شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ثلاث ساعات في الجزائر بين الحراك الشعبي وكرة القدم

ثلاث ساعات في الجزائر بين الحراك الشعبي وكرة القدم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 17 يوليو 201907:15 م

السّاعة الأولى

لست مهتمّاً بكرة القدم، إلّا من زاوية كونها ظاهرة اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة في بعض تفاصيلها؛ إذ يعنيني رصدُ ما يترتّب عليها من ظواهر وطقوس ومساهمات في خلق انزياحات أو تحوّلات، أو انزلاقات في التّفكير والسّلوك العامَّين. فهي لم تعد مجرّد لعبة رياضيّة فقط، بل تكاد تصبح ديناً جديداً.

أدركتُ من خلال احتكاكي المباشر بالشّارع الجزائريّ، أنّ مقابلة الفريق الوطنيّ مع فريق غينيا ذات أهمّية خاصّة لدى الجزائريّين، ليس من باب أنّها تؤهِّل للدّور ربع النّهائي فقط، بل أيضاً من باب أنّها تأتي بعد إقصاء فريقَي المغرب ومصر، في إطار التشنّج السّياسي/النّفسيّ والتاريخي بين الجزائريّين والبلدين المذكورين من جهة، ومن باب أنّها تمنح الفرصة للفريق الجزائريّ لأن يكون ممثّل الشطرِ العربي من أفريقيا من جهة ثانية.

على ضوء هذه الخلفيّة قرّرتُ أن أخرج مبكّراً إلى الشّارع قبل المباراة، لأرصد الانطباعات وردود الأفعال. فاخترتُ محلّاً صغيراً في الحيّ الذّي أقيم فيه في مدينة برج بوعْريْريج، 200 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة.

رغم صغر مساحة المحلّ وتخصّصه في بيع التّبغ وأدوات التّجميل وألعاب الأطفال، إلا أنّه تحوّل بسبب "المباراة الحاسمة" إلى مقصدٍ للشّباب والأطفال والكهول والشّيوخ، إذ أحضر صاحبه الشّابّ تميم تلفازاً ونصبه خارج المحلّ، مبرمجاً إياه على القناة الأرضيّة الجزائريّة، التّي تملك حقّ البثّ الذّي قيل إنّ وزارة الدّفاع اشترته، في إطار مسعى المؤسّسة العسكريّة إلى استمالة الشّباب إلى رؤيتها الخاصّة لحلّ الأزمة القائمة في البلاد.

في لحظة ما، وجدت صعوبةً في اختيار المشهد الذّي أمنحه اهتمامي. هل هو مشهد الدّرّاجات النّارية، التّي شكّلت موكباً خاصّاً، أم مشهد موكب السّيّارات، وقد خرجت من نوافذها أو من سقوفها المنزوعة رؤوس وأفواه تهتف، أم مشهد النّساء يزغردن من الشّرفات ويلوِّحن بالأعلام؟

تعمّدتُ أن أطرح هذه المسألة في الجلسة، بينما الشّباب ينتظرون موعد انطلاق المقابلة في السّاعة الثامنة، فقال الشّاب حسام: "هم اشتروا حقوق البثّ، ونحن نغتنم الفرصة لنشاهد، ولكلّ طرف ما نوى. نشاهد (الكان) على حسابهم، ونخرج للتّظاهر يوم الجمعة لنطالبهم بالرّحيل." ردّ عليه آخر: "هل تقصد أنّك تطالب برحيل القايد صالح؟" فردّ حسام: "بل لأطالب القايد صالح بأن يجعل الفاسدين يرحلون."

كان النّقاش سيأخذ أبعاداً متشنّجة، لولا تدخّل صاحب المحلّ بحسِّه الرّامي إلى إنقاذ الجلسة التّي يكون قد نوى منها أن يربط شباب الحيِّ بمحلّه الذّي فتحه قبل مدّة قصيرة، ليموّل مشروع زواجه. قال: "دعونا من القايد صالح ومن معه. نحن أمام فريق وطنيٍّ سيفوز وسيمنحنا فرصة لنفرح ونرفع العلم الوطنيَّ الذّي يمثّلنا جميعاً. ألستم محتاجين إلى فرحٍ يلغي الفروق بين الجزائريّين؟"

صفّق الجميع. وأطلّت رؤوس أنثويّة من النّوافذ المقابلة للمكان، فراح البعض يرسل إشاراتِ تهديدٍ ووعيدٍ خفيةً. لا شكّ في أنّهم إخوةُ صاحبات النّوافذ، اللّواتي دفعهنّ الفضولُ والشّغف والرّغبة في المشاركة بتلك الإطلالات. تساءلتُ: أليس من حقهنّ أن يشاركْن في لحظةٍ وطنيّة وإنسانيّة عميقة؟ لماذا لا يُسمح لهنّ بأن يخلقن جوّاً تشاركيّاً مثل هذا، في بقعة مفصولة على الأقلّ؟

كان تأجيل المواعيد أو إلغاؤها أو القول إنّ الدخول إلى البيت وتناول العشاء سيكون بعد المقابلة، هو الكلام المهيمن على المكالمات الهاتفيّة التّي تمّ الردّ عليها في الجلسة. وكانت المركبات المارّة في الطريق المحاذي للجلسة كأنّها تطير، ولا تسير، رغبةً من أصحابها في الوصول قبل انطلاق المباراة.

سبق لي أن رصدتُ مواقف يتحالف فيها الخوف والثقة في الوقت نفسه، لكنّ ما رأيته خلال الجلسة في عيون وكلام الشّباب كان أعمقَ اجتماعٍ للشّعوريْن في نفس واحدة. فمن جهةٍ، كانوا واثقين في "الفيلسوف" جمال بلماضي، وفي ثعالبه، ومن جهة أخرى، كانوا خائفين من مفاجئات الملعب، بما يؤدّي إلى الإقصاء.

هل انتبهنا إلى أنّه في ظلّ خيبة الشباب الجزائريّين في كثير من الوجوه التّي ارتبطت بالحراك، بات مدرّب الفريق الوطنيّ لكرة القدم جمال بلماضي الوجهَ الممثّل للأمل؟ ماذا لو خيّبهم هو بدوره في مفصل من مفاصل الدّورة؟ ماذا لو افتكّ الكأس، ثمّ وضعها في يد السّلطة، لتستثمر ذلك في فرض خياراتها السّياسية، خلال هذا المنعرج الحسّاس من منعرجات الحراك؟

تفاديتُ التفكير في هذا المآل، بسؤالي أحدهم: "ما يضرّ أن نقصى؟ البلد المنظّم نفسه خرج من الدّورة.". فالتفتَ إليّ التفاتةَ من اكتشف جاسوساً في الجلسة: "هل أنت جزائريّ؟" قلتُ: "نعم". قال: "ألست محتاجاً إلى أن تفرح؟ ألست محتاجاً إلى أن تحمل العلم الوطنيَّ، وتجوب الشّوارع وأنت تفخر ببلدك؟" قلت: "فعلتُ ذلك في مسيرات الحراك." قال: "الحراك تمّ اغتصابه. ومن المتوقّع أن يؤدّي فوز الفريق الوطنيّ إلى أن يجتمع الجزائريّون من جديد، فيعيدوا رفع المطالب التي خرجوا من أجلها أوّلَ مرّة".

كان التّلفزيون يبثّ تحليلاتٍ يقدّمها رياضيّون وإعلاميّون، قبل المباراة. فلم يستمع إليها أحد، إذ هيمنت الأحاديث الثنائيّة والجماعيّة على الجلسة. سألتُ الشّابّ تميم، صاحب المحلّ، عن السبب، فقال إنّ الشابّ الجزائريّ بات يملك ثقافة رياضيّة عميقة ومتشعّبة وقد بات يسخر من تحليلات من يُسمّون أنفسهم خبراء، خاصّةً أنّه اكتشف غيرةَ وحسدَ بعضِهم بسبب ما حقّقه الفريق الحالي، فراحوا يقدّمون أحكاماً متعسّفة فاحت منها رائحة الغيرة والحسد. ثم فاجأني بالسّؤال: "ألم تقرأ تعليقاتِ الشّباب على هؤلاء؟ رابح ماجر، وعلي بن الشيخ مثلاً؟".

السّاعة الثانية

اختفت الأحاديث الهامشيّة ما أن رُفع النّشيد الوطنيّ في الملعب. بعضُهم بقي جالساً في المقاعد التّي أُحضرت من البيوت، والبعض قام كأنّه في عين المكان. لم يفاجئني هذا السّلوك، فقد سبق لي أن رصدتُ سياقات عودة الرّوح الوطنيّة إلى الجيل الجديد، من خلال مسيرات الحراك الشّعبيّ والسّلميّ، لكنّني فوجئت ببكاء بعض الأطفال والشّباب، فيما صدرت ضحكاتٌ صفراء من بعض الكهول والشّيوخ الذين كانوا واقفين على هوامش الجلسة.

هل بات الجيلُ القديم معقّداً من وطنيّة الجيل الجديد؟ هل هو مثار من تلك العقدة لكونه فشل سابقاً في تحقيق استقلال كامل، أم من خوفه أن يتجاوزه الجيل الجديد إن تمكّن هو من استرجاع المشعل؟

علت التّصفيقاتُ والهتافات بعد نهاية النّشيد. كان في مقدّمتها هتاف "نربحوهم قاع"، أي نفوز عليهم جميعاً، على وزن شعار الحراك "يتنحّاو قاع" أي يتَنَحَّون جميعاً. ثمّ خفتت الأصوات من جديد، خلال الدّقائق العشر الأولى من المقابلة.

هناك أدركت أن هدف "تميم" من الجلسة لم يكن تجاريّاً صرفاً، بل كان مشاركة اللّحظة مع أرواح يعرفها وتعرفه، إذ كان يقول لمن يطلب منه مشروباً: "تشرب السّمّ". ويتماطل في القيام، حتّى لا تفوته لقطة أو مشهد من المقابلة

إنّه الخوف. لكن ما أن أعطى ثعالب الصّحراء الانطباع بأنّهم متحكّمون في مفاصل المباراة، خاصّة أنّهم وفّروا تغطية جيّدة، حتّى تحرّر شباب الجلسة من خوفهم، وراحوا يزاوجون بين المشاهدة والتّدخين أو طلب مشروب بارد من صاحب المحلّ.

هناك أدركت أن هدف "تميم" من الجلسة لم يكن تجاريّاً صرفاً، بل كان مشاركة اللّحظة مع أرواح يعرفها وتعرفه، إذ كان يقول لمن يطلب منه مشروباً: "تشرب السّمّ". ويتماطل في القيام، حتّى لا تفوته لقطة أو مشهد من المقابلة. وكان يقوم أحياناً ليحضر المشروب من الدّاخل، ثم يعود قبل ذلك، إذا سمع هتافاً يشي بتسجيل هدف أو إحراز مخالفة لصالح الفريق الوطنيّ.

لأوّل مرّة يتأهل الفريق الوطنيّ دون أن يغرقنا الإعلام التّافه في نفس الخطابات عن إنجازاتِ فخامته

ثمّ إنّ جميع من شرب من عنده تبخّر مع نهاية المقابلة التّي أسفرت عن ثلاثة أهداف نظيفة لصالح الفريق الجزائريّ. فقد أنستهم الفرحة والانخراط في أعراس الشّارع أن يدفعوا له. مازحتُه: لقد خسرت. فقال: وسأخسر أكثر؛ أُغلِقُ المحلّ وألتحقُ بالمحتفلين في قلب المدينة.

السّاعة الثالثة

على بعد خطوات من المحلّ، لاحظتُ ثلاثة شباب معزولين عن مواكب الاحتفال، وهم يخطّطون لأمرٍ ما. استثمرتُ معرفتي بأحدهم في اقتحام مجلسهم، فعلمتُ أنّهم يخطّطون لتدبّر مبلغ من المال ليشتروا به أعلاماً وإكسسواراتٍ ليبيعوها في الأدوار القادمة من "الكان". قال لي من أعرفه منهم: "آمنّا اليوم بأنّ الفريق سيذهب بعيداً. وها أنت ترى الشّباب جميعاً التحقوا بهذا الإيمان. وسوف نربح كثيراً من هذه التّجارة".

في لحظة ما، وجدت صعوبةً في اختيار المشهد الذّي أمنحه اهتمامي. هل هو مشهد الدّرّاجات النّارية، التّي شكّلت موكباً خاصّاً، أم مشهد موكب السّيّارات، وقد خرجت من نوافذها أو من سقوفها المنزوعة رؤوس وأفواه تهتف، أم مشهد النّساء يزغردن من الشّرفات ويلوِّحن بالأعلام، أم مشهد الأطفال وهم يحاولون أن يفرضوا أنفسهم في الاحتفال بالفريق الوطنيّ لكرة القدم، مثلما فرضوا أنفسهم في مسيرات الحراك؟

غير أنّني وجدت في تدوينة فيسبوكيّة نشرها الرّوائي والأكاديميّ لونيس بن علي، ما لخّص لي كلّ المشاهد: "لأوّل مرّة يتأهل الفريق الوطنيّ دون أن يغرقنا الإعلام التّافه في نفس الخطابات عن إنجازاتِ فخامته. فمن كثرة ترديده لهذا الهراء الإعلاميّ كنّا نظنّ أنّ فخامته هو من كان يسجّل الأهداف".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard