يوم السبت 14 أيار/ مايو، عند الخامسة والنصف مساءً، خرجت غالية بابا، اللاجئة الصحراوية والفنانة التشكيلية، من بيت خطيبها وعائلته في حي كاربايو في إقليم غاليسيا في إسبانيا، متجهةً إلى مكان لم تخبر أحداً به، تاركةً تليفونها المحمول في البيت نفسه. انتقلت غالية إلى العيش مع خطيبها قبل فترة قصيرة، بعد أن عاشت سنوات في مخيم اللاجئين تلتها سنوات أخرى في بيت عائلة جاليقية تبنتها. وفي الثامنة والنصف من اليوم نفسه اكتشف خطيبها اختفاءها وفقد الاتصال بها، وتواصل مع أصدقائهما ومعارفهما من دون جدوى. كانت أسباب القلق عليها منطقيةً في حالتها تلك، فالفتاة ابنة السادسة والعشرين عاماً لها صداقات محدودة في المنطقة، أغلبها من رفاق المخيم، وأماكن تجوالها محدودة كذلك، وترك التليفون المحمول في البيت أثار القلق من ناحية أخرى.
في الليلة نفسها، تلقت الشرطة الإسبانية بلاغاً عن الاختفاء، وتلقت المستشفيات اتصالات هاتفيةً للبحث عن فتاة خمرية وقصيرة ونحيفة اختفت قبل ساعات. الشرطة، المعتادة على هذا النوع من الاختفاءات المتكررة في السنوات الأخيرة لشابات متزوجات أو عزبات، تحرّكت وطلبت التعاون من المدنيين. ظهرت صورة غالية برفقة كلمة "مختفية" ووصف لها. تحرك الحرس المدني والشرطة المحلية في لاكورونيا برفقة الكلاب المدربة للبحث في المناطق التي اعتادت الشابة الصحراوية على التردد إليها، وشارك أصدقاء لها وكذلك متطوعون تابعون للتطوع الإسباني في البحث عنها. لكن لا أثر لها، ولا طريق للوصول إليها.
بعد ما يقرب من 48 ساعةً، أي الإثنين 16 أيار/ مايو، وبعد أن تلقت الشرطة العديد من الانتقادات لعدم الإدلاء بأي معلومات حول حادثة الاختفاء، عثر الجهاز الأمني، كما كان متوقعاً، على جثة غالية بابا في إحدى الغابات التي يصعب اجتيازها
قتل امرأة أم قتل امرأة أجنبية؟
بحسب مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، 58% من النساء المقتولات في العالم في عام 2017، كان المتهم الأول في قتلهن هو الزوج/ الطليق، أو الخطيب/ الخطيب السابق. الإحصائية ترصد قتل 153 امرأةً يومياً على يد أحد أفراد أسرتها، والأسباب تتعلق بالخيانة الزوجية أو الهجر من دون رضا الطرف الآخر، وأحياناً الشكوك غير المثبتة التي تقع موقع الوساوس وتتفاقم. في معظم الأحيان القاتل هو من يبلّغ عن الاختفاء لإبعاد الشبهة عنه، وأحياناً يحدث في مكان بعيد عن مكان الإقامة. إسبانيا ليست بعيدةً عن هذه الإحصائية، فأكثر من ألف امرأة تعرضت للقتل على يد زوج أو طليق في 2003، من دون إضافة القتيلات على يد شركاء عاطفيين أو رفاق، ومن دون إحصاء عدد الاغتصابات الجنسية أو قتل أبناء الزوجة لمعاقبتها. وفي إحصائية عام 2019، 11% من النساء من سن 16 سنةً وما فوق تعرضن لعنف جسدي أو جنسي من أزواجهن، وهذه النسبة تتجاوز بالأرقام مليوني امرأة. النسبة تصل إلى 24% في حالة رجال ليس لهم علاقة بالمرأة المعتدى عليها.
بالرغم من أننا قد نبدو أحياناً على عكس الحقيقة، وثمة أفراد في وسعهم التظاهر بالفرح في قمة أحزانهم، إلا أن شهادة القريبين من غالية عن طبيعتها الشخصية تفرض افتراضاً آخر، وعلامة استفهام كبرى حول رواية انتحارها.
تعمل العديد من المواقع النفسية المتخصصة على تحليل ظاهرة قتل الزوجات، وترفع الجمعيات النسوية والمجتمع ككل شعار لا للعنف ضد المرأة للحد من قتلها. إذا كان ذلك يحدث مع إسبانيات في بلدهن وفي ثقافتهن ومن رجال يعيشون في الثقافة نفسها، فاللاجئات أو المهاجرات عُرضة لأضعاف ذلك، خاصةً أنهن لا يتمتعن بحقوق المواطنة نفسها، وأحياناً يكنّ من دون أوراق قانونية للإقامة. هل غالية بابا تنطبق عليها هذه الفرضية؟
بعد ما يقرب من 48 ساعةً، أي الإثنين 16 أيار/ مايو، وبعد أن تلقت الشرطة العديد من الانتقادات لعدم الإدلاء بأي معلومات حول حادثة الاختفاء، عثر الجهاز الأمني، كما كان متوقعاً، على جثة غالية بابا في إحدى الغابات التي يصعب اجتيازها. كانت الفتاة الصحراوية بكامل ملابسها، ملقاةً على وجهها، ولا آثار لعنف على جسدها، وبجوارها خطاب بخط يدها غالباً، لم يُترجَم بعد. الافتراض الأولي للنيابة يشير إلى حادثة انتحار، ويُفترض أنها تمت بتناول أقراص. ولم يظهر بعد تقرير الطب الشرعي الذي يؤكد هذه الرواية. لكن في حالة صحتها، ما الأسباب التي تدفع فتاةً واعدةً في الفن التشكيلي وتحظى بشعبية في محيطها إلى الانتحار؟ ولماذا حدث ذلك بعد إقامة قصيرة في بيت خطيبها ولم يحدث خلال سنوات قضتها في بيت عائلتها الجاليقية التي تبنتها؟
الذين عرفوا غالية وصفوها بأنها "فتاة مبهجة ودائمة الابتسامة"، و"فتاة مقبلة على الحياة ومحبة لها". وبالرغم من أننا قد نبدو أحياناً على عكس الحقيقة، وثمة أفراد في وسعهم التظاهر بالفرح في قمة أحزانهم، إلا أن شهادة القريبين من غالية عن طبيعتها الشخصية تفرض افتراضاً آخر، وعلامة استفهام كبرى حول رواية انتحارها.
ثمة إجماع على أنه كان أمامها مسيرةً فنيةً واعدةً تستلهم فيها ماضي قريتها الصحراوية البائس. وفي معرضها الأخير، المفتوح حتى 20 حزيران/ يونيو في قاعة البروفسور مانويل مولدس الجامعية، يمكن رؤية كيف استحضرت الصحراء في أعمالها لتعيد بناء ذاكرة السكان المنسيين في وطنها الأم
فنانة واعدة
كانت غالية بابا على وشك الانتهاء من دراسة الفنون الجميلة في جامعة بيجو، وتجهّز مشروع التخرج. وبعد سنوات من الحياة في لا كورونيا والعمل كنادلة في أحد المطاعم، انتقلت للحياة في كاربايو مع خطيبها وعائلته. ثمة إجماع على أنه كان أمامها مسيرةً فنيةً واعدةً تستلهم فيها ماضي قريتها الصحراوية البائس. وفي معرضها الأخير، المفتوح حتى 20 حزيران/ يونيو في قاعة البروفسور مانويل مولدس الجامعية، يمكن رؤية كيف استحضرت الصحراء في أعمالها لتعيد بناء ذاكرة السكان المنسيين في وطنها الأم. وبحسب إغناثيو بيريث خوفري، الأستاذ الجامعي والمشرف على المعرض، استطاعت غالية أن ترفع صوت الصراع الممتد منذ سنوات وتسلط الضوء على الألم.
المرأة المهاجرة لا تلقى الدعم التام من المجتمع، والقوانين نفسها لن تدعمها ما لم تثبت تعرضها للعنف
تتميز لوحات غالية، التي أتمّت الخامسة والعشرين من عمرها في شباط/ فبراير الماضي، باستخدام تقنيات متنوعة في الرسم وبموهبة مذهلة. تميل إلى استخدام الزيت على قماش، وتركّب تيارات فنية عدة مثل الواقعية والتجريدية والتعبيرية. لقد فتحت لها موهبتها أبواب المعارض الجامعية في أثناء دراستها، كما شاركت في معارض متعددة في كلية الفنون الجميلة في جامعة بيجو، وتلقت الكثير من الإطراء لأسلوبها الفني وتقنيتها. بالإضافة إلى ذلك، كانت واحدةً من الرسامات البارزات في افتتاح معرض Rueiro de artistas، في أعياد الكريسماس عام 2020. في المعرض، استخدم الفنانون الواجهات التجارية كما استخدموا جدران الشوارع.
بين القتل والانتحار
بالرغم من أن تقرير الطب الشرعي لم يُنشر بعد، وتالياً لم تحسم النيابة القضية سواء أكانت قتلاً أو انتحاراً، إلا أن التكهنات تشير إلى القتل، وتحديداً لغياب الدافع للانتحار، وعدم وجود أي أدلة لمرور غالية بأي أزمة نفسية سابقة أو معاناتها من الاكتئاب والميول الانتحارية. الحادثة، بحسب هذا التكهن، لا يمكن فصلها عن هوية الضحية، فأسباب قتل امرأة أجنبية واردة خاصةً لو كانت صحراويةً، وعربيةً، ومسلمةً، وإفريقيةً، في المجتمع الإسباني. امرأة لها نشاطها الفني الداعم لوطنها الصحراوي، وناجحة في مجتمع يصعب فيه نجاح المهاجرات خاصةً القادمات من مخيمات اللاجئين.
بالرغم من أن تقرير الطب الشرعي لم يُنشر بعد، وتالياً لم تحسم النيابة القضية سواء أكانت قتلاً أو انتحاراً، إلا أن التكهنات تشير إلى القتل، وتحديداً لغياب الدافع للانتحار، وعدم وجود أي أدلة لمرور غالية بأي أزمة نفسية سابقة أو معاناتها من الاكتئاب والميول الانتحارية
أخيراً، المرأة المهاجرة لا تلقى الدعم التام من المجتمع، والقوانين نفسها لن تدعمها ما لم تثبت تعرضها للعنف. وحتى في حال ثبوت الانتحار، فلا يعني ذلك براءة المجتمع والقوانين من دم الفنانة الصحراوية، فثمة عنف لا يمكن إثباته قد يدفع إلى الانتحار، كما هناك نظرات وكلمات لا يمكن وضعها تحت لافتة العنصرية أو الإسلاموفوبيا، لكنها تترك الأثر النفسي ذاته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت