الكومبارس" في مسرحية حجج يقدّمها الزوج في أغلب الأحيان، بهدف أن تخرج الزوجة بعد أن ينطق القاضي بالحكم خافضةً الرأس ورافعةً علامة الهزيمة في انتزاع حقوقها الشرعية كمطلقة.

وتُعرف أروقة المحاكم الأردنية التي تنظر في قضايا الأسرة بكثرة العقد فيها، سواء تلك المتعلقة بالتشريعات والقوانين، أو بالسلوكيات الفردية وثقافة تأزيم القضايا، ومن هذه العقد "طول أمد التقاضي"، وهو أمر لا تصعب ملاحظته في أي جولة على هذه المحاكم.

قضايا الطلاق في المحاكم الشرعية الأردنية تشبه المعركة.

"دائماً هناك طرف خاسر"

على باب دائرة قاضي القضاة في الأردن، وهي العامود التشريعي للنظر في قضايا الأسرة، تقف سيدة ثلاثينية وهي ترفع يديها إلى السماء على وقع صوت أذان الظهر وتردد: "حسبي الله ونعم الوكيل فيه". تحدثت رانيا إلى رصيف22، مفضّلةً عدم ذكر اسم عائلتها، وعرضت جزءاً من تجربتها في قضية الشقاق والنزاع مع زوجها السابق. "أنتظر مثول شاهد أصرّ طليقي على أن يحضر جلسات قضيتنا، وبسبب تأجيله المثول أكثر من ثلاث مرات، أنا مهددة برفدي من العمل، وتالياً أولادي مهددون بالجوع".

وأضافت: "ذلك الشاهد الذي لا أعرف عنه شيئاً، بالرغم من أن طليقي يدّعي أنه شاهد أساسي على أنني لم أكن زوجةً صالحةً، هو إحدى أكاذيب زوجي منذ أن رفعت عليه قضية الطلاق قبل أكثر من عام ونصف العام. أنا أعلم أنه كاذب وهدفه أن أستسلم وأتنازل عن حقوقي المادية، وكأنه لم يكفِه أنني كنت أسمح له بأن يضربني أمام أطفالي، وأن يخونني وأنا بجانبه. تنازلت سابقاً عن كرامتي، والآن لأنني أريد الطلاق يريد مني التنازل عن النفقة والمؤخّر".

إلى جانبها وقفت محاميتها التي فضّلت عدم الكشف عن اسمها، وأوضحت لرصيف22، بعض حيثيات القضية: "للأسف طول أمد التقاضي في قضايا الطلاق يُعدّ بمثابة الموضة، فمن النادر أو شبه المستحيل أن تنتهي هذه القضايا بسلاسة ومن دون تضييقات تضعها المحكمة أو أحد أطراف النزاع. دائماً هناك طرف خاسر".

ماذا تعنين بالتضييقات؟ سألنا المحامية وأجابت: "أقصد البيروقراطية في سير عمل قضايا الطلاق. للإنصاف الجانب التشريعي في هذا السياق سلس ويعطي كل ذي حق حقه، لكن عدم اتخاذ المحكمة موقفاً صارماً إزاء مسلسلات التأجيلات التي يطلبها أحد أطراف النزاع، يساعد في استمرار طول أمد التقاضي وتالياً خسارة أحد الأطراف حقوقه التي يكفلها القانون".

أذكر عذراً ادّعى فيه الخطيب أنه ينتظر انتهاء امتحانات الثانوية العامة لأخيه لحضور الجلسة، ولنا أن نتخيل كيف يؤثر ذلك على نفسية الفتيات وحقهن في العيش براحة، فكثيرات يُحرمن من التعرف إلى شبان آخرين، لأنهن ‘معلقات’ ينتظرن رحمة إكمال جلسات قضايا الطلاق

وختمت: "على المحكمة أيضاً أن تتعامل مع طلبات تأجيل الجلسات بطرق أكثر حزماً، وأن تشترط أن يعرض محامو أطراف القضية كافة مستنداتهم وشهودهم خلال جلسات معدودة وفي فترات قصيرة".

وفي أحدث أرقام عدد حالات الطلاق في الأردن، وفق تقرير دائرة الإحصاءات العامة، سجل الأردن 47 حالة طلاق يومياً في العام 2020، فيما بلغ إجمالي عدد حالات الطلاق طوال العام نفسه 17،144 حالةً.

"عشان تعيش حرة"

في مدخل دائرة قاضي القضاة، صادف رصيف22، فتاةً عمرها 21 عاماً وتُدعى زينب، وهي تخرج من "السرفيس" بصحبة والدتها، وتحدث معهما قبل دخولهما إلى الجلسة بعشر دقائق. أشارت الأم إلى أنهما تقطنان في منطقة "الجوف"، وهي بعيدة جداً عن مكان وجود دائرة قاضي القضاة، وهما على هذا المنوال (أي المشوار)، منذ أكثر من عام.

"لماذا كل هذا؟ عشان بنتي تتحرر من خطيبها السابق. كان مكتوب كتابها على شخص بقيت معه شهرين، والله بس شهرين، وإلنا سنة رايحين جايين على المحكمة عشان تطلق وتعيش حرة. كل جلسة خطيبها ومحاميه بطلعوا حجة، مرة مسافر، مرة أمه بالمستشفى، مرة سيارته خربت بالطريق، وغيره من قصص كلها كذب"، وأشارت إلى أن زينب منذ أن رفعت قضية الطلاق أعادت إلى خطيبها "الشبكة"، أي الذهب ومصاريف حفلة الخطبة، وكل ما تنتظره من المحكمة أن تستبدل كلمة "متزوجة" في سجلها المدني بـ"مطلقة".

"أقسم لي أنه سيذلني، وذلّني"، قاطعت زينب الحديث وأضافت: "لأنه ما كان بده نفسخ الخطوبة، حلف إنه رح يذلني لحتى أتطلق منه، وإنه ما رح يسمح لي أن أكون لشخص غيره". وختمت: "إذا هو مفكر إنه رح يظلمني ويطوّل في قضيتنا معلش، في الله هو الي رح ينصفني".

المشكلة في الممارسات

في حديث إلى رصيف22، يبين المحامي الشرعي والخبير الحقوقي، عاكف المعايطة، أن الطرف الذي غالباً ما يسبب إطالة قضايا الطلاق، التي قد يصل أمدها إلى ثلاث سنوات أو أربع، هو الزوج، حتى يصل إلى مرحلة تيأس فيها الزوجة وتقول له الجملة المعروفة في هذا النوع من القضايا: "أنا مسامحيتك من كل حقوقي المهم طلّقني".

عدم اتخاذ المحكمة موقفاً صارماً إزاء مسلسلات التأجيلات يساعد في استمرار طول أمد التقاضي.

ويحدث هذا الاستسلام وفق المعايطة، بعد إستراتيجية يضعها محامو أطراف النزاع: الزوج والزوجة، خصوصاً إذا لمس محامي الزوج بأن الزوجة مضطرة إلى إنهاء قضيتها بسرعة، فتصل إلى أن تطلب بلسانها التفاوض مع محامي زوجها من أجل التنازل عن حقوقها.

"الضحية في قضايا الطلاق دائماً هي الزوجة"، يقول المعايطة، مشيراً إلى أن أمد التقاضي في هذه القضايا التي يُفترض أن تنتهي في وضعها الطبيعي بعد شهرين، قد يصل، بسبب "مطمطة" الزوج، إلى سنتين.

وعن قصص حديثة واجهها في هذا الخصوص، ذكر المحامي قضيةً سمحت فيها المحكمة لطرفي النزاع بتسمية شهود، فطلب الزوج عشرةً، وأضاف المتحدث: "تخيّلي عشرة شهود، وكل جلسة يستمع القاضي لواحد منهم، وقد يتغيب عن الحضور ما يضطر إلى تراكم التأجيلات، مع العلم أن أغلب التأجيلات التي تحدث في قضايا الطلاق ليست مقنعةً".

كما أشار إلى أن معاناة الخاطبين مضاعفة في قضايا الطلاق، فالخطبة التي تستمر لبضعة أشهر وفيها كتب كتاب، قد يعقبها انتظار أعوام للطلاق، والأسباب ذاتها المتعلقة بالحجج الواهية التي قد يقدّمها أحد الطرفين مثل: مسافر، ولا أملك الوقت الكافي لحضور الجلسات. "أذكر عذراً ادّعى فيه الخطيب أنه ينتظر انتهاء امتحانات الثانوية العامة لأخيه لحضور الجلسة، ولنا أن نتخيل كيف يؤثر ذلك على نفسية الفتيات وحقهن في العيش براحة، فكثيرات يُحرمن من التعرف إلى شبان آخرين، لأنهن ‘معلقات’ ينتظرن رحمة إكمال جلسات قضايا الطلاق والنطق بالحكم".

