"كسب شخصية جديدة هي عملية خلق تشبه في صعوبتها، وانعدام الأمل فيها، عملية خلق جديد للعالم. مهما كان ما نفعله، مهما كان ما ندعي أننا نكونه، نحن لا نكشف عن أي شيء آخر سوى عن رغبتنا المجنونة في أن نتغير...".حنة آرندت – من مقال نحن اللاجئون.
الرغبة المجنونة في التغيير، التي تناولتها حنة آرندت في حديثها عن اللاجئين اليهود خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، كانت رغبة طارئة للتأقلم مع الوطن "البديل". ربما تمتد هذه الرغبة إلى معظم اللاجئين في العالم اليوم، بعيداً عن أسباب هجرتهم: حرب، اضطهاد سياسي، هروب من مستبد، نجاة من موت مجاني أقره ديكتاتور مختل عقلياً. علماً أن التغيير المجنون يبدو مثل البوابة اليتيمة أمام النساء اللاجئات في مهاجرهن بعدما قررن المواجهة.
خلعت الفلسطينية السورية خلود السعدي، 33 عاماً، نعليها وسارت على جمر الطريق القويم. تركت طبيعتها المسالمة والهادئة وقاعدة "الحيط، الحيط، ويا رب السترة" وصارت لبوة تحارب في غابة اللجوء التي دخلتها من بوابة لمّ الشمل إلى هولندا عام 2015. سبقها إلى البلاد الخفيضة زوجها. اكتشفت لحظة وصولها إليه أنه "تغير جذرياً. أدمن المخدرات. بات شخصاً مزاجياً منعزلاً بشكل كبير"، بحسب قول السعدي لرصيف22.
بعد مشوار من المماطلات وُضعت في بيت للمعنفات. استغل طليقي الفرصة لأخذ حضانة ابنيّ، لكنني قاتلت لأبقيهما معي. لم أملك أي مفردة هولندية، دموعي كانت سلاحي الوحيد"
تلك كانت البدايات. تلتها "الصدامات، التي وصلت حد الضرب"، تتنهد السعدي ثم تتابع: "كان يصرخ لأتفه الأسباب. عنفني نفسياً وجسدياً. تملص من مسؤولياته تجاه ابنيّ. طلب الجيران تدخل الشرطة مع كل مشكلة تقع بيني وبينه جرّاء صوته العالي. ثم وصل الأمر إلى منظمات حماية الطفل في هولندا. هددوني بسحب ابنيّ مني نتيجة انعدام الاستقرار الأسري في البيت وبسبب العنف الموجه ضد ابنيّ". تلك كانت نقطة التحول، شعرت السعدي عندها بأنها تفرط بطفليها، فكرهت صمتها. رفضت نموذج "المرأة الضعيفة"، الذي تقدمه لولديها. "كرهتُ تقديمي لهما نموذجاً ضعيفاً ومخزياً من الأمهات"، تغلبها العبرة وتتدحرج الدموع مترافقة مع غصة أسكتتها.
تنفست السعدي الصعداء ثم تابعت: "طلبت الطلاق. اتهمني زوجي بطلب الطلاق طمعاً بالحصول على منزل مستقل، وتحصيل راتب المساعدات الاجتماعية لنفسي. وهذا ما جعلت البلدية تماطل في إتمام أوراق الطلاق. لجأت إلى صديقتي الوحيدة في هولندا هرباً من البيت الذي أصبح جحيماً. كلما فكرت بالذهاب إلى هناك بحثاً عن بعض حاجاتي تجتاحني نوبات ألم الكولون العصبي. بعد مشوار طويل من المماطلات وضعتني البلدية في بيت للمعنفات. استغل طليقي الفرصة لأخذ حضانة ابنيّ، لكنني قاتلت لمنعه ولأبقيهما في حضانتي. لم أملك أي مفردة هولندية يومها، ما جعل الأمر شبه مستحيل. دموعي كانت سلاحي الوحيد".
ابق بعيداً عن جسدي
"ابق بعيداً عن جسدي" واحد من ملاجئ مخصصة للنساء المعنّفات، واللواتي يجبرن على العمل في الدعارة. إنه مأوى الأزمات الخاص بالنساء، حيث يقدم لهن الدعم النفسي ويحميهن من العنف. مقر إقامة مؤقتة إلى حين انتقالهن إلى بيوتهن الجديدة، التي لا تمثل مطلبهن الوحيد. تتابع خلود سرد قصتها كمن تنبش في ذاكرتها البعيدة: "أكثر ما احتجته حينذاك هو النداء الذي يؤكد لي أن ما يجري سيصير يوماً من الماضي. مرت الأيام ثقيلة. لم تكن إقامتي في بيت منظمة "ابق بعيداً عن جسدي" وردية. أذكر يوم نقلت إلى المستشفى إثر نوبة ألم مفاجئة في الكولون العصبي. عرفت حينذاك كم أنا وحيدة. ولداي نائمان في الغرفة، وعقلي يقاوم الدخول تحت تأثير المهدئ. كل خلية في جسدي تبحث عن إجابة لسؤال ماذا لو استيقظا ولم يجداني؟ لم أجد يومذاك زميلة في السكن لأضعهما عندها وعرفت أنني لا أملك حتى رفاهية المرض". قاومت خلود أثر المهدئ برغم التوتر، وهذا ما زاد آلامها إلى أن غابت عن الوعي تماماً.
حنت الهموم كتفيها، وأثقلت المسؤوليات كاهليها. وحيدة في بلاد غريبة، عليها تعلم اللغة وإتمام إجراءات الطلاق. عاشت ضغطاً نفسيا هائلاً، دفنته وراء ابتسامتها لولديها. تقول: "كان التحدي الأكبر أن أنجو بهما دون أضرار نفسية جسيمة". وتتابع كأنها تتذكر قرارها الواعي الذي ساندتها فيه والدتها عبر اتصالاتهما الهاتفية. وتضيف: "من أجل ابنيّ أكملت الرحلة الشاقة، تعلمت اللغة وحصلت على الجنسية الهولندية. اشتريت سيارة استخدمها في اكتشاف هولندا من جديد بعدما هدأت حياتنا قليلاً. يرمم كل منا الآخر بالحب والضحك الذي عاد إلينا بعد غياب". تنهي خلود حديثها، وهي تنظر إلى السنوات الثلاث الماضية نظرة عامرة بالفخر إذ قدمت لولديها نموذجاً يقتديان به.
الخروج من الفقاعة كلّفنا الكثير
لا يختلف خوف الأمهات الوحيدات عن خوف النساء اللواتي يعشن مع أزواجهن مثل لارا ملكة، 41 عاماً، المصرية المتزوجة من سوري. أقاما في دبي أكثر من عشر سنوات، قبل أن يقررا سفر لارا إلى هولندا لمتابعة دراستها الجامعية المتقدمة، مصطحبة معها ابنتيها الصغيرتين. تحكي لارا قصتها لرصيف22: "أول وصولنا إلى هولندا كانت ردة فعل ابنتي سيئة جداً. ثلاثتنا عشنا في عزلة عن المجتمع الجديد تماماً. ما إن وصلنا حتى بدأت مدرسة ابنتيّ، وأنا بدأت دراستي للماجستير في جامعة أمستردام. رافقني الخوف عليهما يومياً. أسئلة لم أمتلك لها أجوبة. ماذا لو حصل لي مكروه في الطريق؟ من سيخبر ابنتيّ؟ وكيف؟ تنقلت بين شخصية الأم القوية والمسؤولة عن مستقبل عائلتها والأم الخائفة والمضطربة. قضينا الكثير من الصباحات وثلاثتنا نبكي من ضغط الحياة الجديدة".
رافقتني أسئلة ليست لها أجوبة. ماذا لو حصل لي مكروه؟ من سيرعى ابنتيّ؟ أصبحت أتنقل بين شخصية الأم القوية المسؤولة والأم الخائفة المضطربة
تتفق قصص القادمين والقادمات على صعوبة الفترة الأولى، إذ يتعاظم الشعور بالوحدة. تتابع لارا وصف حالها وحال ابنتيها وحنينهن إلى حيث نشأن في الإمارات: "واظبن على طلب العودة إلى دبي، حيث صديقاتهما ووالدهما، الذي تابع عمله ليتحمل نفقات دراستي ودراسة الابنتين في هولندا. كان الضغط الداخلي، كما أحب أن أسميه، يكمن في حديثنا اليومي عن استحالة العودة إلى دبي وضرورة البقاء هنا. لا أنكر تضامني مع ابنتيّ فيما يخص ثقل الحياة الجديدة، خاصة مع البيروقراطية القاتلة وأخطاء الموظفين التي لا تغتفر في أوراقنا، ومقارنة هذا الواقع بواقعنا السابق في دبي ذات الخدمات المثالية".
معلوم أن غياب اللغة يزيد الطين بلة، وهذا ما تتفق فيه حكاية لارا مع حكايات الأخريات. تقول: "عدم معرفتي باللغة الهولندية جعل الهوّة تزداد بيني وبين الآخرين من جهة، وبيني وبين بيروقراطية الحكومة من جهة أخرى. أستلم بريداً باللغة الهولندية بشكل شبه يومي، وغالباً يجب الرد عليه بأسرع وقت ممكن، وهذا ما لا أجيده. وإن سلّمنا أن الحياة جملة تفاصيل، فإن هذه التفاصيل كانت تصنع من حياتي جحيماً لا ينتهي". تتنفس لارا مع دفق ذكرياتها وتكمل: "الحياة في دبي كمن يعيش في فقاعة آمنة، الجميع فيها مراقب والجرائم في حدها الأدنى، وهذا ما جعلني مطمئنة على ابنتيّ، بينما الحياة في هولندا عادية، فيها الخطأ والصواب، وهذا ما أردت أن تختبراه، فاخترنا الخروج من الفقاعة إلى بيئة عادية".
عاشت لارا حياتها في سوريا بأوراق مصرية، ولكنها لا تعرف عن مصر الكثير. كبرت في بيئة ليبرالية وآمنت بمنطق التجريب في الحياة. لم تشعر يوماً بالانتماء لكل الصور النمطية عن النساء في سوريا والعالم العربي. رفضت الانصياع لما هو سائد وقررت السفر إلى دبي كي تبدأ حياتها مع زوجها السوري عمار. بعد أن ضاقت الدنيا بما رحبت في المهجر الأول قررا الهجرة الثانية إلى هولندا.
ابنتي الكبرى اختارت ميولها الجنسية
الهجرة الثانية، على علاّتها، صارت مساحة أكثر رحابة وحرية للتعرف على الحياة والذات. تتابع لارا: "بدأت ابنتاي بالتأقلم مع الحياة الهولندية. ابنتي الصغرى تحب الفطور الهولندي والكبرى بدأت تكوّن صداقاتها الخاصة وتثق بخياراتها بشكل أفضل. انضم لنا زوجي فبل حوالى السنتين. اليوم نتعاون على تربية ابنتينا. قررنا أن نربيهما على مبدأ التجريب وحرية الرأي والتعبير. فابنتي الكبرى دخلت مرحلة المراهقة واختارت ميولها الجنسية كمثلية. عرّفتنا على صديقتها الهولندية التي جاءت إلى منزلنا قبل فترة قصيرة. ناقشنا كثيراً صواب قرارها من خطئه، واتفقنا على مبدأ التجريب. لا نريد أن نقرر عنها. أحترم صراحتها وأفرح بأنها لا تكذب علينا. هذه هي الحرية التي سعينا إليها. اليوم تقتصر مخاوفي على حماية ابنتيّ من المخاطر، لكنني أثق بهن بشكل كبير".
اختارت ابنتي ميولها الجنسية كمثلية، وعرّفتنا على صديقتها الهولندية. أحترم صراحتها وأفرح بأنها لا تكذب علينا
الأم "الدبة"
إلا أن تلك النهايات السعيدة المكللة بالاختيارات الحرة لم تأت بسهولة. فلارا اكتشفت في الغربة أنها "دبّة، إشارة إلى صلابتها لدى تحمل الصعاب، تقول: "أدافع بشراسة عن ابنتيّ وأقوم بحمايتهما من المخاطر التي أخافها أنا أولًا. الأم في الغربة مقاتلة وديناميكية وحنونة وصديقة لأبنائها. قائمة طويلة من الصفات لا بد أن تمتلكها الأم في الغربة ولا مجال لتجاهل أي صفة منها على حساب غيرها". هذا التطور الذي مرت به لارا دفعها بعيداً عن خيارات التقوقع أمام الخوف، إنما قررت القفز إلى الأمام كما فعلت على الدوام.
أنقذت ابنيّ من فم السبع
ربما كانت لارا "دبة" تحرس أبناءها من أخطار المجتمع والحياة، إلا أن نادية، 42 عاماً، كانت انتحارية، إذ عبرت البحر إلى أوروبا وحيدة عام 2015. تركت ولديها اليافعين مع أبيهما في لبنان. تسرد قصتها: "لحظة سفري في البحر بدأ زوجي بإحضار عشيقاته إلى المنزل. لم تنته القصة عند هذا الحد، بل راح يضرب الولدين". فاتخذَت قراراً بالطلاق بعد مجيء ولديها إلى هولندا. وهذا ما حصل. وتضيف: "توجب عليّ العمل ساعات طويلة في صالونات الحلاقة كي أرسل المال لهما. زوجي تخلى عن مسؤولياته تجاههما رغم أن ابني الصغير من ذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى أني أساعد أمي المريضة وأختي العازبة. ما إن وصل ابناي إلى حضني، حتى باشرت رحلة إتمام الطلاق عن طريق السفارة الهولندية في لبنان. كنت أعتقد أن نهاية الرحلة الصعبة في قدوم ابنيّ، وهذا ما كان وهماً كبيراً".
لحظة سفري في البحر بدأ زوجي بإحضار عشيقاته إلى المنزل. وبدأ أيضاً بضرب الأولاد
تتابع نادية: "أنا أم عزباء مسؤولة عن ولديّ وأمي وأختي في لبنان بعد انقطاع أخبار أخي المفقود في سوريا. أحفظ أسعار الأدوية في لبنان، خاصة أدوية الضغط والسكري وتكلفة الحصول على الفيتامينات وثمن أدوية الغدة الدرقية التي تعاني أختي منها. أهلي يعتقدون أنني أجمع النقود من على أغصان الأشجار في هولندا. يعزيني نجاح ابنيّ في الدراسة، وتأمين مستقبلهما في هولندا مع حياة أتمناها هانئة".
لست متأكدة منذ متى وأنا أمّ أمي!
ربما شقّ ابنا نادية، كحال أبناء لارا وخلود، طريقهم نحو المستقبل، إلا أن الحمولة الزائدة للمهاجرات لا تنتهي عند هذا الحد. فهنّ أمهات لأمهاتهن أيضاً. ليست نادية الوحيدة التي ترسل مالاً لوالدتها لأجل شراء الأدوية وسواها من الضروريات، فهناك كثيرات غيرها يساعدن أهاليهن.
إن الحمولة الزائدة للمهاجرات لا تنتهي. فهنّ أمهات لأمهاتهن أيضاً.
علماً أن هذه العلاقة تصير مع الوقت في نظر الأبناء "الأحفاد" غير مفهومة. وهذا ما تعيشه نادية مع ابنتها. تقول: "تلومني ابنتي على حمل همّ أمي وأختي. تجدني أبكي ليالي طويلة خوفاً عليهما من أي تهديد يودي بحياتهما. تابعت العمل لساعات طويلة خوفاً من التقصير نحوهما، إلا أن ابنتي تطلب مني صراحة أن أترك وقتاً لها ولأخيها. أعلم أنني أجهد نفسي في العمل، لكن أنا هنا أقوم بدور الأم والأب. لا أذكر متى حمّلتني الحياة مسؤولية أمي فأصبحت أمها منذ زمن".
رغم كل مصاعب الرحلة تتمسك هؤلاء النساء باختيارهن حياة أفضل من أجلهن ومن أجل أبنائهن وبناتهن وأفراد عائلاتهن الذين تركوهم في بلدان بعيدة.
"إن تفاؤلنا مثير للإعجاب، حتى ولو قلنا لأنفسنا. إن قصة كفاحنا قد صارت في نهاية الأمر معروفة. نحن خسرنا موطننا، وذلك يعني اعتياد الحياة اليومية. نحن خسرنا عملنا، وذلك يعني الثقة في أننا مقيدون بشكل ما في هذا العالم. نحن خسرنا لغتنا، وذلك يعني طبيعية ردود الفعل وبساطة الإشارات، والتعبير غير المتكلّف عن المشاعر". حنة آرندت – من مقال نحن اللاجئون
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 8 ساعاتلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري