عائشة - أو هكذا طلبت أن نطلق عليها - ذات الأربعة والعشرين سنة، التي تقيم الآن في العاصمة الليبية طرابلس، تركت بلدها في مايو/ أيار من عام 2014، فارّة من جحيم الفقر الذي اجتاح جنوب السودان منذ سنوات عدّة.
عائشة فرّت تاركة ورائها أسرة من سبعة إخوة بينهم ثلاث ذكور وأب متوفّى وأم عاجزة. لم يكن قرار المغادرة سهلاً على عائشة حد وصفها، رحلة الموت التي قطعتها اشتهرت بالمخاطر، وفرص النجاة منها بشكل كامل ليست واردة، حيث يقضي قاصدو ليبيا برا عبر الطرق الوعرة وهرباً من حرس الحدود وقطّاع الطرق أياماً عديدة، لا تخلو من الوقوع في أيدي من حاولوا الهروب منهم منذ البداية، رفقة مصاعب الصحراء المقطوعة بسيارات بالية بالكاد تسير.
تفاصيل رحلة الهروب من السودان
عائشة تروي لرصيف22 قصتها حين قررّت في عمر الثامنة عشرة أن تستقل "سيارة الموت" للوصول إلى البرزخ الذي سمعت عنه في أوروبا عبر ليبيا: "عشت طفولتي ومرحلة صباي الأولى في ظروف سيئة، ولم يكن حلم الجامعة والدراسة مطروحاً نظراً لفقر عائلتي وما نمر به من تحديات في بلدي الأم.
سمعت من جاراتي المتزوجات في يوم بأنّهن يخططن للذهاب إلى أوروبا عبر ليبيا، وهن يصفن الحياة هناك، وكيف ستكون هذه الخطوة هي النجاة ممّا هن فيه، لمعت الفكرة في رأسي وبدأت أطرحها في نفسي وأضع السيناريوهات المحتملة لمثل هكذا خطوة. لم أكن أملك المال الكافي للتنقل، فقد كانت تكلّف الرحلة ما يعادل الألف دولار، وهو مبلغ باهظ لفتاة ليست متعلّمة تعليماً عالياً مثلي، لقد ساعدتني أخواتي البنات في تجميع المبلغ اللازم لمغادرتي على اتفاق بأنني سأحرص على جلبهنّ معي بمجرّد وصول أوروبا، لقد خالفت العهد وتغيّرت الخطط تماماً".
تنقّل عائشة داخل ليبيا لم يكن بمحض حرّيتها وإرادتها، فقد أصبحت مملوكة لمن يتاجرون بحياتها كأنها قطعة أرض تمتلك، لتدر عليهم المال من خلال الدعارة القسرية
رحلة الوصول إلى ليبيا حملت العديد من المصاعب، ولكنّ الرحلة تغيّرت وجهتها بمجرّد دخول عائشة الأراضي الليبية: "الشاحنة التي نقلتنا لليبيا كانت تحمل أربعة وخمسين فرداً بالعدد بين أطفال ونساء ورجال، لقد كانت رحلة الصحراء التي قطعناها هي الأصعب، ولم نكن نحمل رفاهية حمل أغراض كثيرة أو أكل وشرب. بمجرّد دخولنا الحدود الليبية أبلغنا السائق بأنّه لم يعد يستطيع الاستمرار وبأن دوره في ايصالنا ينتهي هنا، وبأننا سنحط في أول منطقة مأهولة بالسكان والتي كانت ضواحي مدينة الكفرة، بمجرّد مغادرة السائق وجدنا أنفسنا محاصرين من قبل مجموعة مسلّحة، اقتادتنا جميعا إلى منطقة أخرى، وتم فصل النساء عن الرجال وتضمين الأطفال مع أمهاتهنّ. لقد وقعنا في قبضة إحدى عصابات التهريب التي تعتمد تجارتها على نقل المهاجرين من وإلى ليبيا عبر نقاط مختلفة، أمّا السائق فقد كان جزءًا من هذه الشبكة التي دفعنا أموالا للوقوع في شباكها".
تنقّل عائشة داخل ليبيا لم يكن بمحض حرّيتها وإرادتها، فقد أصبحت مملوكة لمن يتاجرون بحياتها كأنها قطعة أرض تمتلك وتدار مثلما أرادوا لتدر عليهم المال: "قضيت داخل المكان الذي سجنت فيه قرابة الأربعة أشهر، كنّا نأكل بشكل مقبول مقارنة بما اعتدت اكله في منزلنا، ولكنّ الاعتداءات الجسديّة كانت جزءًا لا يمكن فصله. لم يطلب منّي الكثير سوى الصمت وتنفيذ الأوامر، إلى أن أتى وقت بيعي أنا وتسعة فتيات أخريات، كان من بينهنّ صوماليات وإريتريات".
هكذا تم تجنيدي في داعش
انتقلنا من مدينة الكفرة إلى صبراتة في رحلة طويلة استمرت مدّة ثلاث أيام قضينا فيها ساعات النهار في راحة لنتنقّل في الليل، عند وصولنا إلى صبراتة اتضح أننا متجهون على مضافة النساء التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، لقد كانت من أحلك لحظات حياتي حين تم تسليمي للقائمة على المضافة النسائية وبدأت رحلتي كإحدى المجاهدات في التنظيم، لقد كنّا نتلقى دروسا الدين بشكل مكثّف ونجبر على ارتداء اللباس الشرعي إلى أن أتى وقت نقلنا لإمارة سرت كان ذلك بعد مضي قرابة التسعة أشهر، كان دورنا يتمحور حول طبخ الطعام وغسل الثياب وتقديم الدعم للمجاهدين بأي شكل ممكن، فكّرت مرارا في الهرب ولكنّ مصير من يمسك بها لم يكن مشجعا لقد قتلت زميلات لي عقاباً على هربهنّ من حكم الدولة".
"دخلت الإمارة كأنني مطهرة نقيّة من كل الذنوب، لم يكن خيار الزواج سيئاً، فقد انتقلت للعيش مع زوجي وأصبحت مكلّفة به فقط بعد أن كنت ملزمة بجدول أعمال للمئات"
البنيان المرصوص تعيدني إلى الهروب
تستمر عائشة في سرد ملامح بقائها في إمارة سرت التي أسسها التنظيم في شمال أفريقيا، كنقطة انطلاق مخطط الهيمنة على الخط الشمالي للقارة الأفريقية
" تلقّيت عرض زواج بعد وصولي إلى إمارة سرت بأربعة أشهر من أحد المجاهدين، كان ليبي الجنسية، الأمر الذي شجّعني على الإقدام على القبول علّني أحصل على ضمانات ترحمني من حياة الخدم التي أعيشها، قبلت وتزوجت بطريقة شرعية حد وصف الشيخ الذي عقد قراني، لم أكن عذراء ولم يهتم زوجي بهذا التفصيل، لقد دخلت الإمارة كأنني مطهرة نقيّة من كل الذنوب، لم يكن خيار الزواج سيئا فقد انتقلت للعيش مع زوجي وأصبحت مكلّفة به فقط بعد أن كنت ملزمة بجدول أعمال للمئات. لقد كان رحيماً لطيفاً معي لدرجة جعلتني أعتقد أن الحياة قد ابتسمت لي أخيراً، إلى أن حلّت الكارثة، لقد أصبحت إمارتنا تهدد بالزوال بعد إعلان الحكومة الليبية إطلاق عمليّة البنيان المرصوص في أبريل/ نيسان 2016".
"في البداية أبلغني زوجي بأننا سنغادر سرت سوياً بشكل سريّ، ولكن بعدها، تغيرت الخطّة ليقوم بتهريبي وحدي بعد بداية الحرب، كونه لم يستطع مغادرة الإمارة وخيانة رفاقه. لقد كان رحيماً بي حتى آخر لحظة، خشي عليّ من الموت والسجن. أمدّني بمبلغ ماليّ واستأجر سيارة لي وقام وهربني عبر الصحراء إلى مدينة سبها الجنوبيّة، حيث استقبلني أصدقاء له هناك على أمل أن يلتحق بي. توفي زوجي بعد شهرين من مغادرتي إلى مدينة سبها وبدأت مرحلة أخرى من رحلتي المريرة"
توقفت عائشة في سرد قصّتها عند هذا الحدث باكية على فراقها لزوجها قائلة لرصيف22 لقد عشت معه ما يقارب العامين، كان لي فيهما بيت قضيت سنوات أبحث عنه، ولكنّ الحياة أبت أن تبقيه لي".
داعشية تبحث عن دعم المنظمات الدولية
تروي عائشة خاتمة قصّتها وسبب بقائها في ليبيا حتى اللحظة وتقول: "بعد وفاة زوجي قررت ترك سبها والقدوم إلى طرابلس، بعد معرفتي بوجود منظمات دوليّة تعمل على تقديم المال والدعم لأمثالي، بل ويصل الأمر إلى توفير خدمات السفر إلى أوروبا".
تواصل: "انطلقت إلى طرابلس أبريل/نيسان 2018، وحلم جديد يراودني في تحقيق ما وعدت أخواتي به قبل سنوات عندما تركت منزلنا. لم تكن الخطوة سيئة، فقد تمكنت من الحصول على الإعانة المالية من إحدى المنظمات وما زال اسمي على قوائم انتظار السفر، بينما أقضي وقتي في العمل كنقّاشة للحناء وفي تجهيز العرائس، حتى يكون لدي مال كاف للسفر. العمل مربح ومريح ويضمن لي بقشيشا عاليا في معظم الأوقات".
"لم أعد أستطيع العودة إلى السودان، حريتي التي أتمتّع بها اليوم ليست أمراً استطيع المراهنة عليه. والبقاء هنا أرحم بمراحل من العودة. لقد وجدت في طرابلس مصدراً للرزق و شبكة معارف وعلاقات جيّدة. وإذا أذنت أوروبا لن أتخلّى عنها، وإذ لم تأذن فأنا بخير حتّى الآن".
عائشة بعد كل ما عنته ما زالت تحمل في روحها أملا ويحمل وجهها ابتسامة لم تستطع الصعاب حرمانها إياها، أمثال عائشة كثر حول العالم تعددت أسبابهم للهرب وتنوّعت طرقهم، ولكن يبقى لكل منهم قصّة كان لقلّة الحيلة بصمة فيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...