للأسف طول أمد التقاضي في قضايا الطلاق يُعدّ بمثابة الموضة، فمن النادر أو شبه المستحيل أن تنتهي هذه القضايا بسلاسة ومن دون تضييقات تضعها المحكمة أو أحد أطراف النزاع. دائماً هناك طرف خاسر

ويرى المعايطة أن الحل على طاولة القاضي، ويوضح: "يجب أن يفرض القاضي على أطراف قضايا الطلاق ألا يكون التأجيل أكثر من أسبوع، وهو يملك صلاحية ذلك، لكن أحياناً المحكمة نفسها تتعذر بسبب حجم العمل الكبير فيها، فيؤجل القاضي الجلسة لمدة لا تقل عن 25 يوماً". وأضاف: "ذات مرة، جادلت قاضياً حول عدم مبرر تأجيل قضية، وكان عذره بأنه يأمل بأن يكون هناك صلح بين طرفي النزاع".

ويختم بقوله: "هذه صور حقيقية وليست إنشاءً. يعزّ عليّ أن أرى فتاةً تجلس منذ الصباح الباكر على باب المحكمة تنتظر دورها لتمثيل نفسها أمام القاضي، لأنها لا تملك نقوداً لتوكيل محامٍ، وتقف في القاعة وعقلها مع أولادها وهي متعبة، وتخرج خالية الوفاض لأن الجلسة أُجّلت. المعضلة ليست في القوانين وإنما في الممارسات. يستطيع القاضي إذا لمس مماطلةً أن يحدد جلسةً كل يومين، ويجبر أطراف الدعوى على عدم التغيب".

ويطرح المستشار القانوني المحامي معاذ المومني، في أثناء حديثه إلى رصيف22، حلولاً تتمثل في تعديل قانون أصول المحاكمات الشرعية بما يضمن تحقيق المصلحة العامة لجميع الأطراف، أي الزوج والزوجة، بصرف النظر عن المشتكي والمشتكى عليه.

"تعديل القانون بما يساهم في ضبط الوقت الخاص بالبتّ في قضايا الطلاق هو مصلحة للطرفين، بالإضافة إلى أنه أيضاً مصلحة للإدارات القضائية في تيسير عملها في جميع القضايا التي يُنظر فيها داخل المحاكم الشرعية"، يضيف شارحاً.

إلنا سنة رايحين جايين على المحكمة عشان تطلق وتعيش حرة.

الابتعاد عن الإيذاء النفسي

وعن آثار كل ذلك على الزوجين، يتحدث الدكتور مفيد سرحان، وهو أخصائي أسري ويتعامل مع كثير من قضايا الطلاق: "إنهاء الحياة الزوجية يجب أن يتم بطريقة صحيحة تحفظ كرامة الزوجين، وتراعي حقوقهما وحقوق الأبناء، وأن تتم الإجراءات بقدر كبير من التسامح بين الطرفين والحرص على الآخر بعيداً عن روح الانتقام أو الإيذاء النفسي. من الضروري الابتعاد عن تعقيد الإجراءات وافتعال مشكلات ليست حقيقيةً أو الإساءة المعنوية إلى الآخر، أو حجز حريته".

وأضاف: "تعمّد أحد الطرفين إطالة مدة التقاضي ستكون له آثار سلبية على نفسية الطرفين والأبناء، وفيه ظلم وإجحاف، ولا بد من مراعاة الجوانب النفسية لأطراف النزاع، فالموازنة بين تحقيق الإنصاف والعدل والوقت معادلة مهمة، تجب مراعاتها من كلا الطرفين والمؤسسات القضائية".

ونوّه بدور المحامين في هذه المعادلة، وهو وفق وصفه "يجب أن يكون إيجابياً يراعي إحقاق العدل وليس فقط الانتصار للموكل بغض النظر عن الأثر الاجتماعي والنفسي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image