شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
في رأسي حفرة حي التضامن

في رأسي حفرة حي التضامن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 28 مايو 202212:45 م

الأبدية، طريق طويل إلى إيثاكا

حفرة

ادخل حفرتك أيها الأرنب البريء، اضرب أنفاقَكَ لكن احذر أساساتِ البيت الطينيّ واحذر جذورَ خُضرواتي، خذ ذيلك الفرائيّ وأسنانك وكفّيك وجوزتكَ يا سنجابي، ونم آمناً في حفرةٍ مرسومةٍ في تجاعيد الجدّة.

يا عامل الطريق المكدود اردم الحفرة وراءَك، تكفيني حفرةٌ واحدة في رأسي. ثقوب جسمي حفرٌ، تتساقط أيديهم عيونهم خواتمهم عَصابَاتُ رؤوسهم المرتجلة من عيوني، من أنفي، من أذنيّ، وكأن كأسي طفحتْ. أمشي بثقلٍ، لن أكون خفيفاً بعد اليوم، في رأسي حفرةٌ أحملها، تحملني، أتدحرج إليها، أنام فيها، أصعد جوانبها وأقضي نهاراتي… ابتعدوا أيها الاسطنبوليّون عنّي إلى عاديّاتِ حياتكم، فلربّما ينتقل الموت كالجذامِ بالعدوى.

كابوس

مثل طيور الماء يعود الكابوسُ، مثل مصيرِ غزالٍ عَطِشٍ لا مفرّ له من ماءٍ ومن أنياب فهدٍ، ومثل رقصة ذكر النعام في مواسم التكاثر والبقاء يغويني كابوسي. لم أنْسَ هويتي الشخصية قبل بلوغِ حاجزٍ، دمغتي الأبدية مثل شاماتٍ في جسدي لم تروها، هذه المرّة طيرُ الحلمِ ضبطَ بوصلةَ الشمال بدقةِ السنونو ولم يعبر الحدودَ خطأً، هذه المرة لم أجدْ نفسي مرّةً أخرى أخدمُ علماً لم أختره ولم يظلّلني؛ يكبر العلمُ مثل مجزرةٍ أو يصغر مثل قضْمةِ شونْدرٍ مسلوقٍ في فم طفلٍ.

هذه المرة عيوني منطفئة كسيجارة قديمةٍ مجعلكة في منفضة السيّارة، ركلةٌ في ظهري أسقطُ حيث لا أعلمُ فوق ركامٍ أحلم أن يكون أغضانَ زيتونِ القرى على دروب حلب، أُكذِّبُ عظامي التي طَرْطقَتْ فوق عظامهم، الصوت صوتُ رصاصةٍ، دمي يدفّئ جسدي، يبدو أنني أموت، أيها الأحياء انظروا في عيني قاتلي دون أن تَطْرفوا واحملوا عن أمّي عبء النظر في وجهه وحيدةً، احملوا عني عبء الموت مجهولاً أعمىً مثل جنين غير مكتملٍ... امنحوا جثتي اسماً.

هذه المرة لم أجدْ نفسي مرّةً أخرى أخدمُ علماً لم أختره ولم يظلّلني؛ يكبر العلمُ مثل مجزرةٍ أو يصغر مثل قضْمةِ شونْدرٍ مسلوقٍ في فم طفلٍ... مجاز الأبدية

الموتى يلومون الأحياء

الموتى إن ماتوا دون إذنٍ مسبقٍ، دون تحذيرٍ، دون إرادةٍ، دون خوفٍ يليق بهيبة الموت واسمه سيّء السمعة، إن شعروا أنهم خُدِعوا بوعود بغدٍ أجمل، وإن لم يجرّبوا امتطاء حصان البحر مثلك إلى عالم جديدٍ، سيلعنون الأحياءَ قبل قاتليهم، فلا يُلام القاتل إنما يتّخذُ في أفضل الحالاتِ شكل دوائر متّحدةِ المركز للتدريب على الانتقام، يُطلَقُ الرصاص عليها حتى ينجح المصوِّبُ في تصويب منتصف الدائرة، لكن الدائرة بعيدةٌ بعيدة، أبعدُ من عين الصقرِ. لذلك يعود هؤلاء الموتى في هيئاتٍ كثيرة إلى أحبّائهم الناجين الندّابينَ البكّائين، فالموتى متى ماتوا يلبسون أجنحةً تعينهم على الطيران والتخفّف من عبءِ الجغرافيا، يعودون في صورة اللقلقِ على شاطئ بالاتBalat واللوْمُ ينقِّط من عرفه وقدميه الناحلتين مثل ملحِ بحريٍّ يترسب في جلدكَ، يحفظ لحمك من التفسخِ. تعود إلى البيت وتستحمّ، ويتساقط الملح منك دون نهاية حتى تكاد تسلخ جلدك، تصرخُ، تزعقُ، تنشبُ أظافرك في صدرك وتحاول رسم وجه قاتلٍ كوشمٍ باقٍ إلى الأبدْ.

يوميّات الموتى والأحياء

والموتى يتخذون هيئاتٍ تناسبُ رؤيتك الشخصية في الحياةِ، لا تعزّيهم الكلماتُ الكبيرة، فلكي ينسوا أنّهم موتى سيرافقون يوميّاتك. وما دمتُ أخدّر رأسي بالكافيين والسيجار، سيتّخذون صورة فنجان الاسبريسو والتبغ، يا لدهائهم، كمْ يحسنون التنكّرَ. أسمع منهم صدىً غريباً كصوت انطباقِ شِرْكٍ "لا تنسانا"، مثل لومِ أمّ محزونة تغني على بقايا بردى: "سكابا يا دموع العين سكابا".

ماتوا دون إذنٍ مسبقٍ، دون تحذيرٍ، دون إرادةٍ، دون خوفٍ يليق بهيبة الموت واسمه سيّء السمعة

وكلما طلبْتُ الاسبريسو لا تبخل عليَّ أوزْلَم Özlem بحسّ الصديقة وبحسِّ صاحبة مقهىً أنيقة كل يومٍ بفنجانٍ جديد يقول لي لست وحدك يا صديقي السوري في حِدادكَ الطويل؛ فنجانٌ لامعٌ دون إسرافٍ كالنحاس العتيق، فنجان كبيرٌ أبيض منقّطٌ بضرباتِ رسّامِ أزنافور على القماش. يا صديقتي لا يهمّ أن تغيري الفنجان، العبرة في كافيينٍ يخدّر الرأس، فالموتى إن عجزوا عن الحُلولِ في قهوتي، سيأتون على صورة مَسْكَةِ الفنجان ويتشبّثون بأصابعي، يلومونني فالخدَرُ يوازي النسيان أحياناً.

وأنا أمشي على ساحل بالات Balat، أُسرِعُ فجأة وكأن دبّوراً لسعني، أرى قناصاً على سطح المدرسة اليونانية، فلا حُرمةَ في الحرب للأمكنة الجميلة، ويضربني ضوءٌ كشَّافٌ مُهيبٍ ساطعٌ مثل ألف شمسٍ بعد غيمة، فأعدو كاليهوديّ الذي استغلّ نوبة تبديل الحرس، أهرع نحو السياج هرباً من الهولوكوست، يغرِقُني الضوء، يائساً أنوي الفرار من رصاصةٍ محققة. أركض وأركضُ، أزرعُ الساحل ثلاث مراتٍ ذهاباً إياباً ثم أعود سالماً إلى بيتي! أعود سالماً نَعم، فحجارة بالات Balat الكريمة المُغبَرَّةُ بوجوه يونانيّينَ تركوها، لن تبخل بدموعها على سوريٍّ ظنّها حجارة حلب القديمة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image