شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
غضب وهرب وانكسار… هذا ما فعلته بنا سنوات الهزيمة

غضب وهرب وانكسار… هذا ما فعلته بنا سنوات الهزيمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 17 مايو 202205:24 م

عاشت الأجيال التي عاصرت السنوات الإحدى عشرة الأخيرة تقلبات سريعة في الأحوال المحلية والإقليمية والدولية، بين ثورات اجتاحت العالم بداية من تونس مروراً بمصر، وحروب أهلية شهدت قيام أنظمة الحكم والجيوش الوطنية استخدام الأسلحة المحرمة دولياً ضد مواطنيها، كما تسببت ممارسات الأنظمة العربية في واحدة من أكبر موجات الهجرة والنزوح منذ الحرب العالمية الثانية. وشهدت تلك السنوات أيضاً نشأة وتفكك تحالفات وعداوات انقلبت بين يوم وليلة بفعل المصالح والأموال إلى صداقات. عاينت تلك الأجيال تحول أكثر بلدان الشرق تشدداً لتنافس على لقب الأكثر انفتاحاً، في ظل تصريحات ومحبة غامرة بين دول عربية وإسرائيل التي كان يُمنع ذكر اسمها في تلفزيونات دول عدة باتت متصالحة معها. وعاصرت الأجيال الجديدة جائحة عالمية هائلة ستظل آثارها الاقتصادية والاجتماعية ممتدة لعقود.

خلال 11 عاماً، قامت في مصر ثورة ونشأت أحلام، ومارس الناس حريتهم في التعبير إلى منتهاها ثم باتوا يخشون الهمس بآرائهم إلى الأقربين والأصدقاء خشية أن يكون هناك مخبر بينهم.

فكيف تأثرت الصحة النفسية لتلك الأجيال بالأحداث؟ وماذا خسرت وسط النزاعات السياسية والكوارث الصحية؟ وكيف تبدلت حياتها؟

خلال 11 عاماً، قامت في مصر ثورة ونشأت أحلام، ومارس الناس حريتهم في التعبير إلى منتهاها ثم باتوا يخشون الهمس بآرائهم إلى الأقربين والأصدقاء خشية أن يكون هناك مخبر بينهم

البحث عن مهرب

كان مصطفى عبدالله* في بدايات الثلاثين من العمر عند اندلاع ثورة 25 يناير، شارك فيها مع حبيبته التي غدت زوجته. ظل مصطفى وزوجته مخلصين للثورة حتى قتلت زوجته أثناء إحياء ذكرى الثورة برصاصة ضابط بوزارة الداخلية. يقول مصطفى لرصيف22: "قتل ضابط زوجتي وحرم طفلها منها، بدون أي ذنب أو جرم اقترفته، على مرأى ومسمع من الجميع وفي وضح النهار، لمجرد أنها أرادت أن تحيي ذكرى ثورة يناير، والذنب هنا ليس على زوجتي الشهيدة، وإنما على الدولة التي سلمته سلاحاً بأموال الشعب، ليصدر هو ومن معه حكماً بالإعدام الميداني على أم ابني في الشارع".

شيماء الصباغ أيضاً، مثل زوجة مصطفى، قتلت برصاصة ضابط شرطة في الشارع أثناء إحياء ذكرى ثورة 25 يناير

يتابع الأب الشاب: "هذا هو الوضع المطلوب مني التعايش معه، وهذه هي الخسارة التي تكبدتها خلال الـ10 سنين الأخيرة من عمري، بعد حادثة القتل العلني، عرفت شعور من يقدم على تفجير نفسه، انتابتني حالة من الرغبة في الانتقام، لولا بعض الوعي والحكمة، ما كنت نجحت في مقاومة تلك المشاعر، لكنني استبدلتها بالطرق الشرعية والقانونية، وبالفعل تمت إدانة القاتل والحكم عليه".

ويكمل: "لو ظللت أحاول وصف الألم النفسي وتبعاته الصحية، وأشكاله التي ظهرت علي، لن أستطيع، لكن الألم كان قاسياً جداً. وقتها، لم يواجهني ألم الفقدان فقط،، هناك ألم من نوع آخر، لأنني واجهت أزمة هوية وانتماء، الشعور بعدم جدوى أشياء كثيرة كنت أظنها مهمة، مثل قيم كنت أحسبها ذات معنى، كل هذا تبخر في لحظة سقوط زوجتي قتيلة، إلى جانب الأزمة الممتدة في صورة طفلي، كان أولها هو تغير بوصلة تربيتي له 180 درجة، فبعدما كنت أنا وأمه حريصين على تربيته على الانتماء لوطنه، أصبحت حريصاً على العكس، وأتمنى أن آخذه وأسافر به بعيداً، ليستكمل حياته خارج مصر. أريده أن يعيش في نظام أكثر إنسانية".

"بعد مقتل زوجتي، تبدلت أمور كانت ذات أولوية لدي، مثل بوصلة تربيتي لإبني، فبعدما كنت أنا وأمه حريصين على تربيته على الانتماء، أصبحت حريصاً على العكس، وأتمنى يستكمل حياته خارج مصر. أريده أن يعيش في بلد أكثر إنسانية"

كان مصطفى عبدالله* في بدايات الثلاثين من العمل عند اندلاع ثورة 25 يناير، شارك فيها مع حبيبته التي غدت زوجته. ظل مصطفى وزوجته مخلصين للثورة حتى قتلت زوجته أثناء إحياء ذكرى الثورة برصاصة ضابط بوزارة الداخلية

وعن أثر اغتيال زوجته على ابنهما يقول مصطفى: "طبعاً الأثر بالغ. ابني كان حتى الحادث طفلاً طبيعياً يعيش وسط أبويه الحريصين على الاجتهاد لتربيته بطريقة صحيحة، وتوفير تعليم مناسب له، ثم فجأة تقتل الأم في الشارع وسط لغط مجتمعي وشقاق، فالبعض يتاجر بدمها، والبعض يحسبها من أعداء البلد، تهم تلقى عليها. هناك جنون أصيب به الناس، حالة عبثية فوق طاقة طفل في عمر الأربع سنوات".

خسائر متراكمة

شيماء محمود التي تعمل ممرضة حرة في القاهرة، تختلف عن مصطفى وزوجته الراحلة، وصلت إلى منتصف الثلاثين من عمرها، وكانت في منتصف العشرين عند اندلاع الثورة، تقول إنها لم تخسر شيئاً في الثورة لكن التداعيات التالية عليها لم تتركها من دون خسائر. تقول: "الوضع الحالي سبب لي خسارة مادية، لكن الخسائر النفسية والإنسانية من توابعه الواضحة. ففي مجال عملي أتقاضى الأجر بالساعة، ويتطلب مستويات اقتصادية واجتماعية معينة، ومع الأزمات الاقتصادية والسياسية قلَ الطلب على خدماتي، طبعا تلك الخسائر أثرت عليَ بشكل واضح، فأصبحت من الناحية الاقتصادية، أشعر طوال الوقت بالعبء إذ لا بد أن أحافظ على كل قرش أملكه، على عكس الفترة السابقة، كنت أعيش الرفاهيات وحريصة عليها".

وتكمل شيماء لـرصيف22: "أما على مستوى تغير شخصيتي أنا، فنظرتي للأمور اختلفت مسؤولياتي تجاه نفسي وأسرتي زادت وتغيرت، كنت من قبل أهتم بالجانب الترفيهي أكثر، لكن الآن أصبحت أهتم بالأساسيات أكثر من أي شيء، كذلك أشعر وكأن تقييمي للأمور كان ساذجاً، وكان نابعاً من جوانب إنسانية خالصة بينما كنت أنحي المصالح جانباً، ثم اكتشفت أنها هي الركيزة الأساسية للأمور وهي التي تحكم العلاقات بشكل حقيقي. طبعا لا يمكن إنكار أن التقدم في السن سبب من أسباب وضوح تلك الرؤية بالنسبة لي، فعندما قامت ثورة يناير كنت أبلغ من العمر 24 عاماً فقط، والآن أنا في الـ35، أصبحت أنظر للأمور بشكل أعمق وأكثر عقلانية".

لاحظت شيماء أنها باتت تتجاهل التأثير النفسي لبعض الأمور عليها، بل صارت تتصرف بعدم اكتراث تجاه شؤون اعتادت أن تثير غضبها أو ضيقها: "لم أعد أتأثر بسهولة بأي حدث مهما كان صعباً، ما عدا وباء كورونا الذي تسبب لي في حالة من الهلع والرعب، خاصة أني شخص مهووس بالنظافة. كل تلك الأمور أدخلت حالة من الكآبة على حياتي، فمثلاً الرفاهيات التي تنازلت عنها، كان من ضمنها أمور كثيرة بسيطة لكنها كانت تسعدني، لكن الآن، أصبحت أحسب لكل قرار بانفاق أي أموال". وتصيف: "الشئ دا هادفع فيه كام؟ وهاخسر أد إيه؟ الوقت دا هل الأفضل استغله في العمل؟ هل الأفضل أوفر الفلوس دي لأمور أهم؟" وهكذا فالوضع الاقتصادي هو المتحكم في يومي كله".

وتنهي شيماء: "مؤخراً ركزت محاولاتي على نسيان فترة ثورة يناير، لأنها أحدثت شرخاً بداخلي، كما فعلت مع آلاف المصريين، فكنت أتخيل إننا سنحقق شيئاً ذا قيمة وسيكون لنا رأي وإسهام في القرارات التي تشكل مستقبل هذا البلد، لكن كل تلك الأحلام انتهت بهزيمة مدوية، وأحياناً أشعر بالندم لكنني أدرك كذلك أننا لا نملك رفاهية الندم".

نزيف من دمشق إلى القاهرة

كانت هند عبدالفتاح في نهايات المراهقة عندما طافت أنوار الربيع العربي بالمنطقة، لكنها في بلدها انتهت إلى نيران من دون نور.

في سوريا، شهدت هند قنص الناس على أيدي الشبيحة وقوات الجيش العربي السوري في الشوارع، قبل أن تغادر بلدها كملايين السوريين، واتخذت وأسرتها وجهة القاهرة. تقول: "كانت خسائري كبيرة ومضاعفة. ففي غضون 11 عاماً خسرت بيتي ووطني، وراح أخي الكبير ضحية النزاعات المسلحة التي اندلعت بسوريا، بلا ذنب ولا مصلحة، ثم خرجنا من سوريا تاركين وراءنا ذكريات الطفولة والمراهقة، جئنا إلى مصر، والحقيقة أننا لم نشهد أي مشقة للاستقرار في مصر، ثم توالت السنوات، وبدأت جراحنا في الالتئام إلى حد ما، حتى أتت جائحة كورونا، فماتت أمي مصابة بالفيروس في نهايات العام الماضي، وكانت وفاتها بمثابة الإبرة الصدئة التي فتحت جرحا قديماً. أشعر باليتم بعد وفاتها، وكأن خروجي من سوريا لم يعن لي خروج الوطن مني، بل كانت وفاة أمي هي التي أشعرتني بكل هذا".

وتكمل هند: "من وقت وفاة أمي، أعيش أنا وأبي سويا، ولكن حياتنا تخيم عليها الكآبة والحزن. من وقت لآخر أخرج الصور التي تجمعني بطرق وحارات سوريا، ومحلاتها وناسها، ثم أخرج صور أمي، وأسترجع كل ذكرى فيها، تلك هي طريقتي الوحيدة لتجاوز ألم الأيام وثقلها".

تشعر هند بالخوف من فقد إنسانيتها بعدما تراكم عليها الحزن حتى فقدت القدرة على التعاطف مع آلام الآخرين وهو ما يتشابه مع أعراض كرب ما بعد الصدمة PTSD التي يفقد معها الإنسان قدرته على التواصل مع مشاعره.

المصريون والعرب لا يقرأون عن الفقر والقتل في الشوارع والسجن من دون جريمة، بل يعيشون تلك الأحداث ولا سبيل لديهم لتفاديها

تقول هند: "أتذكر عندما أذاعت إحدى القنوات العالمية صوراً لمشاهد الحرب في أوكرانيا ونزوح اللاجئين. أذكر أنني لم أشعر بشيء. لم أشعر بالحزن ولا التعاطف، لا يعني هذا أنني شامتة بأحد، على العكس، فأنا تحت طبقات من المشاعر المتبلدة، أشعر بالحزن لأجلهم، ولكن يبدو أن معايشتي لتلك الأحداث ونفس الظروف على الجانب الآخر من الكوكب سلبتني الشعور بالتعاطف".

في 2018، قالت محطة CNN الأمريكية الطبيبة النفسية سوزان بابل، المتخصصة في الاكتئاب الناتج عن الصدمات النفسية، جاء في المقابلة: "استمرار التعرض للصدمات النفسية يجعل الانسان غير قادر على التفكير بتروٍ، بل إن كل مرة ينهال علينا خبر صادم، تعمل أعضاء الجسم على تحرير هرمونات التوتر مثل الأدرينالين والكورتيزول، فعندما يحدث هذا بشكل متكرر، من الممكن أن يتعرض الجسم للارهاق، وبالتالي يتسبب هذا بالتعب والقلق والاكتئاب، وغيرها من الأعراض. أما على المستوى الجسدي، فيصاب بالصداع ومشاكل المعدة". 

وتقترح بابل أن يحد الناس من تعرضهم للأخبار السيئة، ويعملونا على تهدئة النفس وطمأنتها، وتدريب الذات على المرونة في التعامل مع الأزمات، بالإضافة للحرص على وجود أشخاص قادرين على تقديم الدعم والمساندة. لكنها لا تقدم اقتراحات تعين أجيالاً ولدت في منطقة جعلتهم هم أنفسهم عماد الأخبار الصادمة. فالمصريون والعرب لا يقرأون عن الفقر والقتل في الشوارع والسجن من دون جريمة، بل يعيشون تلك الأحداث ولا سبيل لديهم لتفاديها.

-----------

(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image