شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
في

في "أيام الشمس المشرقة"... ميرال الطحاوي تحكي عن الهرب الدائم من الماضي وإليه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 25 مايو 202206:23 م

في "أيام الشمس المشرقة"... ميرال الطحاوي تحكي عن الهرب الدائم من الماضي وإليه

استمع-ـي إلى المقال هنا

ينظر إلى عالم ميرال الطحاوي الروائي وفق اختزال مخل، مفاده أنها تتحدث فقط عن عالم الصحراء والثقافة البدوية وموقع النساء فيها. لكن الحقيقة أنها تمتلك تجارب متسعة وعوالم أرحب، إذ تبحث في تجربتها الروائية المميزة عن تاريخ وأسئلة وأفكار تحارب الصورة الشائعة والنمطية عن النساء والأماكن والتاريخ.

خلال السنوات الأخيرة، عاشت الطحاوي تجربة الابتعاد عن مصر إلى أمريكا، حيث قضت "15 عاماً من الغربة" برفقة ابنها الوحيد. لتراكم طبقات جديدة من الاغتراب منذ اتخاذها قرار التمرد على الحياة المحافظة التي تميز المجتمع البدوي الذي نشأت فيه واحتفت بميراثها الثقافي منه، وهو المجتمع الذي تتصل به بحكم انتمائها إلى قبيلة الطحاوية، التي تعد من أهم وأكبر القبائل البدوية المصرية.

 خلال السنوات الأخيرة، عاشت الطحاوي تجربة الابتعاد عن مصر إلى أمريكا، حيث قضت "15 عاماً من الغربة" برفقة ابنها الوحيد. لتراكم طبقات جديدة من الاغتراب منذ اتخاذها قرار التمرد على الحياة المحافظة التي تميز المجتمع البدوي الذي نشأت فيه

"ناقة صابرة طامحة"

منذ نجاحها في نشر أولى رواياتها "الخباء" في العام 1995، أمكن لقارئها أن يرى ما تسرب إلى كتاباتها من مشاعرها كابنة للبدو، "يجب أن تكون كالناقة الطوع"، تحاول الإخلاص لتلك الصورة التي رسمتها لها أمها: مهذبة وخاضعة. لكن حكاية تمردها وجدت أصداءها في أعمالها بداية من الخباء مروراً بالباذنجانة الزرقاء وصولاً إلى نقرات الظباء وريم البراري المستحيلة.

وهبتها ثقافتها وأجواء نشأتها البدوية عوالم خاصة للكتابة، فكانت شخصياتها انعكاساً لصورتها التي ترى الطحاوي عليها نفسها "محاربة لا تنهزم بسهولة"، وواجهت اغتراباتها "كناقة صابرة وطامحة".

حينما يذكر اسم ميرال الطحاوي يُذكر مقروناً بلقب الكاتبة المصرية البدوية، وهو ما تعلق عليه في حديثها إلى رصيف22: "الكتابة عن البدو والقبائل العربية في مصر والكتابة الروائية المستلهمة لهذا العالم لا تخجلني، ولا تشعرني سوى بالتفوق والإختلاف".

إلى جانب روايتها الأحدث "أيام الشمس المشرقة" الصادرة على هامش معرض أبو ظبي للكتاب المقام حالياً (مايو/ أيار 2022)، صدر للطحاوي خلال الأشهر الأخيرة كتابان يؤرخان للقبائل العربية (البدوية) في مصر وتنقلها واستيطانها وتراثها، وهما "بنت شيخ العربان" و"بعيدة برقة على المرسال"، تقول الطحاوي: "كل كتاب منهما يحمل جزءاً من تاريخي وتقافتي وعائلتي وتكويني القبلي، الذي بات تخصصي الأكاديمي".  

الرواية في الشتات

استلهمت الطحاوي في روايتها الجديدة جوانب من رحلتها الطويلة في التنقل بين الولايات الأمريكية كأستاذة جامعية، لتواصل ما بدأته في "بروكلين هايتس"، التي سجلت من خلال بطلتها وقائع بدايات تجربتها الأمريكية. وهي تحكي لقارئها كيف تكون مناطق المهاجرين. تقول: "في هذه الرواية أبحث عن سؤال النجاة. عالمها تشكل في الشتات كما يسمونه، وهذا نوع من الأدب ممتد وطويل، فالشخصية العربية إذ تتعرض لخبرة المهجر، تراوح بين علاقتها بالمجتمع الذي هاجرت أو هربت إليه، والمجتمع الذي خلفته أو هربت منه أي الوطن الأم. الكتابة عن المهجر متكررة، ولا يتوقف أدب الشتات على العرب، فمجتمعات تصدير البشر كثيرة والحياة في المهجر خبرة إنسانية تحوي الكثير من التفاصيل. لكن في السنوات العشرين الأخيرة، كان العرب، نتيجة كثرة الحروب والنزاعات في منطقتهم، من أكبر الفئات التي بات أبناؤها في منفى اختياري أو إجباري. ومن الطبيعي أن ينتج هذا أدباً غزيراً".

الطحاوي: في السنوات العشرين الأخيرة، كان العرب، نتيجة كثرة الحروب والنزاعات في منطقتهم، من أكبر الفئات التي بات أبناؤها في منفى اختياري أو إجباري. ومن الطبيعي أن ينتج هذا أدباً غزيراً

يرتبط هذا في تحليل صاحبة "الباذنجانة الزرقاء" بتغير العناصر الفنية والبنيوية في الأدب العربي، حتى الصادر منه بدون أن يتناول الغربة أو الحياة في مجتمعات جديدة. فهذا الأدب بشكل عام بات يسيطر عليه الاغتراب في صيغ مختلفة. تعلق الطحاوي: "الصراع مع الآخر الذي يشغل مساحة دائمة في الكتابة العربية، اختلفت صيغته. نتذكر كيف كان هذا الآخر هو الغربي صاحب الحضارة والقيم المختلفة والمُهدِّدَة. الآن بات الآخر ينتمي إلى نفس ثقافتنا لكنه يحمل قيما لا إنسانية، غدا الصراع صراع أقليات وهوامش، لا صراعاً مع مستعمر في صيغة قديمة أو حديثة".

الطبيعة في "أيام الشمس المشرقة" شديدة الحيوية والفاعلية، على هديها تدور حياة الناس، وفي قلبها يمارسون أدواراً تراجيدية تتفق كلها في طقس أشبه بالعودة إلى الأصل: الأرض

وعن انعكاس ذلك في أدبها، تقول: "هناك متن رأسمالي يبتلع هوامش المهاجرين ويحولهم إلى عبيد، ويستفيد منهم بصورة لا إنسانية. بطبيعة موقعي، وحياتي خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة كمهاجرة وامرأة في الشتات، لا أزال فرداً في هامش وإن كان هامشاً جديداً. والكتابة هنا خيار إنساني لرصد ومراجعة ما اختزتنه من تجارب عن عالم المهاجرين والاغتراب والعيش في الشتات. وكان السؤال الذي يرافق كل مراحل كتابة هذه الرواية هو سؤال النجاة، هل حقق هؤلاء المنفيون آمالهم في النجاة؟ هل يعيشون حقاً آمنين أم يعيشون - بشكل ما- خيبة أعمق من تلك التي تركوها خلفهم؟".

خريطة أيام "الشمس المشرقة"

عنصر المكان في الرواية جزء مهم من حياة الشخصيات. المكان هنا يملك قوة حيوية بحكم طبيعته وجغرافيته القاسية. تقول الطحاوي: "أمسكت بما يسمى في البحوث الأنثروبولوجية بـالأنيميزم وهو مصطلح أطلقة الأنثروبولوجيون الأوائل مثل تايلور وفريزر على تلك الظاهرة الواضحة، وهي حيوية الطبيعة. الإنسان هنا لا يرى في الجبل أو السهل أو الشمس ظواهر طبيعية بل قوة حيوية، ويتحول كل مظهر طبيعي إلى شخصية لها حياتها. وأحياناً ترقى هذه الشخصية – المظهر الطبيعي – إلى قوة كبيرة تؤثر في حياة اللاجئين".

 في إحدى صفحات الرواية، تصف الطحاوي تلك منطقة "الشمس المشرقة" التي تدور فيها الأحداث: " تنام ‘الشمس المشرقة’ تحت أقدام سلاسل الجبال القرمزية على الساحل الغربي... منحنيةً بتواضع بين مفارق الطرق التي تؤدي إلى المنتجعات الجبلية في الشمال... تتماسُّ حدودها الجنوبية مع صحراء قاحلة كانت ولا تزال مَعبرًا حدوديًّا تاريخيًّا للمتسللين، وتطل من الشرق على سلسلة أخرى من التشكيلات الصخرية البازلتية... أما من جهة الغرب فقد احتلَّ الساحلَ جرفٌ صخريٌّ ضخمٌ تحول إلى مقصدٍ لهواة التسلق، وتسبَّب هذا الجرف في تعثر اتصال ‘الشمس المشرقة’ بالمحيط، وانحصر كل ما يربطها بالساحل الغربي بذلك الأخدود أو التجويف المائي، الذي توسع... فصاروا يطلقون عليه مجازًا لقب الخليج. ونتيجةً لتلك التضاريس الجغرافية الفريدة اعتادت بيوت ‘الشمس المشرقة’ أن تتنفس كل يوم غبار التلال التي تطوقها وتتصالح مع أبخرة ذلك الخليج الضحل، الذي تفوح منه رائحة ذكور كلاب البحر النافقة بعد معارك ضارية في مواسم التزاوج، ثم رائحة مخاض الإناث اللواتي يضعن صغارهن في جيوب الماء الدافئ".

"الصراع مع الآخر الذي يشغل مساحة دائمة في الكتابة العربية، اختلفت صيغته. نتذكر كيف كان هذا الآخر هو الغربي صاحب الحضارة والقيم المختلفة المُهدِّدَة. الآن بات الآخر ينتمي إلى نفس ثقافتنا، غدا الصراع صراع أقليات وهوامش، لا صراعاً مع مستعمر"

نسيج هذه الرواية ينطلق من الظواهر الطبيعية المحيطة بالشخصيات ومن ثم منحت اللغة إمكانات أكثر شعرية. إن الطبيعة في هذه الرواية شديدة الحيوية والفاعلية، على هديها تدور حياة الناس وفي قلبها يمارسون أدواراً تراجيدية تتفق كلها في طقس أشبه بالعودة إلى الأصل: الأرض.

تقول الطحاوي: "الجغرافيا في الرواية هامة جداً، وأخذت وقتاً طويلاً جداً في إعادة الصياغة والكتابة. كنت أركز في مخيلتي على القرب من أماكن النزوح، يعني الشواطئ التي يهرب الناس عبرها يومياً وتلك القريبة من الحدود. غالباً ما تكون هذه المدن في الجنوب، وجغرافيا هذه البلدات الصغيرة غالباً ما تشبه الحفرة لأن المنتجعات دائماً تحتل القمم، وتترك السفح لتكون الهوامش وهو يقوم بأدوار الخدمة لإسعاد أهل القمم وتسهيل حياتهم. هذه الطبيعة لم تصنعها الرواية بقدر ما صنعها هذا التهيمش العشوائي الحقيقي".

"الماضي مشكلة كبيرة لأنه مرحلة يمكن الرجوع إليها رغم الهرب منها. ومعظم شخصيات روايتي ينطلق صراعهم من علاقتهم بماضيهم، وإن كانت أجسادهم تحيا على ضفة أخرى

ترسم الكاتبة ببراعة أرض تلك الشخصيات، كما ترسم لوحة فنية بديعة عن حياة المهاجرين والصعوبات التي تقف أمامهم. وتستخدم الخريطة النفسية لأبطالها، وأبعادهم الاجتماعية السابقة على الوصول لأرض المهجر، وتوظف تفاصيلهم اليومية التي تنتقيها بعناية، لتسلط الضوء على حياة لم نكن نعرفها وتاريخ سري هربوا منه إلى أرض أخرى. لكنهم في أرض المهجر ليسوا إلا فئة مهمّشة يظن الجميع، على عكس الواقع، أنها الفئة الناجية.

وهي تمنح هؤلاء المهمّشين في المجتمع الغربي صوتًا، وتحفر عميقًا في أسئلة تخصهم وعالمًا روائيًا هو واقعهم ذاته، وتصبح "الشمس المشرقة" بمرور الوقت، مجرد محطة أولى للعبور، حيث يتخفَّى في أزقتها الهاربون عدة أيام ثم يواصلون البحث عن طريقٍ آمنٍ بين ممرات الجبال للهرب شمالًا، باتجاه مزارع الكروم البعيدة، أو تلك المناطق التي لا يسألهم فيها أحد من أين جاءوا، إذا استطاعوا بالطبع تفادي عربات ترحيل العمالة غير الشـرعية، أو تلك الدوريات الأمنية التي تنقضُّ على الطرق الجبلية من حين إلى آخر، وتنجح في مطاردة بعضهم وإجبارهم على العودة عبر الحدود نفسها التي تسللوا منها، بينما يفلح آخرون في الاختفاء حالمين بأن يرافقهم الحظ الطيب ويتم نسيانهم إلى حين.

هروب إلى الأمام

عبر صفحات الرواية تتحول الحياة اليومية بالمنفى الاختياري لمحاولة متعسرة للنجاة من أشباح الماضي لكل الشخصيات، كما يجاهد الجميع للهروب من الواقع القاسي. تقول الطحاوي: "الماضي إشكالية كبيرة في كل أدب الشتات. الماضي هو مسقط الرأس، هو الوطن الذي خرج منه الجميع وعاشوا فيه تجاربهم الأولى، ويتحول أحياناً إلى الجنة المفقودة، وأحياناً أخرى يتحول تجربة أليمة في الذاكرة. الإنسان في الشتات يظل مرتبطاً بعالمه الأول، بأصحابه وذكرياته وطفولته ولغته الأم وما تركه خلفه، ويقع فريسة لهذا الماضي إذ يهرب منه ويهرب إليه في نفس الوقت. الماضي مشكلة كبيرة لأنه مرحلة يمكن الرجوع إليها رغم الهرب منها. ومعظم شخصيات روايتي ينطلق صراعهم من علاقتهم بماضيهم، وإن كانت أجسادهم تحيا على ضفة أخرى".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image