لعبت الإذاعة اللاسلكية الحكومية المصرية دوراً غاية في الأهمية منذ انطلاقها في العام 1934، فالعديد من الأصوات اللامعة المتميّزة وجدت في ميكرفون الإذاعة وسيلة فاعلة للوصول إلى أذن المستمع في البيوت المصرية، على اختلاف طبقاتها الاجتماعية ومستواها التعليمي. لا شك أن الإذاعة حينها كانت بمثابة أكاديمية فنية عريقة لتخريج الأصوات الشجيّة، ومن بين هذه الأصوات التي لا يتذكرها كثيرون اليوم، المطرب والملحن محمد صادق (21/5/1916 – 11/1/1966).
محمد صادق - محفوظات عامر ندروس
غرام بالموسيقى وممانعة عائلية
لا نعرف الكثير عن محمد صادق للأسف، سوى أن والده كان من عشاق الطرب وعضواً باللجنة الفنية بنادي الموسيقى الشرقي (معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية). كان يعقد العديد من السهرات الفنية في منزله، والتي يحضرها فحول الطرب والموسيقى آنذاك. فكانت أذن صادق الطفل تتعلق بكل ما تسمعه من أنغام ونقاشات فنية يتداولها الحضور. كما اعتاد التردد إلى النادي الموسيقي باستمرار بحكم عضوية والده، حتى يستزيد من العلم والفن معاً. بالرغم من عشق والده للموسيقى، فإنه كان من أشد المعارضين لدخوله هذا المجال. فلم يسلم صادق في صباه من التوبيخ والمحاضرات المتواصلة حول خطورة مجال الغناء وأهمية الالتفات إلى الدروس والمذاكرة حتى يصبح من أصحاب الشأن في المجتمع مستقبلاً، حيث انحصرت رغبة والده في أن يصبح ابنه طبيباً يُشار إليه بالبنان.
محمد صادق في الإذاعة، من أرشيف عامر ندروس
محمد صادق أول من لحَّن وغنَّى أبيات من قصيدة "الوداع" الشهيرة للشاعر إبراهيم ناجي عام 1935، قبل أن تغنيها كل من نجاة علي عام 1954 بلحن محمد فوزي، وأم كلثوم عام 1966 بلحن رياض السنباطي، ضمن رائعة "الأطلال"
لم يَقنَعْ صادق لما استمع إليه من والده، وأخذ يعلِّم نفسه بنفسه بعد أن اقتصد من مصروفه المتواضع مبلغاً من المال واشترى به عوداً. بدأت محاولاته الفردية في تعلُّم العزف عليه. كان الفونوغراف وسيلته الوحيدة كي يروي ظمأه من الأنغام والأغنيات. أما والده فكان يحتفظ بمجموعة متنوعة من أسطوانات الشيخ سيد درويش التي أثرت فيه كثيراً، فأخذ يحفظها ويردد أنغامها على عوده. في أحد الأيام، قرر أن يترك الدراسة الثانوية نهائيّاً (مدرسة بنبا قادن) ولا يعود إليها مهما كلَّفه الأمر.
الراديو المصري، 1938، أرشيف عامر ندروس
التقى بواحد من أصدقاء والده في نادي الموسيقى الشرقي، فمد إليه يد العون وعرَّفه إلى أستاذ في الموسيقى ليعلَّمه أصول الغناء والعزف، فأخذ عنه بعض أدوار سيد درويش إلى جانب مجموعة أخرى من البشارف، قبل أن ينجح في الانضمام إلى فرقة نجيب الريحاني المسرحية، ليغني بين الفصول، وسافر معها في أولى رحلاته إلى سوريا.
لم يسلم محمد صادق في صباه من التوبيخ والمحاضرات المتواصلة حول خطورة مجال الغناء وأهمية الالتفات إلى الدروس والمذاكرة حتى يصبح من أصحاب الشأن في المجتمع مستقبلاً، حيث انحصرت رغبة والده في أن يصبح ابنه طبيباً يُشار إليه بالبنان
بعد ثلاثة أشهر عاد إلى مصر وانضم إلى فرقة بديعة مصابني وكان يغني في برنامجها فاصلاً موسيقيّاً بمفرده، حسب ما نقرأ في حوار معه في مجلة الراديو المصري، 26/11/1938.
كان صادق إنساناً رقيقاً بسيطاً في تعاملاته، وكانت تجمعه صداقة قوية بكل من الموسيقار رياض السنباطي والمطرب عبد الغني السيد. أسطواناته التي سجلها مع شركة (أوديون) كانت رائجة وناجحة، أما ألحانه فكان يغلب عليها تأثير كل من سيد درويش ومحمد عبد الوهاب. كانت طقطوقة (نوَّرت يا قطن النيل) من أشهر الأعمال الغنائية في الثلاثينيات وهي من نظم حسين حلمي المانسترلي، تم استعادتها لاحقاً في فيلم "الأرض" من إخراج يوسف شاهين عام 1970.
نجاح مستحق
منذ انطلاق الإذاعة الحكومية اللاسلكية المصرية في العام 1934، لم تكن برامجها تخلو من وصلة غنائية له، وكان اسمه حاضراً بقوة حتى منتصف الخمسينيات تقريباً. كان يغني الطقطوقة والقصيدة والدور، وهو أول من لحَّن وغنَّى أبيات من قصيدة "الوداع" الشهيرة للشاعر إبراهيم ناجي عام 1935، قبل أن تغنيها كل من نجاة علي عام 1954 بلحن محمد فوزي، وأم كلثوم عام 1966 بلحن رياض السنباطي، ضمن رائعة "الأطلال"، كما لحَّن أبيات من قصيدة الأطلال بعنوان "لستُ أنساك" وغنَّاها كارم محمود عام 1965، قبل غناء أم كلثوم لها أيضاً.
الراديو المصري-1935-أرشيف عامر ندروس
الغريب أيضاً أنه سبق المطربة فتحية أحمد إلى غناء وتلحين قصيدة "أغنية ريفية" من كلمات الشاعر علي محمود طه، قبل غنائها لها بحوالي خمس سنوات بلحن آخر للسنباطي. كان من أوائل الذين تغنُّوا بكلمات مأمون الشناوي في الإذاعة المصرية في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، بل بات من النادر أن يخلو برنامج من برامج الإذاعة من وصلاته الإذاعية خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات.
ظلَّ صادق يشدو بأغنياته وألحانه في الإذاعة حتى العام 1954 تقريباً، وعندما أرادت الإذاعة أن تستغني عنه، كان الموسيقار محمد القصبجي من الذين تصدَّوا بقوة لهذا القرار، مؤكداً أن صوته يشبه إلى حدٍّ بعيد زعيم الغناء عبده الحامولي في صباه، كما روى المؤرخ الموسيقي محمود كامل في كتابه عن الموسيقار محمد القصبجي.
كان محمد صادق إنساناً رقيقاً بسيطاً في تعاملاته، وكانت تجمعه صداقة قوية بكل من الموسيقار رياض السنباطي والمطرب عبد الغني السيد. أسطواناته التي سجلها مع شركة (أوديون) كانت رائجة وناجحة، أما ألحانه فكان يغلب عليها تأثير كل من سيد درويش ومحمد عبد الوهاب
لأهرام-12 يناير 1966-أرشيف المهندس كمال عزمي
يقول عنه الموسيقار والمؤرخ الموسيقي عبد الحميد توفيق زكي في كتابه "المعاصرون من روّاد الموسيقى العربية" عام 1993: "وقد كان لحن محمد صادق في غنائية (نوّرت يا قطن النيل) مرجعاً لكثير من مؤلفي الموسيقى التصويرية السينمائية ورقصات فرق الفنون الشعبية، إذا اقتبسوا نغماتها الحلوة في الموسيقى المصاحبة للجو الشعبي، وكان في مقدمة من اقتبسوا هذه النغمات الموسيقار الكبير فؤاد الظاهري، الفنان علي إسماعيل والمؤلف الموسيقي عازف الكلارنيت الممتاز ميشيل يوسف، ومن إليهم من مؤلفي الموسيقى، فقد كانت نغمات (نوّرت يا قطن النيل) مغرقة في الشعبية، ضاربة بجذورها في الفلكلور المصري".
فارق محمد صادق الحياة في 11/1/1966 بعد دخوله مستشفى المبرة في مصر القديمة. كان الموسيقار فريد الأطرش – رئيس جمعية المؤلفين والملحنين حينها – قد أرسل له مبلغ 35 جنيهاً، نيابة عن الجمعية، كما أورد مندوب مجلة الكواكب. وقد تلَّقى شقيقه حسن صادق صاحب شركة إيزيس للسياحة أحرَّ التعازي، خصوصاً من أعضاء معهد الموسيقى العربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...