يعيش أهل بلدي
في 11 أيار/مايو من عام 1953، وبعد قيام ثورة الضباط الأحرار، كتبت السيدة روز اليوسف خطاباً مفتوحاً للرئيس جمال عبد الناصر، نشرته في مجلتها: "الحرية هي الرئة الوحيدة التي يتنفس بها الشعب، أنت في حاجة إلى الخلاف تماماً كحاجتك إلى الاتحاد"، ورد عليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر بخطاب "أنه لا يخشى من إطلاق الحريات".
بعد أقل من عام، يسجن ابنها إحسان عبد القدوس الملقب وقتها بـ"كاتب الثورة الأول" وصديقه وأكبر المتحمسين له وللثورة، وكان على علاقة جيدة بالضباط الأحرار، اعتُقل في السجن الحربي بسبب مقاله التاريخي "الجمعية السرية التي تحكم مصر"، وقد امتنعت السيدة روز اليوسف عن نشر أية أخبار عن الثورة وقتها، كطريقة اعتراض، وقد خرج ابنها بعد ثلاثة شهور...
داخل سجن الوطنية
دائماً تصطدم السلطة مع الآراء المعارضة لها، وهناك كثير من الشد والجذب حول الآراء وطريقة صنع القرار، وبعيداً عن صحة تعامل عبد الناصر، فهذا ليس بالموضوع الأساسي، فالتاريخ ممتلئ بحكايات كثيرة عن الكر والفر ولعبة القط والفأر في أي دولة وكل الأزمنة، وما بين وجهات النظر بين نظام الدول التي لا تذيع كل شيء وتحافظ على أمن دولها ومقدراته من أي خطر والمؤامرات، وبين الشباب النابض المثالي، تقع دائماً الأزمات واختلاف وجهات النظر.
كان مهماً أن نعرف تأثير ما يحدث داخل النفس البشرية في السجن وما بعده، وبالذات للسجناء غير المدانين بقضايا جنائية.
نجد الشاعر "و. ل" وقد تم حبسه في قضايا التظاهر في فترات بعيدة سابقة، وقضى فترة حبسه الاحتياطي وتم إخلاء سبيله. يقول ذكرياته في أول ليلة بعد خروجه من السجن، إنه رغم سعادته كان هناك شيء غير متزن داخله، يتحول لكثير من الأحيان لإحساس بالذنب، وترك السرير والنوم على الأرض، وعدم أخذ راحته بالأكل، فيأكل القليل. يشعر أنه بالخارج ورفقاؤه موجودين بالداخل، شعور غير مستحب بالمرة. جسده معه لكن روحه لا زالت هناك محبوسة، يتكلم أيضاً ونبرة عالية في صوته (ربما أيضاً من تأثير السجن والباب الحديدي الذي كان سمكه ثلاثين سنتيمتر وطوله مترين).
يقول إن أغلبية المسجونين يخرجون بتغير مزاجي كبير وتقلبات شديدة، هناك من الأصدقاء والأهل يتفهم ذلك، وهناك لا يفعل.
سألته: هل بكيت داخل السجن؟ فرد مازحاً: نعم، ولكن لا تضحك علي عندما أخبرك. قال: مرة عندما أردت مرة أن أكتب قصة، فصدقتها فبكيت. القصة التي أراد أن يكتبها لبابا نويل ليمر عليهم في ليلة رأس السنة في "الزنازين"، يترك علب الهدايا؛ وقد ترك مفتاح زنزانته في علبة.
كتبت السيدة روز اليوسف خطاباً مفتوحاً للرئيس جمال عبد الناصر: "الحرية هي الرئة الوحيدة التي يتنفس بها الشعب"، ورد عليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر بخطاب "أنه لا يخشى من إطلاق الحريات". بعد أقل من عام، يسجن ابنها إحسان عبد القدوس... مجاز
أسعد لحظاته التي لا تقدر بثمن هو وقوفه في ركن بجانب الحمام لعمل القهوة، مهما أخذ من وقت؛ أنت مفصول تماماً عن الزمن، وأن فكرة القدرة على فعل شيء، مهما كان ضئيلاً، فهو شيء مشبع للنفس.
التغير المزاجي الشديد وتقلب المشاعر يكوّنان الطابع المسيطر بين معظم الذين خرجوا من السجن.
الجوع العاطفي.. يخرج مشتاق أن يبادل ويتبادل الحب بأي طريقة، يرد: نعم خطأ ولكني ساعتها لا أفكر هكذا. هو يفكر في تعويض هذا الجوع بأي طريقة. سألته: وهل فعلت هذا؟ فيجيب: بسهولة بعد فشل علاقة قصيرة مع واحدة ينساها بكوب قهوة (على حد تعبيره) ويدخل في علاقة أخرى غير متذكر الأولى، بل ويمكن دخوله في ثلاث أربع علاقات مرة واحدة، أملاً فقط أن يسد هذا جوعه العاطفي، أن يبحث عن احتواء، عن رد ثقة لنفسه دون وعي منه...
سألته: ما هو أفضل حاجة في السجن؟ رد: أن تتعرف على الناس من مختلف الأفكار والطبقات والأيدولوجيات والمعتقدات، وربما لو تحول خارج السجن كما داخله في هذه النقطة لتم تغير المجتمع وتقبل الآخر.
الخيال: باب السجن السحري
صراع الأفكار وقوة صمود الشخص يعتبر معياراً واختباراً قوياً لقناعاته بأفكاره.
خرج وعبّر عن أحزانه داخل ديوان شعر، كتبه بالكامل طوال فترة حبسه، وكان في بعض الأحيان يدون بعض أبيات قصائده على الجدران. لم تكن جدران السجن عائقاً لخياله، بل ربما الخيال هو الباب السحري للحرية في هذه الأوقات، نعمة لا يقدرها غير من استخدمها وفتح أبوابها.
والجدران الرمادية في هذا المكان لها فائدة عظيمة؛ يمكنك أن تعلق ملابسك، حاجياتك في أكياس مربوطة بقضبان النوافذ، ويكمل: كنا أيضاً نضع صور البنات على حائط، خلف ستارة ما، خفية عن العساكر والضباط وأوقات التفتيش.
الشاعر أحمد شوقي قال: "في مصر كل شيء ينسى بعد حين".
المجد للسجناء، من تخطوا الألم برسمة وصوروا الحب في وردة، من تعلقوا بالكلمات لتنقذهم مرات من الغرق داخل أنفسهم، من اختاروا التسلق على الجبل ليشاهدوا ماذا يحدث خلفه، فاندهشوا وصمتوا وكتبوا ورسموا، وجعلونا نرى ماذا يحدث داخلهم بنبل ورقة...مجاز
الرسام "ع. و" تم حبسه في فترات بعيدة سابقة في أحد قضايا التظاهر، يخبرنا أنه كان يسهر طوال الليل يرسم أمام الحمام، متخذاً مساحة صغيرة ومتاحة ليدخل أبواب الخيال ويسافر بعيداً عن حبسة جسده، يلفته أشكال البطاطين والستائر الموضوعة والتي تستخدم كأبواب لدورة المياه.
يحكي أن الحمام في السجن مكان مهم، فهذه المساحة الوحيدة التي تشعر فيها أنك غير مراقب، أو تستطيع أن تختلي بنفسك فيها.
تظل لوحات الرسام التي تحكي عن مناظر رآها داخل السجن مميزة، منها لوحة لطفل صغير يتمرجح على نافذة السجن، ويقول إنه صنعها بنفسه هذه المرجيحة للترفيه عن نفسه وعن الأخرين.
تراه طوال الوقت وهو يكلمك مرتاباً، يلتفت حوله وعيناه تتحركان باستمرار. مشتت ودائم الحركة، ربما الخوف من الملل، أو التعود من الالتفات حوله؛ عادة اكتسبها من وجوده وسط مجموعات حوله من الناس.
يتذكر بعض المواقف الطريفة، منها على سبيل المثال أنهم كانوا يجيئون بأطباق البيض الكرتون ويملؤون فراغاته بالتراب، ثم يأتون ببعض البذار من الفواكه أو الخضروات المتاحة أو ما توفر لهم، ويزرعونها، ويضعونها مثلاً بين القضبان النافذة، فتخيل أن تنمو بعض الزروع بين القضبان.
الحبال والحقائب المتدلية من الجدران والتي تحمل أشياءهم يطلقون عليها اسم "عصفورة".
عودة للفن
الموسيقى والأغاني لها قدرها وأهميتها في هذه الأماكن، بل تجد بعض المتزمتين، أو المحبوسين في قضايا تطرّف، يتغنون بأناشيد، وربما تجد واحداً فيهم يدندن بعض كلمات لأغاني أم كلثوم، تستحضرها ذاكرته الماضية.
الآن يخصص بعضاً من وقته يجول يصنع خيراً؛ يرسم الناس في الطرقات، على الأرصفة، بين الممرات، في الأزقة، وعلى المقاهي وداخل عربات المترو.
مداواة السجين نفسياً بعد السجن مهمة، وبالذات نفسية المبدع، فهو أكثر حساسية، ورغم أن الخيال قوة تساعده في الهروب وهو لا يزال بالسجن، لكنها قادرة على تفتيته بعد ذلك، أو صنع فنان عظيم.
المجد لهؤلاء الناس من تخطوا الألم برسمة وصوروا الحب في وردة، من تعلقوا بالكلمات لتنقذهم مرات من الغرق داخل أنفسهم، من اختاروا التسلق على الجبل ليشاهدوا ماذا يحدث خلفه، فاندهشوا وصمتوا وكتبوا ورسموا، وجعلونا نرى ماذا يحدث داخلهم بنبل ورقة.
عندما سألتهما: هل ستكرران نفس الماضي في مستقبلكما لو أتيحت لكما الفرصة؟ فكان ردهما مكرراً، كأنهما التحما وتحولا لشخص واحد يكلمني: لا نريد، فقط نريد أن نعيش لأنفسنا وأسرنا وفنّنا، هذه حياتنا الآن، وأن دورنا فقط وحياتنا التي نريد أن نعيشها هي اللحظة الخضرة، وعدم الالتفات للماضي والدخول في تفاصيله مرة أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...