عودة المظاهرات للظهور في بيروت أوضحت أن الثورة لن تنتهي قريبًا. حشود من المتظاهرين تدفقت إلى الشوارع، متجمهرون دمروا واجهات البنوك ورسموا شعاراتهم الغاضبة عليها، ومرة أخرى، صار العنف علامة على الدولة اللبنانية. بالنسبة للبعض، كان أسبوع الغضب هذا بمثابة "إحياء" للثورة، وقبله علَّق كثيرون بأن الثورة دخلت طور الموت، في إشارة لانخفاض النشاط الحركي في الشارع. إلا أن الاعتماد على ما يحدث في الشارع وحده لقياس قوة الثورة، يعد مؤشرًا غير دقيق، كونه يتجاهل ما يواجهه الثوار أنفسهم من مصاعب مستمرة.
قرأت مؤخرًا مقالاً في دورية لوس أنجليوس ريفيو أوف بوكس، عرَّفني على كتاب جونا هاديفا "نظرية المرأة المريضة"، وجدت في الكتاب عبارة تشكل بذرة للتفكير: "كيف يمكنك أن تقذف حجرًا على واجهة بنك، إن لم يكن بإمكانك القيام من الفراش؟" وكما فكر مؤلف الكتاب السابق ذكره، وجدت تلك العبارة تقتنص شيئًا جاهدت كي أمسك به لسنوات، وزاد بحثي عنه مع قيام انتفاضتنا.
وجدت أن هذا يفتح نقاشاً نحتاج إلى خوضه: كيف يمكنني مثلا أن أقطع طريقًا عند شروق الشمس لو كنت غير قادر على الاستيقاظ في الصباح؟ كيف يمكنني أن أقف في مواجهة أجهزة مكافحة الشغب المسلحة، لو كان منظر الملعقة الخشبية لا يزال يثير فيَّ الرجفة؟ كيف يمكنني أن أستجيب لنداء "ياللي واقف عَ البلكون" لو أني غير قادر على الاستجابة لرنين الهاتف؟
قبل أحداث 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر، كان هناك إحساس عام باليأس يخيم على رؤوس الجميع داخل لبنان. أعطتنا الثورة بريق أمل وسط مشهد معتم. كانت لحظة يقظة جماعية.
كان الخروج للشارع والتصريح بمشاعرنا وأفكارنا وحولنا دوائر الأصدقاء بمثابة فعل انعتاق. إن التظاهر في الشوارع أمر مهم لأي حركة اجتماعية لأسباب عديدة، وخاصة في لبنان حيث نجد هوية وطنية جديدة تتشكل في الشوارع. وعلى أهمية مظاهرات الشوارع وما تخلقه من شعور بالرضا؛ إلا أنها تبقى مهمة ثقيلة بالنسبة لكثير من المشاركين فيها. المتعايشين منا مع الأمراض العقلية يجدون صعوبة في ترك منازلهم، فضلاً عن الخوض وسط الجموع في الشوارع. الرُهاب الاجتماعي بإمكانه أن يحيل جو المقهى العادي إلى محفز من محفزات القلق والتوتر البالغين، فما بالنا بالتظاهر أو الشغب؟ التعايش مع مرض الاكتئاب أو متلازمة القلق النشط، يمكنه أن يجعل الشخص يشعر بالإقصاء عن مجتمعه، لكن هذا لا يعني أنه غير قادر على المشاركة في الثورة.
كيف يمكنني أن أقطع طريقاً عند شروق الشمس لو كنت غير قادر على الاستيقاظ في الصباح؟ كيف يمكنني أن أستجيب لنداء "ياللي واقف عَ البلكون" لو أني غير قادر على الاستجابة لرنين الهاتف؟ عن منظور الثورات بقلمِ مكتئب
نادراً ما يُطرح أمر وجود مصابون بالأمراض العقلية في حركتنا للنقاش، ولا يزال الأمر يشكل تابو مسكوت عنه في مجتمعنا، ربما كان واحدًا من تلك الخطوط الحمراء التي علينا أن نعبرها. هذا المقال ليس محاولة لوضع وصف جامع لخبرات الثوريين المصابين بالأمراض العقلية؛ وإنما هو محاولة لمشاركة خبرة صراع ذاتية، أشاركها مع هؤلاء الذين قد يمرون بنفس المصاعب.
أتذكر دوماً تلك المرأة التي حملت لافتة تقول "هؤلاء الناس أسعد المكتئبين الذين رأيتهم في حياتي"، أو الجرافيتي الذي يُقرأ: "يسقط الاكتئاب". أعرف أن هناك آخرين يمرون بهذه الأزمات ولا يوجد لديهم منصات كافية لطرح تلك القضايا ومناقشتها، مما يتسبب في تراكم إحساسهم بالوحدة والعزلة.
ربما منحتنا الثورة الأمل، لكن الاكتئاب عدو الأمل.
ربما منحتنا الثورة الأمل، لكن الاكتئاب عدو الأمل. الإصابة بالاكتئاب خلال الثورة يعني الإحساس باليأس حتى عندما يُؤخَذ الناس حولي بالسعادة والتفاؤل، ويعني أن أختار بعناية الأنشطة التي يمكنني المشاركة فيها في الشارع، هذا لو شاركت. هذا يعني إعادة حساب كيف ستؤثر كل خطوة على مشاعري، وإن كانت تستحق العبء السيكولوجي الذي سأتحمله جراءها. أو قد تعني الرقاد في الفراش شاعراً بأني بلا قيمة وغير قادر على الإطاحة بالنظام الذي دفع بي إلى هذا الوضع أصلاً. هذا يعني أن أحتاج من أصدقائي إلى عناية أكبر. باختصار: الشعور بأني غير مهم على أحسن التقديرات، وأني أمثل عائق أمام الآخرين في أسوأها.
التجمعات البشرية ذات ضريبة عاطفية. الإحساس بكونك محاصر في الزحام، أصوات الخبط على المعادن التي تجعل عينيك تتشنجان، الخوف من أن قوات مكافحة الشغب السادية ستندفع نحونا في أية لحظة تعوي وتضرب بعشوائية. لا شيء يفزعني قدر الدهس الذي سيلي تلك الاندفاعة. حتى مجرد مشاهدة تلك الصور على شاشة التلفزيون أو صفحات التواصل الاجتماعي يجعلني أحياناً أغرق في اليأس أكثر. تكتيكات الخوف التي تتبعها الدولة من خلال الحضور الكثيف لمعدات القمع الثقيلة والأسلحة وحتى مدافع الآر بي جي لها تأثير مزلزل عليَّ. هناك رهاب دائم، غير خاضع للسيطرة بأن يدفعني واحد من تلك الأحداث عن الحافة، لأسقط في هوة دمار نفسي لا علاج لها.
تحت حكم هؤلاء الرجال الذين يريدوننا أن نبقى تعساء ومعزولين، فإن الحفاظ على مظاهر الأمل هو فعل ثوري، به نرفع إصبعنا الأوسط في وجه هؤلاء الذين يصيبوننا بالكآبة ويدفعوننا للبقاء في الفراش
نداءات إغلاق الشوارع والطرق ترسل موجات من الشعور بالذنب والعار في كل خلايا جسدي. ذنب لأني أعرف ما يتوجب عليَّ فعله، وعار لأني أعرف أني غير قادر على القيام به. عندما يمكنني استجماع الطاقة الجسدية والعاطفية اللازمة للخروج إلى الشارع؛ أخرج فوراً، ولكن نادراً ما يكون الخروج سهلاً، وأقضي بعده أياماً للاستشفاء.
هناك شعور قوي بالالتزام، كشخص يساند الثورة، بأن أكون مع زملائي الثوار في الشوارع. غالباً ما أنفذ هذا الالتزام، لكني أقضي باقي الوقت في الندم عليه. على الرغم من شعوري العارم بعدم الارتياح للوجود بالخارج إلا أني بقيت، إيماناً مني بأن هذا هو دوري في الثورة. يكشف هذا عن مشكلة أخرى، مشكلة كامنة في النقاش الدائر حول الثورة، تحديداً في مساواة التظاهر بالثورة.
إن نجاح وصحة الثورة لا ينبغي أن تقاس بكم التحركات في الشارع وحدها، واعتمادنا لهذا المنهج غالباً ما يخفي ويهمِّش الثوار غير القادرين على المشاركة في مثل هذه التحركات. وكأننا نقول: "لو أنك لست في الشارع، فأنت غير مشارك في هذه الثورة". هذا خاطئ بوضوح. النقاش حول ما الذي يشكل تحركاً ثورياً يجب أن يتسع ليشمل هؤلاء غير القادرين على النزول.
بينما نحاول تدمير النظام القديم، سنحتاج أيضاً إلى البدء في تشكيل النظام البديل. يتطلب هذا منا تنظيماً ونقاشاً وتنظيراً، وأن يستهدف كل هذا ذات الأهداف التي تتطلع إليها الثورة. كثير من هذه الأنشطة اللازمة لوضع النظام الجديد بدأت فعلًا منذ اللحظة الأولى.
رغم أهمية مظاهرات الشوارع وما تخلقه من شعور بالرضا؛ إلا أنها تبقى مهمة ثقيلة بالنسبة لكثير من المشاركين فيها. المتعايشين منا مع الأمراض العقلية يجدون صعوبة في ترك منازلهم
هذه الأنشطة لا تحدث في الشوارع، ولكن في أماكن العمل والبيوت والمقاهي والميادين وعلى الإنترنت. تنتظم التجمعات وجماعات الدعم المتبادل، والعمال غير المنظمين في اتحادات، وسائل الرعاية الأهلية والفنون، كلها تتبنى نقاشات جديدة. هذه التحركات كلها بإمكانها أن تخدم هدف التغيير، خالقة طرق جديدة للتشبيك وبناء مجتمعات جديدة. خاصة في حالة لبنان، حيث نُظُم القوى التي تآكلت بفعل الفساد وشبكاته المعقدة، فالخيال هو ما نحتاجه الآن أكثر من أي وقت مضى.
إن إلقاء الحجارة على البنوك ليس النشاط الثوري الوحيد الذي يجري الآن. فهم ذلك يعيد تأطير مثل هذه التصرفات ويحولها من التزام إلى اختيار، وهو ليس الخيار الوحيد المطروح أمام الثائرين. إعادة النظر في الطريقة التي ننظر بها للثورة يفتح باب أسئلة مهمة، يمكن أن تقدم إجابتها معايير جديدة لفهم تطور الثورة ومسارها.
على سبيل المثال: هل أشكال التضامن الجديدة التي نشهد تشكُّلها الآن لا تمثل انفصالًا عن ديناميكيات الرأسمالية التنافسية المنتصرة؟ ماذا عن التصورات القومية للهوية التي تتشكل منذ بدء الثورة، أليس هذا انقطاعاً عن الطائفية؟ حتى الأمل الذي تفجر في كل أنحاء البلاد يمكن النظر إليه كثورة ضد العدمية القومية المستهجنة التي عايشناها طويلاً. ربما لا تكون هذه تحركات ثورية ظاهرة كما التظاهرات في الشارع؛ فهي أمور لا يمكن تصويرها وبثها عبر الشاشات، لكنها تشكل جميعها ثورة في طور العمل.
عند وضع معايير جديدة، ربما يتوجب علينا أن ننظر أولًا إلى المشاكل الجذرية التي ضربت بلادنا كالوباء: الطائفية، الزبونية، الفساد، الرأسمالية، العنصرية والتمييز ضد النساء وذوي الميول الجنسية المغايرة، وغيرها من المشكلات التي تتجاوز قدرتنا على الإحصاء. لو أن الثورة هي الإطاحة ببنية مستبدة؛ فمن المؤكد أن الخطوات المتخذة يجب أن تعمل على خلخلة القوى التي تشكل هذه البنية. بالطبع تجنح هذه المعايير نفسها أحيانا لأن تتحول إلى مطلقات مجردة، خاصة مع مواجهة بُنى عملاقة مستقرة كالرأسمالية أو العنصرية.
في مثل هذه الحالات لا تكون الثورة في الشوارع فقط، بل بداخل الفرد نفسه كذلك. في النهاية، هل يمكن لأحدنا أن يدعي أن كل هذه المشكلات السابق ذكرها لم تنغرس واحدة منها على الأقل بداخله؟ ألا يكون انتزاع تلك الأمراض الوطنية من نفوسنا بمثابة فعل ثوري؟ لو أننا ننوي فعلا تفكيك هذه المفاهيم وحل تشابكها فعلينا أن نبدأ من أنفسنا، هذه هي الخطوة الأولى الضرورية. إن أي خطوة تخفف من سيطرة هذه المفاهيم علينا، هي فعل ثوري.
هذا المقال ليس محاولة لوضع وصف جامع لخبرات الثوريين المصابين بالأمراض العقلية؛ وإنما هو محاولة لمشاركة خبرة صراع ذاتية، أشاركها مع هؤلاء الذين قد يمرون بنفس المصاعب
لو كان هذا هو الحال، إذن فإن رعاية النفس في ذاتها تصبح فعلاً ثورياً، كأنما هو رفض الانصياع لما تفرضه الطبقات المتنفذة من شروط تدفع للانقسام وتعزز القمع، ورفض أن تكون أنت كفرد أحد عوامل فرض وتعزيز قوتهم. تحت حكم هؤلاء الرجال الذين يريدوننا أن نبقى تعساء ومعزولين، فإن الحفاظ على مظاهر الأمل هو فعل ثوري، به نرفع إصبعنا الأوسط في وجه هؤلاء الذين يصيبوننا بالكآبة ويدفعوننا للبقاء في الفراش.
في المرة القادمة التي يقول فيها أحدهم أن الثورة تموت، ربما هو لا يتحدث فعلاً عن الثورة، وإنما عن منظوره هو لها.
الاعتراف بالأشكال المختلفة التي يمكن للتطور الثوري أن يتخذها؛ سيفتح نقاشات جديدة، وسيرفع عبء الذنب الذي يشعر به من يؤيدون التحركات الجارية في الشارع لكنهم غير قادرين على المشاركة فيها، بالإضافة لخلق ساحات جديدة لاستقبال التفاعلات الثورية. كأننا نقول: لو أنك لا ترتاح في ساحات الصخب والزحام والمواجهات المحتملة؛ لا بأس، هناك سبل أخرى يمكنك بها دعم التغيير الإجتماعي والسياسي اللازمين للثورة.
إقناع عمَّك العنصري أن الفلسطينيين لم يرتكبوا 50% من الجُنح المسجلة في لبنان هو بداية جيدة للمشاركة في الثورة، تقديم الدعم العيني والعاطفي والمالي للآخرين هو أيضًا فعل ثوري. مجرد إدراك أنك لا تزال مؤمنًا بالرأسمالية ومحاولتك لشفاء نفسك من هذا الإيمان المؤسف، هو كذلك فعل ثوري. المهم هو أن يمضي هذا التطور قدمًا. هذا التطور الذي لم يعترف به الوعي العام بعد كمكون ثوري. في المرة القادمة التي يقول فيها أحدهم أن الثورة تموت، ربما هو لا يتحدث فعلا عن الثورة، وإنما عن منظوره هو لها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون