في كثير من دول العالم، يرى المتزوجون أن حصولهم على الطلاق سيكون بداية جديدة، وإغلاقاً لصفحة مهترئة استنزفت سنوات عديدة من أعمارهم، فيبدأون في رسم الخطط المستقبلية وهم يظنون أنهم وضعوا حداً لحياة شاقة أو غير متكافئة.
أما في مصر، فتضمن ترسانة القوانين المختلفة أن تواجه المرأة المطلقة سيلاً من الأزمات، التي تجعلها فريسة سهلة للكيد والانتقام إذا فكرت في المطالبة بحقوقها الشرعية في الكثير من الحالات، التي يرفض فيها الرجل إنهاء العلاقة الزوجية من دون التأكد من تدمير شريكته السابقة، مستغلاً تلك الثغرات القانونية التي تستنزف المرأة مادياً ومعنوياً، لتجد نفسها في دائرة مغلقة بين أروقة المحاكم لسنوات طويلة فقط من أجل التخلص من محاولات انتقام يقف وراءها مطلقها.
وتشهد ساحات المحاكم قضايا عديدة صدرت فيها أحكام ضد نساء، تبين لنفس المحاكم بعدها أنها كانت قضايا "كيدية" أي مرفوعة من قبل الشاكي بغرض الانتقام من المدعى عليها.
تلك الشهادات المدعومة بالأوراق الرسمية، تركزت فيها تحركات الرجال للضغط على زوجاتهم أو الانتقام منهن عند الطلاق، على استخدام "إيصالات أمانة" مزيفة أو جرى توقيعها تحت الضغط أو التهديد
بحسب شهادات حصل عليها رصيف22 من نساء قضين فترات من العقوبة بسبب من تلك القضايا، قبل أن تثبت براءتهن، أو استطعن إثبات براءتهن قبل أن يتعرضن للسجن. فقد تقدم أزواجهن السابقون بتلك الدعوات القضائية لابتزازهن بغية التنازل عن حقوقهن المادية بعد الطلاق، أو حتى التنازل عن حضانة أطفالهن.
تلك الشهادات المدعومة بالأوراق الرسمية، تركزت فيها تحركات الرجال للضغط على زوجاتهم أو الانتقام منهن عند الطلاق على استخدام "إيصالات أمانة" مزيفة أو جرى توقيعها تحت الضغط أو التهديد.
لم تحتج أسماء إلى خبرة في التحري والتقصي لتعرف من وراء تلك القضايا، ففي أثناء وجودها في قسم الشرطة لتسلم منقولاتها الزوجية، ظهر زوجها السابق (طليقها) ولوح بالأحكام الغيابية الصادرة ضدها كي يتم احتجازها فوراً لتنفيذ أحكام الحبس
وإيصال الأمانة، وفقاً لتعريف قانون العقوبات المصري، هو "محرر عرفي يضمن مستمسكات مالية لدى طرف لصالح طرف آخر، أودعها الطرف الأول لدى الطرف الثاني على سبيل الأمانة". ويضمن إيصال الأمانة للطرف الحاصل عليه مبالغ مالية لدى الطرف الآخر وأحياناً ما يحدد فيه تاريخ لرد "الأمانة". ويعاقب القانون في مادته 341 على "خيانة الأمانة"، أي الفشل في رد المبالغ الموقع عليها في الإيصال بالحبس لمدة تصل إلى ثلاث سنوات وغرامة 100 جنيه، إلى جانب رد المبالغ المستحقة في بعض الأحوال.
خطة مكررة
لا يحتاج الراغب في الابتزاز أو الانتقام إلا الاتفاق مع شخص لا تعرفه الزوجة، من أجل تحرير إيصالات أمانة مزورة باسم الزوجة للحصول على أحكام غيابة بحقها، ومن ثم تجد الزوجة نفسها وقد حٌكم عليها بعشرات الأحكام الغيابية حتى في محافظات لم تذهب إليها من قبل، وباسماء أشخاص لم تعرفهم في حياتها.
أسماء عبدالله* التي حصلت مؤخراً على حكم بالبراءة من قضية خيانة أمانة تقدمت بها سيدة لا تعرفها لصالح زوجها السابق: "فوجئت بصدور حكمين قضائيين غيابياً بحقي في قضايا إيصالات أمانة لسيدة لم أقابلها في حياتي".
لم تحتج أسماء إلى خبرة في التحري والتقصي لتعرف من وراء تلك القضايا، ففي أثناء وجودها في قسم الشرطة لتسلم منقولاتها الزوجية، ظهر زوجها السابق (طليقها) ولوح بالأحكام الغيابية الصادرة ضدها كي يتم احتجازها فوراً لتنفيذ أحكام الحبس، فعلمت من دبر لها المكيدة.
تقول أسماء: "عرفت لاحقاً أنه قام باستئجار سيدة من أصحاب السوابق الجنائية بالاتفاق مع محاميه، لتحرر ضدي بلاغات مشفوعة بإيصالات أمانة مزيفة عليها إمضاء باسمي وبصمة لا تخصني، وكان نتيجة ذلك صدور حكمين غيابياً ضدي، أحدها بالسجن خمس سنوات والآخر بالسجن ثلاث سنوات".
خطة زوجها أدت إلى احتجازها وابنتهما الصغيرة البالغة من العمر ثلاث سنوات في قسم الشرطة. تقول أسماء: لم يسحب أمر الضبط إلا بعد توقيعي على التنازل عن حقوقي المادية في النفقة ومؤخر الصداق
خطة زوجها أدت إلى احتجازها وابنتهما الصغيرة البالغة من العمر ثلاث سنوات في قسم الشرطة، حين ظهر في القسم ومعه أمر ضبط وإحضار موجه من النيابة العامة إلى مسؤولي قسم الشرطة، الذي ستتسلم زوجته منقولاته منه. ولم يشفع صراخ طفلتهما ورعبها في تراجعه عن مخططه. تواصل أسماء: "لم ينتهِ هذا اليوم إلا بسحبه أمر الضبط مقابل أن أوافق على التنازل عن حقوقي المادية في النفقة ومؤخر الصداق".
وبعد هذا اليوم، بدأت الأم الشابة رحلة إثبات البراءة والطعن بالتزوير على الإمضاء الموجود في إيصالي الأمانة المزورين، لتنتهي القضيتان بالبراءة ولكن بعد أشهر قضتها بين أروقة المحاكم بعدما أنفقت مصروفات كانت وطفلتها في أشد الحاجة إليها، في عملية التقاضي.
زوج نادرة لم يكتف بالتنكيل بها، بل عمد إلى التقدم بإيصالات أمانة تحمل توقيعاً مزوراً لوالدتها المسنة، وأقارب آخرين لها كانوا يساندونها في طلبها الطلاق
وبنفس الطريقة تكررت تلك المأساة مع نادرة عادل*، التي تحكي لرصيف22 كيف تفنن زوجها في الكيد، لطلبها الطلاق بسبب تكرار اعتدائه عليها بالضرب وإحداثه إصابات جسيمة بها، وتزعم نادرة أن الزوج اختطف رضيعتهما البالغة من العمر – وقتها- ثمانية أشهر، قبل أن يحرك ضدها قضايا خيانة أمانة مستنداً إلى إيصالات أمانة مزورة.
إلا أن زوج نادرة لم يكتف بالتنكيل بها، بل عمد إلى التقدم بإيصالات أمانة تحمل توقيعاً مزوراً لوالدتها المسنة، وأقارب آخرين لها كانوا يساندونها في طلبها الطلاق.
تقول نادرة عادل: "فوجئنا بإعلان لقضايا إيصالات أمانة غير مدفوعة باسم سيدة مجهول تماماً بالنسبة لنا تسكن في محافظة القليوبية، بينما نسكن نحن في الشرقية، وبالتالي فشلنا في الوصول إليها حتى اكتشفنا بعد ذلك أنها تعمل في مجال الدعارة وتحرير إيصالات الأمانة المزورة مع أحد المحامين، حتى أن محامي زوجي أرسل إلينا سيدة أخرى لتقوم بمساومتنا على التنازل عن هذه القضايا، مقابل التنازل عن جميع حقوقي المادية من النفقة ومؤخر الصداق".
حصلت نادرة ووالدتها على البراءة من الجلسة الثانية للقضية بعد الطعن بالتزوير على إيصالات الأمانة المحررة، في حين تم الحكم بسجن خالها وابن عمها لمدة عام مع كفالة 500 جنيه، واستمرت قضيتهما لمدة ستة أشهر قبل أن تنتهي بالبراءة أمام محكمة الاستئناف، لأن الشاكية لم تقدم أصل إيصال الأمانة المزور.
لم تتوقف المفاجآت عند هذا الحد بالنسبة للزوجة، التي فوجئت أن زوجها بعد فترة تزوج صاحبة قضايا إيصالات الأمانة، وأنه ينفق عليها ببذخ في حين يرفض الإنفاق على رضيعته التي تعاني صحياً.
استجابت وداد مجدي لإلحاح أسرتها وتزوجت من ابن خالها ظناً أن صلة الدم ستضمن زيجة هادئة، لكن العنف الذي تعرضت له على يد زوجها ودفعها للسعي إلى الطلاق بعد سنوات من ضغط الأسرة، كان فاتحة لانتقام يطاردها منذ أربع سنوات
الأقارب عقارب
استجابت وداد مجدي لإلحاح أسرتها وتزوجت من ابن خالها ظناً أن صلة الدم ستضمن ألا يتم الاعتداء عليها أو انتهاك حقوقها، لكن العنف الذي تعرضت له على يد زوجها ودفعها للسعي إلى الطلاق بعد سنوات من ضغط الأسرة، كان فاتحة لانتقام يطاردها منذ أربع سنوات.
فوجئت وداد بعد نجاحها في الحصول على حكم قضائي بالطلاق للضرر عام 2018، أن صديقاً لابن خالها (طليقها)، حرك ضدها قضية إيصال أمانة زوّر عليه إمضاءها، ثم بدأ طليقها في ابتزازها للحصول على مبالغ مالية مقابل التنازل عن هذه القضية.
وعلمت أن زوجها السابق استغل إمضاءها الحقيقي على إحدى الأوراق، وقام بتقليده ووضعه على إيصال أمانة باسم أحد أصدقائه، وهي تنتظر حتى الآن الفصل في قضيتها بعد عرضها على الطب الشرعي لبيان التزوير.
تثق وداد بالحصول على حكم البراءة، لكنها تعاني من نفقات التقاضي والرسوم القضائية، في وقت تتولى وحدها الإنفاق على ابنتيها وإحداهما مريضة بالكبد، بينما يرفض والدهما الإنفاق عليهما ويكرّس جهوده للانتقام من والدتهما.
القانون لا يمنع
وعن تكرار حوادث قيام الأزواج بالتحريض ضد زوجاتهم أو مطلقاتهم بقضايا إيصالات الأمانة المزوة، قال عصام الدين أبو العلا، الخبير القانوني والمحامي أمام المحاكم المدنية والشرعية والجنائية، إن القانون لا يوجد فيه ما يمنع أي شخص من تحرير محضر في قسم الشرطة بصورة ضوئية من إيصال أمانة، وينتج عن هذا المحضر تحريك دعوى قضائية أمام المحاكم الجنائية ضد المشكو في حقه، الذي قد يكون لا يعلم أي شيء عن هذا الإيصال أو عن محرر المحضر. وبالتالي تقوم النيابة العامة بتحريك الدعوى من دون أن تطلب من صاحب الشكوى أن يقدّم أصل الإيصال للاطلاع أمام النيابة.
ويؤكد المحامي الذي تولى عدداً من تلك القضايا أن هذه الإجراءات "تنطوي على عوار قانوني" يساعد في بعض الأحيان في اتهام أشخاص لا علاقة لهم بسند الاتهام المٌقدّم، ومن ثم يواجهون اتهامات بخيانة الأمانة، وهي جريمة من الجرائم المخلة بالشرف التي تمتد في تأثيرها إلى أبناء المتهم.
وتابع أبو العلا أن الكثير من الأشخاص يعرفون فقط عن طريق الصدفة أن هناك أحكاماً قضائية غيابية بحقهم، وحتى عند محاولة إثبات براءتهم يفاجأون بأن الشاكي أو مقدّم الإيصال أعطى عنواناً وهمياً أو عنواناً تم تغييره. وبالتالي، لا يمكن الوصول إليه، ما قد بتسبب في تأييد الحكم الغيابي في محكمة أول درجة، وهي الحيلة التي بات يلجأ إليها الكثير من الأزواج من أجل الانتقام من زوجاتهم أو مطلقاتهم أو ابتزازهن، لأن الزوج يعلم تماماً أن السيدة سيكون أمامها رحلة شاقة ومرهقة مادياً ومعنوياً أمام القضاء من أجل الحصول على البراءة، وبخاصة أنه في أغلب الأحيان يتم تأجير أشخاص لا تعرفهم الزوجة لتحريك دعاوى إيصالات الأمانة ضدها مما يصعّب عليها إثبات براءتها.
وأضاف أن بعض الأشخاص أيضاً يستغلون توقيعاً حقيقياً تم الحصول عليه من زوجاتهم خلسة ويقومون بكتابة إيصال أمانة موٌقع بتوقيع الزوجة الحقيقي، وهنا لا بد أن تطعن الزوجة بالتزوير على الإيصال وليس على توقيعها، ومن ثم يتم عرض الإيصال على الطب الشرعي لإثبات أن إيصال الأمانة كُتب في وقت لاحق ومٌغاير للظرف الزماني الخاص بالتوقيع، وفي النهاية تحصل الزوجة على البراءة ولكن بعد فترة من الإنهاك في أروقة المحاكم.
وواصل الخبير القانوني أنه لا بد من تدخّل المشرّع لعلاج هذا العوار القانوني الذي يهدد أبرياء بالسجن ويجعل آلاف السيدات فريسة سهلة لابتزاز أزواجهن السابقين، موضحاً أنه لا بد من إجبار الشاكي، إن كان جاداً في شكواه، أن يقدّم أصل الإيصال وكذلك ضمانات كافية تتصل بعنوانه الحقيقي ووظيفته إن وٌجدت، وإن ثبت كذب أحد هذه البيانات لا تحرك النيابة العامة الدعوى الجنائية.
-----------
(*) أسماء مستعارة بناء على طلب المصادر
- قام رصيف22 إلى التصرف في إخفاء بعض البيانات الواردة في المستندات المقدمة، بعد التأكد من صحتها. حرصاً على سمعة المصادر واستجابة لرغباتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...