شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كارم محمود... صوت الكروان في مئوية ميلاده

كارم محمود... صوت الكروان في مئوية ميلاده

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 22 مارس 202201:40 م

يصادف الشهر الجاري الذكرى المئوية لميلاد واحد من أعذب وأجمل الأصوات التي شهدتها الساحة الفنية العربية خلال القرن العشرين. المطرب والملحن كارم محمود (16/3/1922 – 15/1/1995) الذي لا زالت أغنياته تُستعاد إلى يومنا هذا،  عبر برامج المواهب الغنائية التي تبثها القنوات الفضائية، والذي قال عنه الناقد والمؤرخ الموسيقي فكتور سحَّاب، في نص منشور في مجلة الشراع عام 1995 :

"يمكن القول إن كارم محمود كان من أجمل الأصوات الرجالية العربية الأصولية في القرن العشرين. وكانت تبدو في غنائه ثقافته الموسيقية الزاخرة. كذلك أثبتت وقفاته المسرحية الكثيرة أن خياله الموسيقي وتمكنه من المقامات جعلاه من أقدر المرتجلين في فن الغناء العربي، فيما كانت ألحانه والألحان التي يختار غناءها من كبار الملحنين والموسيقيين العرب (محمود الشريف وأحمد صدقي وغيرهما) دليلاً على حسن ذوقه وقدرته على تقويم الألحان تقويماً سليماً، يضمن لأغنياته الانتشار الواسع وطول العمر في أسماع الجمهور، فلم يكن نجاحه فقاعة صابون سرعان ما تزول".

الحلقة الأولى من مذكرات كارم محمود، مجلة الموقف العربي 1990، إهداء من سعيد الشحات (أرشيف خاص)

النشأة والبدايات

نشأ كارم محمود في كنف أسرة بسيطة في مدينة دمنهور، عاصمة محافظة البحيرة؛ إحدى محافظات دلتا مصر. كان والده، محمود أبو رية، شيخاً جليلاً يحفِّظ تعاليم الدين ويقرأ القرآن الكريم في مسجد "سيدي عطية أبو الريش". ورث كارم وأخوته حلاوة الصوت من والدهم إلى جانب تدينهم الشديد.

فالأخ الأكبر محمد كان مشهوراً بإحياء الأفراح والليالي في أرجاء المحافظة، لكن شهرته لم تتخطاها. فظلَّ كارم لفترة طويلة يراقب في صمت طريقة غنائه، ويتعلَّم منه كيفية التأدية السليمة، إلى أن استمع إليه محمد في أحد الأيام، فتنبأ له بمستقبل باهر وتعهد بأن يرعى موهبته بقدر استطاعته.

كان كارم محمود  من أجمل الأصوات الرجالية العربية الأصولية في القرن العشرين، كما امتلك  ثقافة موسيقية زاخرة، وعكست وقفاته المسرحية  خياله الموسيقي وتمكنه من المقامات، ما جعله من أقدر المرتجلين في فن الغناء العربي

كان كارم يشدو بأغنيات "خايف أقول اللي في قلبي" لمحمد عبد الوهاب، و"والله يا ربي الحب مرار" لعبد الغني السيد، إلى جانب أغنيات أم كلثوم، و في مدرسة السعيدية الابتدائية بدمنهور، اكتشف مدرس الموسيقى توفيق حميدو جمال صوته وعذوبته، فضمَّه إلى فريق التمثيل بالمدرسة بعد أن أخذ يدربه على أصول الفن والغناء، فكان يشارك الفريق في أداء بعض الروايات العالمية على مسرح المدرسة. شارك هذا الفريق في بعض المسابقات الفنية التي أُقيمت في الإسكندرية والقليوبية، فكان يحصد المركز الأول.

كانت التجربة السابقة واحدة من التجارب التي أفادت كارم كثيراً، إذ تعرف على كيفيّة الوقوف على المسرح ومواجهة الجمهور وتدريب الصوت على الأداء السليم. عزم كارم على أن يكون مطرباً شهيراً بعد أن انبهر بمشاهدة عبد الوهاب في فيلمه الأول "الوردة البيضاء" عام 1933 في سينما البلدية بدمنهور. اندفع كارم إلى المقرئ منصور الشامي الدمنهوري ليتوسط له كي يدخل الإذاعة، فأخبره أنه لا يزال صغير السن. انقضت هذه الفترة بين تركه للمنزل والتحاقه ببعض الفرق الغنائية بالإسكندرية، حتى بدأت الصحف في تناقل أخباره، إلى أن جاء اليوم الحاسم الذي استقل فيه القطار من الإسكندرية إلى القاهرة، حسب ما نقرأ في حوار أجراه سعيد الشحَّات مع كارم محمود، في   مجلة  الموقف العربي عام 1990.

غلاف أسطوانة

في القاهرة

في شارع عماد الدين، تعهده يوسف عز الدين بالرعاية، وقدمه في برنامج السهرة الغنائي في صالته. واشتعلت منافسة بينه وبين المطرب فايد محمد فايد، الذي كان يجاوره في إحدى الصالات، وفي أحد الأيام نصحه محمد حسن الشجاعي، صديق أسرته الذي كان يعمل مدرساً للموسيقى في واحد من ملاجئ الأيتام بدمنهور، أن يلتحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية.

صمم كارم على أن يكون مطرباً شهيراً بعدما انبهر بأداء محمد عبد الوهاب في فيلمه الأول "الوردة البيضاء" عام 1933

لكن عند وصوله إلى القاهرة، اكتشف أن اختبارات العام قد جرت وأن عليه الانتظار للعام الجديد. كانت هذه الفترة سانحة لتعلّم الموشحات والعزف على العود. فتعلَّم الموشحات والأدوار على يد فؤاد محفوظ والعود على يد نجيب عباس. في أحد الأيام استمع إليه مصطفى بك رضا في معهد الموسيقى، فأُعجب بصوته وطلب من مصطفى العقاد وكيل المعهد آنذاك أن يضمّه إلى المعهد، وأن يكون ضمن طلابه.

التحق كارم بالمعهد عام 1938، بالرغم من أن العام الدراسي كان قد انقضى نصفه تقريباً ولم يتبقَ على الاختبارات سوى مدة قصيرة. فأثبت مهارة كبيرة في التحصيل وتخرج في قسم الأصوات عام 1944 وكان ترتيبه الأول على دفعته. في المعهد تعلَّم كارم الموشحات على يد الشيخ درويش الحريري، والعود على يد الأستاذ حسن غريب. بدأ في إحياء الأفراح والسهرات حتى طافت شهرته أرجاء الأحياء الشعبية. تقدم للالتحاق بالإذاعة الحكومية المصرية عن طريق المسابقة السنوية، فتم قبوله. حُددت له وصلتان إذاعيتان فاشتهر حينها بأغنيتي "محلى الدهبية" من تلحينه، و"محلى جمال الربيع" من تلحين فؤاد محفوظ.

ارتفعت أسهم كارم محمود الفنية مع ألحان أحمد صدقي ومحمود الشريف في الإذاعة، فتهافت المنتجون في السينما على التعاقد معه. فمثَّل حوالي سبعة عشر فيلماً؛ غلب عليهم الطابع الاستعراضي الغنائي. من أشهرها: "شادية الوادي" عام 1947، من بطولة ليلى مراد وإخراج يوسف وهبي، و"معلهش يا زهر" عام 1950، من بطولة شادية وإخراج هنري بركات، و"عيني بترف" عام 1950، من بطولة سعاد مكاوي وإخراج عباس كامل.

ولعل هذا الفيلم هو أجمل أفلامه، وفيه غنَّى أغنيته الشهيرة "أمانة عليك يا ليل طوِّل"، من كلمات فتحي قورة وألحانه. هذه الأغنية التي عزف عن تلحينها أغلب الملحنين الكبار بحجة أن الكلمات ضعيفة ودون المستوى، فما كان من كارم إلا أن عزم على تلحينها وأنهى اللحن كاملاً في ساعة واحدة.

ارتفعت أسهم كارم محمود الفنية إثر تعاونه مع الملحنين أحمد صدقي ومحمود الشريف في الإذاعة، فتهافت منتجو  السينما عليه، لنراه مُمثَّلاً في حوالي سبعة عشر فيلماً

له أيضاً "جزيرة الأحلام" عام 1951، من بطولة سعاد مكاوي، وفيه غنَّى أغنيته الشهيرة "على شط بحر الهوى"، من كلمات علي الشيرازي وألحان محمود الشريف، و"دستة مناديل" عام 1954، من بطولة نجاح سلام وإخراج عباس كامل. فباتت السينما من بطاقات التعريف الأساسية التي اعتمدها الجمهور في التعرّف إلى صوت كارم محمود العذب، كما تداولت الصحف والمجلات الفنية أخبار نجاحاته السينمائية، وأصبح من الوجوه المعروفة على خارطة الغناء العربي، حتى تمت دعوته إلى إحياء بعض الحفلات والسهرات في كازينو طانيوس بعالية في لبنان.

بدأ التفكير بإنشاء إذاعة "صوت العرب" في السنوات الأولى لقيام ثورة 23 يوليو 1952، وخطر على بال الشاعر صالح جودت (أول مدير لها) نظم قصيدة وطنية لهذه المناسبة، فطلب من الشاعر عبد الفتاح مصطفى والملحن أحمد صدقي أن يصيغا هذه الفكرة. فخرجت أنشودة "أمجاد يا عرب أمجاد" التي تغنَّى بها كارم محمود وأصبحت من العلامات في مسيرته الغنائية.

غنَّى كارم مجموعة من الأوبريتيات والصور الغنائية الجميلة في الإذاعة، مثل "عوف الأصيل" و"قطر الندى" و"يا حلو ناديني" و"علي بابا والأربعين حرامي" وهي من تلحين أحمد صدقي. كانت له تجربة متميزة مع الرحابنة وفيروز أثناء زيارتهم الأولى للقاهرة في منتصف الخمسينيات، فسجَّل معهم مغناة "راجعون" بمشاركة أوركسترا القاهرة السيمفوني، قبل أن يعاود الرحبانيان تسجيلها مرة أخرى عند عودتهما إلى لبنان، بمشاركة أوركسترا الإذاعة اللبنانية وقيادة توفيق الباشا وصوت ميشال بريدي. إلى جانب أوبريت "حكايات الربيع" و"حلم الصباح" وبرنامج "زرياب".

لا زالت أغنيات كارم محمود تُستعاد إلى يومنا هذا ضمن برامج المواهب الغنائية، وخصوصاً  أغنية "عنابي" ، و"سمرا يا سمرا" و"على ورق الورد" ، و"والنبي يا جميل" 

لا زالت أغنياته إلى يومنا هذا تُستعاد ضمن برامج المواهب الغنائية، وخصوصاً "عنابي"، من كلمات كامل الإسناوي وألحان حلمي أمين، و"سمرا يا سمرا" و"على ورق الورد" من كلمات أحمد منصور، و"والنبي يا جميل" من كلمات مصطفى الطائر وجميعها من ألحانه.

طاف الرجل بصوته أشهر المسارح العربية وغنَّى في الشام والمغرب العربي. سجَّل نشيد "الأحرار الخمسة" لمساندة الشعب الجزائري في نضاله ضد الاحتلال الفرنسي. سافر لإحياء الحفلات في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فنال أرفع النياشين من خمس دول عربية؛ من بينها شهادة تقدير ووسام رفيع من الحكومة الجزائرية، وتم تكريم اسمه في مهرجان الموسيقى العربية بالقاهرة عام 2000 إلى جانب إصدار طابع بريد تذكاري يحمل صورته.

صادف هذا الصعود الكبير لكارم محمود ورفاقه، بزوغ نجم عبد الحليم حافظ في منتصف الخمسينيات. فبدأ نشاطه الفني يقل تدريجيّاً، واتجه من جديد لإحياء الحفلات العامة في مسارح الشام، والغناء للجاليات العربية المقيمة في الدول الأجنبية؛ مستعيناً بصوته الفتي وثقافته الموسيقية الواسعة التي اكتسبها عبر رحلته الغنائية التي تجاوزت نصف قرن. بالرغم من عودته مرة أخرى في تسعينيات القرن الماضي، عبر إعادة تقديم أغنياته البارزة بأسلوب عصري وتوزيع جديد، فإن هذه التجربة لم تحظَ بالنجاح المطلوب. فاكتفى بالغناء في بيته وسط أقاربه وأحبابه حتى فارق الحياة بعد رحلة علاج في مستشفى سانت ماري بلندن عام 1995.


النعي، الوفد، 16 يناير 1995 من محفوظات المهندس كمال عزمي

والحق يُقال بأن مقالة واحدة لا تكفي لإعطاء هذا الفنان الرقيق حقه، ولعل أبرز ما سُطِّر عنه كتاب "أمانة يا ليل كارم محمود" الصادر عن سلسلة "عالم الموسيقى" بالهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2015، للناقدة الموسيقية د. ناهد عبد الحميد، والذي ألقت فيه الضوء على سيرته وأبرز المحطات الفنية في حياته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image