تأتي الثورات محملة بأحلام وتطلعات كبرى للمستقبل، لكن المكاسب لا تجنى سريعاً على أرض الواقع، وقد مر الفرنسيون في القرن التاسع عشر بسلسلة طويلة من الاضطرابات السياسية، عصفت بحياة الملايين، وأجهضت الكثير من أحلام الثورة الفرنسية.
ولد فيكتور هوجو (1802-1885) في هذه الحقبة من تاريخ بلاده، وأصبح شاعراً وأديباً مرموقاً في مجتمع ممزق، بين صراعات الحكم، وباء الكوليرا وتبعات الثورة الصناعية، ولأن المبدع الحقيقي ليس بمعزل عمن يكتب لهم، بدأت أفكاره المنحازة للملكية، تأثراً بوالدته، تشهد تحولات جذرية بفعل النضج والتجربة، وأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن قضايا الحريات العامة.
نزعته الرومانسية جعلته مهموماً بآلام البسطاء، يتأمل أحوالهم، ويتتبع قصصهم المتشبعة بالقهر والفساد، ولم تقو روحه على تحمل ظلم القوانين وظلمة المجتمع، فشرع في كتابة روايته الخالدة "البؤساء" طامحاً في تحسين واقع المعذبين في الأرض.
لم ينجزها دفعة واحدة، فقد استغرق سنوات في كتابتها، مارّاً بفترات توقف، وانشغال بنضاله السياسي، ومشاريعه الإبداعية الأخرى. وبعد تعرضه للنفي أصبح إنهاؤها أمراً حتمياً لا يقبل التأجيل.
نشيد الحرية، وإنجيل العدالة الاجتماعية، وسيمفونية التقدم البشري.
يصفها المترجم منير البعلبكي في مقدمته الأخاذة عنها: "إنها بكلمة نشيد الحرية، وإنجيل العدالة الاجتماعية، وسيمفونية التقدم البشري، عبر العرق، والدم، والدمع، نحو الغاية التي عمل من أجلها المصلحون في جميع العصور: تحقيق إنسانية الإنسان وإقامة المجتمع الأمثل".
لقيت الرواية، الصادرة عام 1862 في خمسة مجلدات، رواجاً عظيماً، ليس في فرنسا وحدها، بل في جميع أنحاء أوروبا. حيث كان الناس يصطفون أمام المكتبات مثلما يفعلون في طوابير الخبز، وكانت مئات النسخ تنفذ في غضون ساعات قليلة. ورغم التحفظات النقدية آنذاك، تعلق كثيرون ببطلها جان فالجان، ومن يلتقيهم في رحلته العابرة للزمان والمكان.
باتت الرواية واحدة من أهم كلاسيكيات الأدب العالمي، تكاد لا تخلو لغة من ترجمة لها، ومن الصعب أن تغيب عروضها عن مسارح العالم لمدة طويلة، يستحضرها السينمائيون في فترات مختلفة من تاريخ الشعوب، ويعاد إنتاجها بصيغ وأساليب متباينة، دون أن تفقد بريقها مع مضي الوقت.
استدعينا "البؤساء" في السينما المصرية مرتين؛ الأولى في عهد الملكية على يد المخرج كمال سليم، والثانية خلال الحقبة الساداتية، حاملة بصمة المخرج عاطف سالم.
البؤساء (1943): ميلودراما منزوعة السياسة
في النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي، كانت المعارك المشتعلة بين قوات الحلفاء ودول المحور في أوروبا، تؤثر على حياة الناس في غالبية بقاع الأرض، وتفرض عليهم ظروف معيشة قاسية.
وتروي الصحف المصرية أن السواد الأعظم من الشعب، كان يعاني بسبب شح الغذاء، وانتشار الأوبئة، فضلاً عن عودة الأحكام العرفية.
شعر المخرج كمال سليم بأن هذه الأجواء الخانقة تتماثل مع عالم "البؤساء"، وقرر أن يعمل على تمصير الرواية المتماشية مع ميله السينمائي. فهو رائد الواقعية، الذي كان فيلمه "العزيمة" حدثاً مهماً في مسار السينما المصرية، نقلها إلى حياة الحارة الشعبية وشخوصها البسطاء، وتعرض إلى مشاكلهم وآمالهم.
توافقت رغبة سليم مع قناعات المنتج، ميشيل تلحمي، الذي دافع عن الاقتباس، قائلاً: "كان الدافع لي على اختيار رواية (البؤساء)، هو نفس الدافع الذي حدا بالشركات الأمريكية والأوروبية إلى إنتاج هذه القصة الخالدة، التي تعالج أمراض العالم ومشاكله الاجتماعية، ولما كان للشرق نصيب من هذه الأمراض والمشاكل كما للغرب، فلذلك أنتجنا هذا الفيلم لنتمم ما سبق أن قام به الغرب".
حافظ الفيلم على هيكل الرواية وأحداثها الميلودرامية، التي تبدأ بإطلاق سراح جان فالجان بعد 19 عاماً قضاها في السجن نظير سرقته الخبز، تحت وطأة الجوع، وتكرار هروبه من قبضة السجان.
ابتعدت عن السياسة، وتحاشت الحس الثوري، وتحولت النزعة المسيحية إلى إسلامية وتعاطُف البطل مع شخصية فقيرة إلى قصة حب... عن النسخة السينمائية المصرية الأولى من "البؤساء"
يلفظه المجتمع، لكن القدر يقوده إلى لقاء أسقف يوقظ الإيمان في قلبه، ويمنحه ما يحتاج للبدء من جديد.
يحقق فالجان الثراء، ويقابل فانتين، وهي في أقصى درجات الشقاء والسقوط، يتعهد لها قبل وفاتها بإنقاذه ابنتها كوزيت، وينشئها في كنفه.
ورغم محاولاته لإغلاق باب الماضي، فإن غريمه الضابط جافير، ظل يطارده لسنوات طويلة ساعياً إلى تطبيق القانون بحرفيته دون روحه.
تحولت النزعة المسيحية في الرواية إلى إسلامية، وتعاطف فالجان مع فانتين إلى قصة حب، لكن بشكل عام حرص كمال سليم على الالتزام بتفاصيل مهمة في الرواية، مثل الصراعات الداخلية المختلفة التي يمر بها فالجان، أو كما سماه في نسخته الشرقاوي (عباس فارس) وإن كان اعتمد في تقديم ذلك على الحوار فقط.
أما المأخذ الأساسي على هذه النسخة، فهو ابتعادها التام عن الجانب السياسي، وتحاشيها للحس الثوري المميز لكلاسيكية فيكتور هوجو. فالرواية ليست عرضاً اجتماعياً يقتصر على نقد الفقر وانعدام العدالة في المجتمع، لكنها في الأصل ملحمة عظيمة تمزج بين الخاص والعام، وتربط واقع البشر بالظرف التاريخي والسياسي.
تتعرض الرواية إلى سوء استخدام السلطة وأحلام الشباب في التغيير، وتنتصر للتمرد على القمع والطغيان. كتبها الأديب الفرنسي منادياً بالتعاليم الإنسانية والاشتراكية التي آمن بها، ويقارب في ثناياها بين شعارات الثورة الكبرى وحياة الشخصيات ومصائرها البائسة.
كذلك تنأى نسخة 1943 عن نهاية الرواية الحزينة ومرثيتها للمهمشين، وتتجه نحو خاتمة سعيدة كحال أفلام هذه الفترة الزمنية. فلا نرى جافير (سراج منير) ينتحر في النهاية بعدما ينقذه غريمه، ويقابل بغضه بعفو وإحسان، كما لا يتعذب جان فالجان بسبب ابتعاده عن كوزيت (سعاد حسين) بعد زواجها، وإنما يعيش الجميع في هناء.
بالتأكيد كل هذه الخيارات أثرت كثيراً على مضمون العمل المعروض على الشاشة، وأفقدته قوة تأثيره، ومصداقيته.
ومثلما هناك تفاوت كبير بين حالة الفيلم في بدايته ونهايته، يوجد أيضاً تباين بين الأداء التمثيلي لأبطاله. فمثلاً يقدم سراج منير أداءً متزناً لرجل القانون، الذي لم يعرف طوال حياته سوى طاعة الأوامر، ويتعامل مع كل شيء بحزم دون مواربة.
في المقابل تبالغ أمينة رزق خلال تجسيدها لشخصية فانتين، وتغرق في البكائيات، رغم أن الدور نفسه مختلف عن الصورة النمطية التي اشتهرت بها.
أما عباس فارس فقد كان مفتعلاً في البداية، ثم ضبط انفعالاته بعدما صار غنياً خلال الأحداث!
البؤساء (1978): اقتراب من الرواية وتستّر بالماضي
في نهاية السبعينيات، كان الممثل فريد شوقي يقترب من عمر الستين عاماً، لكنه لا يزال شغوفاً بمهنته، ومقبلاً على الاستمتاع بأدواره المتنوعة.
وبدا أن الوقت قد حان ليقدم شخصية جان فالجان، التي طالما حلم بتجسيدها على الشاشة، وكان صغر السن يحول بينه وبينها. وقرر أن يكون الفيلم من إنتاجه حتى تخرج ملحمة فيكتور هوجو في أفضل صورة ممكنة.
يقول: "استهوتني قصة البؤساء كما استهوت الأدباء والفنانين في جميع أنحاء العالم... وقد عشت شاباً هاوياً للتمثيل، ودارساً بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وممثلاً محترفاً ومشترك بالتمثيل في أكثر من مائتين وخمسين فيلماً، عشت هذا العمر الفني، وأنا أحلم بتمثيل شخصية جان فالجان في هذه القصة".
اختار فريد شوقي التعاون مع المخرج عاطف سالم، ليصنع بحساسيته المتفردة للواقع عملاً مصرياً له خصوصيته، بصرف النظر عن الاقتباس.
تتعرض رواية "البؤساء" إلى سوء استخدام السلطة وأحلام الشباب في التغيير، وتنتصر للتمرد على القمع والطغيان. كتبها الأديب الفرنسي منادياً بالتعاليم الإنسانية والاشتراكية التي آمن بها، فكيف تم تمصيرها سينمائياً في مصر؟
وبالتأكيد كان يطمح في نجاح مشابه لفيلمهما الأول معاً "جعلوني مجرماً" الذي ساهم في رفع السابقة الأولى من الصحيفة الجنائية، ومنح المخطئ فرصة للبدء من جديد.
تولى أيضاً رفيق الصبان وأحمد بهجت كتابة السيناريو، وكان الأول قد اشتهر بتحويل مسرحيات وروايات عالمية إلى أفلام.
تقترب هذه النسخة أكثر من عالم الرواية، وتتلامس مع أفكارها بصورة أفضل، كما تلتزم بغالبية خيوطها السردية ومصائر شخوصها.
تحضر السياسة هنا، لكن بدلاً من تناول آثار الانفتاح الاقتصادي على حياة المصريين في عهد السادات، أو التعرض للأحداث السياسية المهمة التي عايشوها في هذه الحقبة، مال صناع الفيلم إلى حيلة العودة إلى الماضي، ودارت الأحداث في عهد الملكية، وركزت على انتفاضة الطلبة، والحركات العمالية في منتصف الأربعينيات.
يخدم هذا الخيار السياق العام للقصة المُمصرة، وإن كان أثره باهتاً على الشاشة رغم محاولة إبرازه فنياً بالتصوير الأبيض والأسود.
يصبح جان فالجان في نسخة عاطف سالم هو حامد حمدان، نصير المظلومين الذي تضاعفت سنوات سجنه بسبب دفاعه عن زملائه في البؤس، وليس بفعل هروبه، وكأنه أيقونة للعدالة تشهد حياته على غيابها. يجسده فريد شوقي بسلاسة، وبتعبيرات منضبطة، مستوعباً صراعاته النفسية وماضيه، الذي يثقل كاهله وغضبه المكتوم.
أما غريمه جافير، الذي يقدمه عادل أدهم، فإنه دكتاتوري شرس، يحتقر الخارجين على القانون، ويبطش بهم دون رحمة إيماناً منه بأنهم لا يتغيرون.
لذلك، حينما يحرره جان فالجان من قبضة الثوار، تضطرب أفكاره، وتهتز قناعاته، ويفضل الانتحار.
حاولت النسخة السبعيناتية التخفيف من حدة الطابع الحزين للقصة بمشاهد بها قدر من الخفة، لكنها بشكل عام انشغلت بالتعبير عن تيمات الرواية البارزة، مثل الصراع بين الخير والشر، والتضحية عوضاً عن الطمع، والحب في مواجهة قبح العالم.
في النهاية، نأمل أن نشاهد قريباً نسخة سينمائية معاصرة، تتلافى المآخذ الواردة في الفيلمين، وتقدم معالجة أكثر حيوية وجرأة. فالسينمائيون في مختلف أنحاء العالم لن يتوقفوا عن استدعاء تحفة فيكتور هوجو، "ما دامت مشكلات العصر الثلاث- الحط من قدر الرجل بالفقر، وتحطيم كرامة المرأة بالجوع، وتقزيم الطفولة بالجهل- لم تحل بعد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع