سؤال الحرية الفردية في مقابل التقاليد العامة، أحد أصعب الأسئلة التي تواجه قاطني المجتمعات المحافظة: هل من حق المجتمع أن يفرض عليك نمطاً محدداً لحياتك يتماشى مع تقاليده الدينية والثقافية، أم أن الفرد حر تماماً في عدم الالتزام بالنسق العام للمجتمع الذي وُلد فيه؟
سؤال قديم حديث، لم تحسمه مجتمعاتنا الشرقية بعد، ليظل ملف حدود الحرية الشخصية متروكاً لملابسات كل موقف على حدة.
المفارقة هنا في قصة نجم نادي باريس سان جيرمان الفرنسي، إدريسا غاي الذي أثار تغيّبه عن إحدى المباريات لتجنّب ارتداء قميص دعم المثلية عاصفة انتقادات، أن البعض يرون أن اعتراض غاي على دعم حرية البعض هو حرية في حد ذاته، لذا أصبح الموقف أكثر تعقيداً، خاصةً في المجتمعات العربية/ المحافظة التي لا ترى للمثليين حقوقاً أصلاً حتى تدعمهم.
هروباً من القميص والشارة
"غيابه أتى لأسباب شخصية"؛ هكذا تحدث ماوريسيو بوكيتينو، مدرب باريس سان جيرمان، مبرراً غياب نجم خط الوسط عن مباراة فريقه مع نادي مونبلييه، والتي كان من ضمن ترتيباتها المعلنة سلفاً أن يرتدي لاعبو الفريقين قمصاناً عليها شارة علم "الرينبو" الخاص بالمثليين، تعبيراً عن دعم حقهم في الاختيار من دون ترهيب أو إجبار.
تعليق المدرب أتى دفاعاً عن لاعبه الذي تلقّى هجوماً من قبل الكثيرين لرفضه دعم حقوق الأقلية المثلية في الاختيار، وهو ما نجم عنه، إرسال مجلس الأخلاقيات في الاتحاد الفرنسي رسالةً إلى اللاعب مما جاء فيها، أن هذه الافتراضات لا أساس لها من الصحة ونحن ندعوك للتحدث علانيةً من أجل إسكات هذه الشائعات. فعلى سبيل المثال يمكنك إرفاق رسالتك بصورة لك وأنت ترتدي القميص المعني.
في الوقت الذي كانت الحناجر الجزائرية تزأر على وسم "كلنا معك" الذي دُشّن خصيصاً لدعم اللاعب السنغالي، كان هناك لاعبون جزائريون يرتدون قمصان دعم المثليين ويشاركون في تلك الحملة، وهو ما أشعل غضب الجماهير الجزائرية المتابعة للحدث وسخطها من نجومهم
مؤامرة غربية على الإسلام
وعلى صعيد آخر، وفي الوقت الذي كانت الحناجر الجزائرية تزأر على وسم "كلنا معك" الذي دُشّن خصيصاً لدعم اللاعب السنغالي، منددين بازدواجية معايير الغرب في التعامل وعدم احترام رغبة اللاعب، كان هناك لاعبون جزائريون في الدوري الفرنسي يرتدون قمصان دعم المثليين ويشاركون في تلك الحملة، وهو ما أشعل غضب الجماهير الجزائرية المتابعة للحدث وسخطها من نجومهم في الملاعب الفرنسية: يوسف بلايلي، وهشام بوداوي، وفريد بولاية، وإسلام سليماني، واصفين تصرفهم بالمنافي لمبادئ الدين الإسلامي، والطبيعة البشرية، وقد عبّروا عن امتعاضهم من التصرف الذي عدّوه كارثياً على صفحات التواصل الاجتماعي.
"الغرب يسيّس كل شيء، لتدمير مجتمعاتنا الإسلامية، وعلينا أن نواجه ذلك باليقظة"؛ هكذا استهل محمد بزدور، رئيس جمعية أخلاقيات الرياضة، حديثه إلى رصيف22، مضيفاً أن دعم المثلية الجنسية بأي شكل من الأشكال، محرّم شرعاً في الإسلام، الذي يدين به اللاعبون الذين شاركوا في هذه المباريات، فضلاً عن كونه أمراً غير مقبول أخلاقياً، ولا يمكن أن نجد له أعذاراً أو ندخل في نقاشات لا تسمن ولا تغني من جوع.
يتفق إسلام مخالفة، مدرب الشباب في مدينة قالمة، مع ما يقوله بزدور، مضيفاً أن دعم نجوم الجزائر للشواذ الجنسي سيؤثر بالسلب على المجتمع الجزائري المحافظ، من خلال الغزو الفكري الثقافي الذي يطال الجميع، خاصةً فئة الشباب الذين يرون هؤلاء اللاعبين قدوةً لهم، ويستطرد مدرب الشباب في حديثه إلى رصيف22، ويقول: مشاركتهم تعطي المصداقية والشرعية لقضية تتنافى مع قيمنا الإسلامية، لذلك كان لزاماً عليهم مقاطعة هذه الجولة.
وعلى المنوال نفسه، يطالب عبد النور حميسي، الأستاذ في المدرسة العليا لعلوم الرياضة وتكنولوجياتها، عبر رصيف22، بضرورة إنشاء نقابة تحمي اللاعبين الجزائرين من الوقوع في فخ التطرف الفكري للهيئات الرياضية الدولية التي لا تحترم معتقدات اللاعبين الشخصية على حسب تعبيره، ويستطرد قائلاً: المستقبل يخفي الكثير في ميدان الرياضة، بوجود استثمارات كبيرة، والأمر لن يتوقف عند دعم المثليين فحسب، فمن المرجح أن تتم دعوتهم لدعم أمور أخطر، تتعارض وعقيدتهم الدينية، وتُعدّ من المحرّمات والكبائر في دين الإسلام، لذا فتلك النقابة أصبحت ضرورةً. ويختم الأستاذ الجامعي حديثه بالقول: قبل توقيع اللاعب المسلم مع أي نادٍ أوروبي، عليه طلب إدراج حالات استثنائية في العقد، كصوم رمضان واحترام الشعائر الدينية وعدم إجباره على القيام بما يخالفها، وبهذا يكون محمياً بموجب القانون.
المثليون يعيشون بيننا
لكن ليست كل الأصوات في الجزائر مع الإقصاء، أو تعادي اللاعبين لموقف اتخذوه طوعاً أو قسراً، فهناك من يرون الأمور بعين مختلفة.
المحامي الحقوقي زكرياء العابد، كان من تلك الأصوات إذ قلّل من أهمية ارتداء اللاعبين الجزائريين قميص دعم المثليين، فهم ظاهرة موجودة لا يمكن إخفاؤها حسب قوله لرصيف22، قبل أن يكمل حديثه: المثليون يعيشون بيننا ونراهم يومياً في الإدارات، وفي المحاكم والمستشفيات وغيرها من الأماكن العمومية، ويتمتعون بحماية من طرف الدولة.
ارتداء بلايلي و سليماني وبوداوي وغيرهم، لهذا القميص من عدمه، لا يحمل أي تأثير -والحديث ما زال للعابد- ولا ننسى أن فرنسا دولة عنصرية، خاصةً تجاه عرب شمال إفريقيا، وخطوة مثل التي قام بها إدريسا قد تكلّف لاعباً مثل بلايلي الكثير، خاصةً أنه وافد جديد في الدوري الفرنسي، لذا أرى أنه من الأفضل عدم إعطاء القضية حجماً أكبر من حجمها.
"دعم المثلية الجنسية بأي شكل من الأشكال، محرّم شرعاً في الإسلام، الذي يدين به اللاعبون الذين شاركوا في هذه المباريات، فضلاً عن كونه أمراً غير مقبول أخلاقياً، ولا يمكن أن نجد له أعذاراً أو ندخل في نقاشات لا تسمن ولا تغني من جوع"
وعلى الصعيدين التقني والقانوني، يرى الخبير الرياضي عبد المنعم بوشاقور، أن لاعب كرة القدم مقيّد ولا نستطيع الحكم عليه من باب رأي وحيد فقط، فالنادي يقوم بصرف راتب ضخم للاحتراف في بلد غير مسلم. إذاً عليه تقبّل كل شيء، فأوروبا ممتازة من الناحية المادية، لكن تعجّ بالسلبيات أيضاً. ويتابع بوشاقور حديثه إلى رصيف22، قائلاً: اللاعبون المشاركون في المبادرة التي خلّفت ضجةً عالميةً، لا يملكون سلطة القرار ولا سلطان الرفض، ويجب عليهم القيام بواجبهم، الذي يمليه عليهم العقد الذي وقّعوه في البداية مع هذه الأندية، من دون الاهتمام بأمور خارجية أخرى.
لكن الصحافي الرياضي أمين كشرود، يحيل القضية برمتها إلى مستوى اللاعبين الثقافي المحدود قائلاً: أرجح أن اللاعبين الذين شاركوا في جولة دعم المثلية الجنسية في الدوريات الفرنسية، لم يكونوا على علم بهذا الهدف. أقول ذلك من خلال متابعة مختلف مداخلاتهم الإعلامية السابقة، أو حتى حياتهم الشخصية التي يتشاركونها مع جمهورهم الواسع على السوشال ميديا، كما أنه لا يخفى على أحد أن المستوى الثقافي والتعليمي لهؤلاء اللاعبين محدود جداً، ولم يحاولوا تطويره بالرغم من احترافهم لسنوات عديدة في أوروبا.
ختاماً، يشي الواقع بأن اللاعبين الجزائريين ينطلقون للّعب في الدوريات الأجنبية، بيقين أنهم يمثلون المجتمع الذي جاؤوا منه محمّلين بمبادئه وقناعاته الدينية والوطنية.
وحينما تصطدم تلك القناعات بالقواعد الراسخة في المجتمعات الوافدين إليها، تحدث الأزمة، وهي أزمة سوف تتكرر مع تكرار مواقف اللاعبين العرب من إسرائيل أو تعاطيهم مع ملف الحريات الشخصية وعلى رأسه قضية حقوق المثليين التي لا تعترف بها المجتمعات العربية.
مأزق يصعب الخلاص منه، يجعل اللاعبين المحترفين في أوروبا واقعين دوماً بين مطرقة الأعراف وسندان الاحتراف... ولا أحد يرحم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...