بعد حصارٍ دام ثلاث سنوات، وجدت فيه عائشة* وعائلتها أنفسهم في وسط قتالٍ محتدم لا ناقة لهم فيه ولا جمل، إذ تعرض منزل العائلة، في إحدى المدن الليبية، لقصفٍ أودى بحياة ثلاثة من أبنائها، طفل وابنتان، فيما كافحت عائشة وزوجها المصاب للخروج من تحت الأنقاض حاملين ابنتهما الوحيدة التي نجت فيما لم يكتب لإخوتها النجاة.
تتذكر عائشة تلك الليلة بحرقة: "كان ثلاثة من أطفالي جالسين أمام التلفاز يشاهدون الرسوم المتحركة، وأنا وأصغر بناتي خلفهم. فجأة اختفى كل شيء، وعمّ الظلام الدامس". وتضيف: "ما إن رفعت الحطام عن وجهي، وجدت طفلتي بخير، ثم بدأت أنادي أخاها يا محمد، واختها يا مريم، لكن دون رد. ناديت زوجي، فصرخ ما الذي حدث؟ هل أنتم بخير؟ وتوجه نحونا، فطمأنته عن ابنتي الصغرى وبدأنا البحث عن الآخرين".
"بغريزة الأم تمكنت من تخمين مكان الأطفال. طلب مني زوجي أن أخرج بينما يبحث هو عنهم، لكني رفضت وقلت له، أنا أشعر بهم هنا، تحت هذا الركام، وبالفعل وجد مريم في البداية، فغطاها كي لا أراها، وأكمل البحث عن الآخرين"
تقول عائشة: "بغريزة الأم تمكنت من تخمين مكان الأطفال. طلب مني زوجي أن أخرج بينما يبحث هو عنهم، لكني رفضت وقلت له، أنا أشعر بهم هنا، تحت هذا الركام، وبالفعل وجد مريم في البداية، فغطاها كي لا أراها، وأكمل البحث عن الآخرين".
حاولت عائشة مساعدة زوجها في البحث، لكنه فضّل تجنيبها بشاعة ما قد تراه "عندما رفعنا الحطام، رأيت أطراف أصابعهم، لكني شاهدتهما في عيني زوجي عندما نظر إلي. كانتا مليئتين بالدموع، ووجهه تغطيه الكدمات. عرفت من نظرته أنهما فارقا الحياة. بادلته النظرات بصمت ثم نظرت إلى ابنتي التي نجت حامدةً الله".
"خرجنا من تحت الأنقاض بعد أن توقف صوت الطائرات في الجو، لنجد أنفسنا وسط اشتباكات عنيفة، ورمايات من كافة الاتجاهات"
تداعى جيران عائشة لمساعدتهم وعائلة أخرى كانت تحتمي معهم في البيت فقدت أيضاً ثلاثة من أطفالها. آخر ما تتذكره عائشة عن اللحظة وصية زوجها أن تبقى صابرة. "قال لي كل ما أريده منك أن تبقي هكذا. ثم طلب من الجيران مساعدته على نقل جثامين الأطفال خارج المنزل ودفنهم".
رحلة النجاة التي استغرقت 48 يوماً، لم تخلُ من المخاطر. تعرض زوج عائشة للإصابة أثناء الهروب تحت وابل الرصاص. ثم لجأت العائلة، والعشرات غيرها، إلى مشروع سكني قريب، قبل الاحتماء في مستودع للمواد الغذائية.
تقول عائشة: "خرجنا من تحت الأنقاض بعد أن توقف صوت الطائرات في الجو، لنجد أنفسنا وسط اشتباكات عنيفة، ورمايات من كافة الاتجاهات". وتتذكر: "أصيب زوجي، لكننا تمكنا من الهرب وعائلات أخرى فقدت هي الأخرى العديد من أبنائها أثناء الفرار أو نتيجة القصف".
تروي عائشة كيف عاشت تلك الأيام، بصوتٍ يغصّ بالبكاء، ووجهٍ تغطيه الدموع: "حوصرنا بعد فرارنا من منازلنا في منطقة مشروع سكني قريب، دون أكل لمدة 48 يوماً، نأكل خلالها الخرشوف الذي ينبت في الأرض، كان هذا هو مصدر غذائنا يأتي به الرجال فنطبخه ونشرب ماءه ونأكل أوراقه. وبعد ذلك وجدنا مستودع مواد غذائية معلّبة منتهية الصلاحية. لقد كانت غير صالحة للأكل ولكن مع ذلك أكلناها. انقطعت الماء ليومين، ولكن الحمدلله رحمة من ربي نزل علينا المطر. شربنا جميع انواع المياه المختلطة بالديدان والزيوت لكن نجونا".
"عندما ألقي القبض علينا، شاهدت العديد من النساء ممن كنّ محاصرات معنا، في السيارات التي تقلهنّ وقد فارقن الحياة"
بعد الحصار، اعتقلت العائلة وعشرات الفارين، بعد يومين من خروجهم من الحي المدمر.
تقول: "عندما ألقي القبض علينا، شاهدت العديد من النساء ممن كنّ محاصرات معنا، في السيارات التي تقلهنّ وقد فارقن الحياة".
معاناة عائشة لم تتوقف عند هذا الحد. فبعد ستة أسابيع من الاعتقال، فقدت خلالها أي اتصال بزوجها، أفرج عنها وعن ابنتها والبعض ممن كانوا معهما، لكن زوجها لم يكن من بين المفرج عنهم. تقول: "تنقلت مع ابنتي من مدينة لأخرى حتى استقررت، بعد ثمانية أشهر في مكانٍ جديد لا أعرف فيه أحداً. ثم بدأت رحلة البحث عن زوجي. هل هو حي أو ميت؟ هل أطلق سراحه أم لا؟".
لم تتمكن عائشة من طلب المساعدة في البحث عن زوجها من أقاربها في مسقط رأسها خوفاً على سلامتهم. كان عليها أن تعتمد على نفسها وتسأل، وفق تعبيرها، "من بعيد لبعيد". لكن جهودها لم تثمر، للأسف، حتى الآن. "ما دام مصير زوجي مجهولاً، أشعر أني في مصير مجهول. هو لم يكن فقط زوجاً أو أباً لأبنائي، بل كان رفيق دربٍ حقيقياً، ومصدر قوتي، التي استمدها منه حتى في غيابه. كل ما مررنا فيه حتى الآن، يفوق قدرتنا بأشواط، لكنه كان بجانبي وسنداً لي، وهو ما افتقده اليوم".
رغم المأساة، تقول عائشة إنها عندما تنظر في حال عائلات أخرى تعرفها، تجدها في وضع أصعب، وتحاول مد يد العون لها قدر الإمكان.
تضيف عائشة: "هناك الكثير من القصص لعائلات في حال أصعب. إحداها لم ينج منها سوى الأطفال. أربعة بالتحديد. مكثت معهم بعض الوقت، وحاولت طلب المساعدة لهم. أطفال أيتام دون أوراق ثبوتية، ما الذي يثبت هويتهم؟ أشعر أن مأساتهم أكبر مني".
ولكن أكثر ما يؤلم عائشة اليوم، سؤال ابنتها الناجية الوحيدة عن أخيها وأختها ووالدها، خاصة في الأعياد، عندما تشاهد أقرانها يحتفلون مع إخوانهم.
تقول: "أتمنى لو أدخل في غيبوبة يوم العيد حتى يمر. لا معنى للعيد دون عائلة. ابنتي تسألني عندما تراني حزينة متعبة لماذا أخذ الله أخي وأختي وتركني وحيدة. هم ماتوا أمام أعيننا، لا بد أن أجعلها تنسى الذي حدث. حتى إن لم تنس لا بد أن ألهيها، لتعيش حياتها وتبدأ من جديد".
البداية الجديدة هي ما تسعى إليه عائشة بكل عزم. عندما سمعت بدورة تدريبية تقدمها اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتأهيل ممرضات من النساء المعيلات لأسرهن، ومساعدتهن في إيجاد فرص عمل في المشافي والمراكز الطبية، بادرت للتسجيل، وهي اليوم تتدرب لتصبح ممرضة ثم تلتحق بأحد المشافي القريبة التي تعاني، كغيرها في ليبيا، من نقص كبير في عدد الكوادر الطبية، خاصة في التمريض.
تختم عائشة: "لا بدّ أن أقف على قدميّ. أنا لست وحدي، معي ابنتي. كان لا مفر من خروجي للعمل. وأنا ممتنة لمن وقف بجانبنا منذ وصولنا هنا".
---------------------
*تم تغيير الأسماء لأسباب تتعلق بحماية الخصوصية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...