في عالم تسوده القسوة، تصبح الحقيقة أصعب من الخيال أحياناً، فلا تحاكي الطبيعة الفنان، بل تفوقه عنفاً، وقد تجعله يبدو أكثر لطفاً مقارنة بها.
تحقق ذلك مؤخراً بعرض المسلسل المصري "بطلوع الروح"، والذي ذَكّر الكثير من الأفراد برواية الكاتبة الكندية مارغريت أتوود "حكاية الجارية" التي نُشرت في العام 1985.
بالفعل، جمع بين العملين الكثير من النقاط المشتركة، ولكن مع فارق جوهري يتمثل في أن الرواية خيالية، تنتمي إلى نوع الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة، تمثل خيالات الكاتبة المتشائمة تجاه عالمها، بينما المسلسل العربي مقتبس عن قصة حقيقية، حدثت ليس فقط للشخصية الرئيسية، لكن للكثير من النساء اللواتي تدمرت حياتهنّ للأبد بسبب حلم مرعب تحقق على أرض الواقع.
جلعاد والرقة وجهان لعملة واحدة
تدور أحداث مسلسل "بطلوع الروح" في مدينة الرقة التي كانت مقراً لجماعة داعش الإرهابية، فتجُبر الشابة "روح" على العيش فيها صاغرة بعدما اختطف زوجها ابنها ونقله هناك دون علمها، وفي الرقة، يصُبح عليها مثل الكثيرات غيرها الاندماج في هذا المجتمع المتشدد، الذي تتفنن قوانينه في قهر نسائه ومحو هويتهنّ وراء حجب سوداء سميكة، ومنعهنّ من ممارسة أي تفاصيل يومية دون رقابة مشددة، سواء من ذكور العائلة أو حتى من باقي النساء اللواتي يعملن مثل الجواسيس على بعضهنّ البعض.
تخوض "روح" رحلة صعبة للخروج من الرقة، حتى لو كان المقابل البعد عن وطنها للأبد، وطوي صفحة الماضي الذي كان مزدهراً بعمل ناجح، وأصدقاء وصديقات وأب محب، فقد خسرت كل ذلك للأبد عندما وطأت أقدامها الأرض التي اتخذتها داعش مقراً لها، وأصبح عليها التعامل مع العالم، حتى بعد هروبها، بما تحمله من أذى نفسي لن يزول.
تدور أحداث مسلسل "بطلوع الروح" في مدينة الرقة التي كانت مقراً لجماعة داعش الإرهابية، فتجُبر الشابة "روح" على العيش فيها صاغرة بعدما اختطف زوجها ابنها ونقله هناك دون علمها، وفي الرقة، يصُبح عليها مثل الكثيرات غيرها الاندماج في هذا المجتمع المتشدد، الذي تتفنن قوانينه في قهر نسائه ومحو هويتهنّ
أما في "حكاية جارية"، فتتحول الولايات المتحدة إلى الدولة الدينية "جلعاد"، والتي تحكم نسائها بالحديد والنار، فتجردهنّ من أموالهنّ ووظائفهنّ، وتحدد تصنيفات لهنّ، بين النساء القادرات على الحمل والولادة والزوجات، وهن نساء الطبقة العليا اللواتي لا ينجبن، والمرثيات أو خادمات المنازل، والخالات وهن النساء صاحبات المنزلة الأعلى في هذه التراتبية.
بطلة "حكاية الجارية" هي "جون"، الشابة التي كانت قبل قيام جلعاد، زوجة وأم وامرأة عاملة لها حساباتها المصرفية الخاصة، والقادرة على إعالة نفسها وأسرتها إذا لزم الأمر، تحولت بعد ذلك إلى "وعاء للنطاف"، انتزعت منها كل مكتسباتها السابقة، وأصبحت تنتقل من منزل لآخر، حيث يجامعها رب المنزل على أمل الحمل بطفل سليم، وعندما تنتهي مهمتها، يصبح عليها الانتقال إلى آخر، بينما يُنتزع منها أطفالها فهم ليسوا ملكاً لهذه الأم، لكن للأب فقط بالتأكيد.
"امتلاك" أجساد النساء
للأسف، إن اعتقاد البعض بأنه له الحق في "امتلاك" أجساد النساء قديم قدم التاريخ المكتوب نفسه، فالكثير من الوثائق وحتى الكتب السماوية فرّقت بين الزوجات "الرسميات" والنساء اللواتي يُعتبرن "ملك" صاحب المنزل ويُطلب منهنّ تلبية الرغبات الجنسية، لكن على الرغم من نبذ النظم الاجتماعية الحديثة لهذا النظام وتراجعه إلى حد ما إلا إنه موجود بشكل أو بآخر.
في رواية "حكاية الجارية"، عانت الولايات المتحدة من نقص بالمواليد الجدد، نتيجة للكوارث البيئية وكذلك انتشار حق النساء في الإجهاض الآمن، وموانع الحمل، لهذا السبب قامت "جلعاد" على نظام ديني شمولي، أجبر النساء على الحمل بقواعد تستند إلى آيات من الكتب المقدسة، فعادت النساء إلى عصر "الجواري" مرة أخرى.
بينما في مسلسل "بطلوع الروح"، ذًكر أن الإيزيديات تم اختطافهنّ وبيعهنّ في الأسواق، مقابل ما يصل إلى 10 آلاف دولار للمرأة، فيما أطلق عليه في الحقيقة "مأساة الإيزيديات"، وحتى اليوم لا زال الكثير من هؤلاء النسوة في الأسر، وبعد تحررهن لم يستطعن العودة إلى المجتمع بسهولة بعد هذه التجربة القاسية للغاية.
بالطبع، يختلف وضع زوجات مجاهدي الرقة عن النساء اللواتي قدمن على مرّ التاريخ خدمات جنسية، لكن على غرار زوجات الرؤساء في رواية "حكاية الجارية"، إنهنّ مجبرات على تحمل مغامرات أزواجهنّ الجنسية، سواء الشرعية أو غير الشرعية، الإضافة إلى اضطرارهنّ العيش طبقاً لقواعد وضعها الرجال، لمتعتهم الشخصية.
الخالة ليديا وأم جهاد
"تمأسس الخضوع الجنسي للنساء في الشرائع القانونية الأسبق، وطُبّق بواسطة السلطة الكاملة للدولة. تم تأمين تعاون المرأة في النظام عبر وسائل مختلفة: القوة، الاتكال الاقتصادي على رب الأسرة الذكر، الامتيازات الطبقية الممنوحة للنساء المنسجمات والمتكلات من الطبقات العليا، والتقسيم المرسوم على نحو مصطنع للنساء إلى نساء محترمات ونساء غير محترمات".
هذا المقتبس ورد في كتاب غيردا ليرنر بعنوان "نشأة النظام الأبوي"، وأرادت منه القول إنه بغية حماية أي نظام ذكوري، يحتاج الرجال إلى نساء متعاونات، يسيطرن على غيرهنّ، وللحصول على ولاء هؤلاء النسوة، يكتسبن امتيازات طبقية ويحصلن على تصنيف مضمون بأنهن النساء "المحترمات" في المجتمع، بينما تصنف الآخريات بأنهنّ أقل منزلة منهنّ.
إن اعتقاد البعض بأنه له الحق في "امتلاك" أجساد النساء قديم قدم التاريخ المكتوب نفسه، فالكثير من الوثائق وحتى الكتب السماوية فرّقت بين الزوجات "الرسميات" والنساء اللواتي يُعتبرن "ملك" صاحب المنزل ويُطلب منهنّ تلبية الرغبات الجنسية
ينطبق ذلك على كل من عالمي مارغريت أتوود الخيالي، ومسلسل "بطلوع الروح" الحقيقي، فجلعاد يستند وجودها على الخالة ليديا، المرأة التي نتعرف أكثر على قصتها في الجزء الثاني من الرواية "العهود"، فقد كانت قاضية مرموقة في عالم ما قبل الثورة الدينية، بعدها حاول النظام الجديد "تدجينها"، وأخضعها لتجارب جسدية ونفسية قاسية، قلمت أظافرها وحولتها إلى المرأة التي أقامت أسس نظام الجواري، وبنت "آرادا هول"، المكان الذي يربي فتيات المجتمع على القواعد الأخلاقية الجديدة.
الخالة ليديا وباقي الخالات، هنّ النساء الوحيدات في المجتمع المسموح لهنّ بالقراءة والكتابة والتعامل بندية مع الرؤساء، على الجانب الآخر في الرقة، تسيطر على نساء المجتمع "أم جهاد"، قائدة فيلق "الخنساء" من المجاهدات، اللواتي يتجاوزن القوانين بأريحية، فعلى سبيل المثال أرامل المجاهدين يعشن في منزل مشترك حتى يتم إعادة تزويجهنّ من رجال آخرين بغض النظر عن رغبتهنّ، في حين أن أم جهاد وعندما فقدت زوجها لم يتعين عليها العيش بهذه الطريقة المذلة، بل اختارت الذراع اليمنى لزوجها، والشاب الذي يصغرها سناً حتى يصبح زوجها الجديد.
مقدار التشابه بين الرقة وجلعاد، على الرغم من الاختلاف بين العالم الخيالي الذي دارت فيه الرواية، والحقيقي بالمسلسل، له الكثير من الدلالات، التشدد الديني، سواء المتخيل أو الحقيقي، كلاهما قاد إلى نفس النقطة: محاولة السيطرة على النساء عن طريق نزع الامتيازات التي حصلن عليها على مرّ سنوات وسنوات من الصراع على حقوق المرأة، مستندين في كلا الحالتين إلى نصوص دينية أعيد تأويلها لهذا الغرض وحده.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 13 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين