في تموز/يوليو 2010 عاد محمد حسنين هيكل من لقاء القذافي. زيارة اليوم الواحد كلّفت الشعب الليبي وقود طائرة جاءت بهيكل وأعادته. كان الشعب مغيّـباً ينوب عنه ضابط ألغى اسم ليبيا، وأصبحت الجماهيرية العربية، إلخ.
لم يذكر هيكل تفاصيل لقاء لعله استُدعي إليه، كما لم يذكر ما دار بينه وبين حسن نصر الله في لقائهما الأخير. وفي مقابلة تلفزيونية حكى أنه قال لرفيق الرحلة أحمد قذاف الدم، في رحلة العودة: "لن أرى ابن عمّك مرة أخرى". هل كانت نفثة مصدور فقد الأمل في العقيد؟ أم رسالة لم يرد أن يصارح بها القذافي، وقد يُبلغها قذاف الدم؟
مات هيكل عام 2016 والكثير من أسراره معه، وترك هياكل صغاراً يتبعون سبيله وتعوزهم مواهبه. ولعل القدر أنقذه بالوفاة في التوقيت المناسب، فلم ير مصر 2022، بعد أن كان العرّاب، وكرر في برامج تلفزيونية عام 2014 أن وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسي هو "مرشح ورئيس ضرورة".
وقبل انتخابات الرئاسة 2018 قال وزير "صفر المونديال" علي الدين هلال، رائد جمال مبارك، إن السيسي "مرشح الضرورة"، في استدعاء لـقائدِ ضرورة لن يكون إلا صدام حسين. إذا كان القائد ضرورة فهو أكبر من إله. حتى الله جادله إبليس.
كتاب "أنور السادات رائداً للتأصيل الفكري"، مؤلفه الدكتور نبيل راغب تقصّى ما اعتبره ريادة فكرية للسادات بما لم يخطر ببال بريطاني في وصف تشرشل، أو فرنسي في مديح ديغول
يسجل قائد فيلق الحرس الجمهوري العراقي الثاني الفريق الركن رعد مجيد الحمداني في كتابه "قبل أن يغادرنا التاريخ"، هشاشةَ العراق قبل الاحتلال، وكان "الكل في مزاد كبير لعرض القوة ولا أبرئ نفسي"، وقد دعي يوم 30 كانون الأول/ديسمبر 2002 مع أكثر من ثلاثين من كبار الضباط إلى لقاء صدام، وقبل الاجتماع أبلغهم عبد حمود، سكرتير صدام بأن الرئيس "متعب ومرهق بالموقف العام، لا تذكروا أية مشاكل"، فأسمعوا "القائد الضرورة" خطاباً حماسياً حول الولاء والاستعداد للقتال.
وقال صدام إن الحرب التي لا يريدها، إذا وقعت "فإننا سنركّع أميركا، وندمر جيوشها على حافة الصحراء... أنا متأكد من انتصارنا ومن تركيع أميركا إذا جاءت بجيوشها، لأنه لم يبق لله جيش يقاتل في سبيله سوى جيش العراق".
وفي مشهد مصري ، يوم 13 نيسان/أبريل 2016، لبّى العشرات من السياسيين وأساتذة التاريخ والقانون الدولي والصحفيين دعوة لمناقشة قضية جزيرتي تيران وصنافير المصريتين. واستمعوا إلى خطبة للتسويغ "وان مان شو"، تتلون فيها طبقة الصوت بالعامية والفصحى، إيضاحاً وتسليماً بأمر سيقع. وفي نهاية المونولوغ الرئاسي، استأذن عضو بالبرلمان أن يتكلم، فرفض السيسي غاضباً: "أنا ما اديتش لحد الإذن إنه يتكلم"، وانقطع البث التلفزيوني. فهل يجدي الحوار؟
لنذهب إلى الصحافة؛ في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2016، فوجئ الدكتور أسامة الغزالي حرب بمنع صحيفة "الأهرام" نشر مقاله "المدينة الفاضلة!". رأى العاصمة الإدارية الجديدة "نكبة"، وعبئاً على الاقتصاد، وأنه لا يفهم سرّ اهتمام السيسي ببنائها "بقرارات منفردة، لم نسمع أن البرلمان ناقشها أو صادق عليها... توجه الموارد للافتتاح السريع للعاصمة الإدارية، وملايين المواطنين يئنّـون".
فوجئ بالمنع، وفي اليوم التالي نشر المقال في صحيفة خاصة، وأتيح للكاتب أن يتكلم عن المنع في برامج فضائية. كانت إعادة النشر، والكلام عن المنع، ترفاً نفتقده الآن. لا فرق بين إعلام مقروء أو مرئي، حكومي أو خاص.
ولا أحب إسداء النصائح، ولو تلبية لطلب. النصيحة ثقيلة. وإذا حاك الإثم في صدري، فلا أنصح إلا نفسي، وأذكّرها بهذا النهي "لا تمدح حاكماً على قيد الحياة ولو كان نبياً رسولاً". قاعدة ذهبية تهزم النفس الأمارة وشيطاناً وسوس إليّ بمدّ يدي إلى رفٍ بمكتبتي، لالتقاط كتاب ضخم عنوانه "أنور السادات رائداً للتأصيل الفكري". مؤلفه الدكتور نبيل راغب تقصّى ما اعتبره ريادة فكرية للسادات بما لم يخطر ببال بريطاني في وصف تشرشل، أو فرنسي في مديح ديغول.
"ألا إني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم... والله، لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه"... قال عبد الملك بن مروان
للسادات خط فكري متناغم، "ففلسفة التأصيل الفكري عند السادات فلسفة إنسانية حضارية شاملة... وسيلاحظ القارئ أن التاريخ سيسجل للسادات دوره كرائد فكري بنفس الدرجة التي سيسجل بها دوره كقائد سياسي. فإن ما قدمه من فلسفة للتأصيل الفكري يضيف الكثير إلى البناء الذي بدأه رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وغيرهم من رواد الفكر الحديث".
قضى القدر بموت الكتاب في حياة السادات؛ عمل قصير العمر، محدود الهدف، ووجوده بندرة، في طبعته الوحيدة عام 1975، يدين مثقفاً يبتغي بالكتابة وجهاً لم تخلق له، ويمدّ بالكتابة حبلاً إلى الحاكم، ولا يدرك قسوة اختبار الزمن، فلا سلطان لأحد على قراء يملكون وحدهم حق الفرز. وقد تولى المؤلف مناصب، ونشر العشرات من مؤلفات نقدية وروايات أنتجت أفلاماً ومسلسلات لا تجذب الانتباه، وتمضي إلى النسيان. ومات المؤلف في صمت عام 2017؛ درس بليغ لبؤس المثقف.
كتاب "أنور السادات رائدا للتأصيل الفكري" منبوذ، أفتحه كلما ضاقت واستحكمت، ومسّني شيء من اليأس، وأردت تدبر المصائر، ومدّ الخيوط إلى نهايات تختلف عن "إجماعٍ" حظيَ به وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، في زيارته لمصر في آذار/مارس 2018. وفي بيت السفير السعودي بالقاهرة دُعي نحو 25 مصرياً إلى لقاء ابن سلمان، وسارعوا الإشادة به.
أكتفي باثنين تجاوزا الثمانين، وشبعا مناصب وأياماً، ونشرت صحيفة الأهرام مقالاً لكل منهما في 7 آذار/مارس 2018. صلاح منتصر بدأ مقاله قائلاً: "بهرنا جميعاً الأمير محمد بن سلمان بحيوية شبابه وتدفق أفكاره وطلاقة حديثه وجمعه بين تحليل الماضي والحاضر ورؤية المستقبل". ومكرم محمد أحمد وصفه بأنه "صاحب عقلية تحليلية شديدة الابتكار والتطور".
صمتوا، في الزفة، عن تيران وصنافير. في مصر نحو خمسين صحيفة ومجلة مملوكة صورياً للشعب، وليس مصادفة أنها لا تنشر رأياً، لا أقول معارضاً، للتوجهيْن الرئاسي والحكومي، وإنما غير مؤيد تماماً للسياسة الرسمية؛ أداء صحفي يذكّر بوطأة المرحلة التالية للاحتلال البريطاني عام 1882، وقد أضيف إلى تبعية الحكم للباب العالي، ومن ذلك الاحتلال المزدوج أُعلن عن عصيان الزعيم أحمد عرابي، ولعنه مساكين مغيّبون رحبوا بجيش الاحتلال في ميدان رمسيس.
قضية تيران وصنافير مثال سافر على فقدان الصحافة للاستقلال وللحياة. في بداية الصدمة الشعبية، اتسع صدر الصحافة لطرح وجهتَيْ النظر، مع ميل إلى خندق سلطة اختارت التخلي. أستشهد بمجلة "المصور" الأسبوعية، في تحولاتها. في 6 نيسان/أبريل 2016 حمل غلافها عنوان "السيسي وسلمان… الزعيمان يلتقيان في القاهرة". وفي 18 تشرين الأول/أكتوبر 2016 أعلن مكرم محمد أحمد رئيس المجلس الأعلى للإعلام في التلفزيون أن طائرة الملك رفضت الهبوط في مطار القاهرة، إلا بعد الموافقة على ترسيم الحدود، بما يتضمن التنازل عن الجزيرتين.
في الزيارة الرسمية وُقّع اتفاق قيمته 23 مليار دولار، بين شركة أرامكو السعودية والهيئة المصرية العامة للبترول، لمدّ مصر بمنتجات بترولية قدرها 700 ألف طن شهرياً لمدة خمس سنوات. ومع الرفض الشعبي، وحكم القضاء بمصرية الجزيرتين، تراجعت شركة أرامكو عن الاتفاق، وأبلغت مصر في تشرين الأول/أكتوبر 2016 بالتوقف عن إمدادها بالمواد البترولية.
وبدأت حروب الكلام، فحمل غلاف "المصور"، في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، عنوان "ماذا يريد محمد بن سلمان من مصر؟"، وفي 21 كانون الأول/ديسمبر 2016 حفل الغلاف بعناوين حادة، عن منافسة السعودية لإسرائيل في دعم سد النهضة الإثيوبي "السعودية تعلن الحرب على الشعب المصري. مصر مؤهلة لقيادة المنطقة رغم أنف الحاقدين".
وقعت الواقعة، وصارت الجزيرتان خبراً حزيناً يحلم بالخلاص ويراهن في الاستعادة على المستقبل. وتعجز الصحافة المصرية عن إثارة القضية، ولو من باب التاريخ.
فقر الخيال معضلة. ونبيل راغب لم ينتبه إلى ضرورة ترسيم العلاقة بين المثقف والسياسي، لاتخاذ موقف نقدي على مسافة تسمح بتوقع تقلب القلوب، وهي بين أصابع شيطان تمكن ممن هم أكثر حكمة من أنور السادات.
أول المتقلبين المنقلبين تابعيٌّ بدأ زاهداً متنسكاً، هو عبد الملك بن مروان أحد فقهاء المدينة الأربعة، وقد أتاه الملك وهو يقرأ القرآن، فأنهى القراءة: "هذا آخر عهدنا بك". وفي العام الثاني لولايته قال: "لست بالخليفة المستضعف (عثمان)، ولا بالخليفة المداهن (معاوية)، ولا بالخليفة المأفون (يزيد)، ألا إني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم... والله، لا يأمرني أحدٌ بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه".
قال عبد الرحمن شلقم إنه (القذافي) كان "شبه قديس... استقامته وورعه كانا مصدر إحراج لرفاقه... كانوا لا يلعبون الورق في حضوره ويطفئون السجائر إذا وصل...". وفي الكرملين عام 1971 نظر إلى ساعته، وقطع المحادثات قائلاً: حان وقت صلاة العصر. وانصرف للصلاة
وكان عمرو بن سعيد بن العاص قد رفض مبايعة عبد الملك، فاتفقا على أن تكون الخلافة لعبد الملك، ومن بعده لعمرو. كتبا بذلك كتاباً، وأشهدا عليه أشراف أهل الشام. ولم يتأخر الغدر بعمرو. أدى عبد الملك صلاة العصر، وقتل عَمراً.
يسجل أبو حنيفة الدينوري في "الأخبار الطوال"، أنه أُخذ "فأضجع، وذبح ذبحاً، ولُفّ في بساط. وأحس أصحاب عمرو بذلك، وهم بالباب، فتنادوا، فأخذ عبد الملك خمسمائة صرّة، قد هُيئت، وجُعل في كل صرّة ألفا درهم، فأمر بها، فأُصعِدت إلى أعلى القصر، فألقيت إلى أصحاب عمرو بن سعيد مع رأس عمرو، فترك أصحابه الرأس ملقى، وأخذوا المال، وتفرّقوا. فلما أصبح عبد الملك أخذ من أصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلاً، فضرب أعناقهم، وهرب الباقون، فلحقوا بعبد الله ابن الزبير".
في المسجد النبوي، أيام البراءة، قال عبد الملك لجنديٍّ من جيش أرسله يزيد بن معاوية لقتال عبد الله بن الزبير: "أتدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود في الإسلام، وإلى ابن حواري رسول الله، وإلى ابن ذات النطاقين (أسماء بنت أبي بكر)، وإلى من حنّـكه رسول الله. ثكلتك أمك، أما لو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله جميعاً في النار". هو نفسه عبد الملك الذي أرسل الحجاج بن يوسف لقتل ابن الزبير. قتله، وصلبه منكساً، وبعث برأسه إلى عبد الملك، بعد أن حاصر مكة، وضرب الكعبة بالمنجنيق.
ليس القذافي آخر المتقلبين المنقلبين؛ عام 1963 عرفه عبد المنعم الهوني، وقال إنه كان شديد التديّن، واشترط في من ينضم إلى التنظيم صفات "كلها أخلاقية أي يصلي... كان يعارض استخدام أي شتيمة في الحديث أو أي نعت قاسٍ بحق أحد الزملاء". وقال عبد الرحمن شلقم إنه كان "شبه قديس... استقامته وورعه كانا مصدر إحراج لرفاقه... كانوا لا يلعبون الورق في حضوره ويطفئون السجائر إذا وصل... وثمة من سماه الفقيه". وفي الكرملين عام 1971 نظر إلى ساعته، وقطع المحادثات قائلاً: حان وقت صلاة العصر. وانصرف للصلاة.
هذه الروايات سجلها غسان شربل في كتابه "في خيمة القذافي". وبعد قتله قال رفاقه إنه كان دموياً منذ انفرد بالسلطة، بعد فشل انقلاب عمر المحيشي عضو مجلس قيادة الثورة. هرب المحيشي إلى المغرب، واستعاده القذافي في "صفقة قذرة" تضمنت وقف دعمه لجبهة البوليساريو، ودفع 200 مليون دولار للحسن الثاني، ليستعيد أربعة معارضين أولهم المحيشي الذي ذبح "كالخروف"، كما قال شلقم.
قبل الثورة، سمعتُ شلقم يصف القذافي بأنه أبو الليبيين. كيف أنسى؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين