شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
لماذا احتقر الله والناس الكائن الناري؟… التأمل الصادم في كلمات أمل دنقل

لماذا احتقر الله والناس الكائن الناري؟… التأمل الصادم في كلمات أمل دنقل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 21 مايو 202212:00 م

"أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك، ليأتي ملكوتك". تُكرّر أمي، وأكرر خلفها حتى تطمئن أنني حفظت هذه الصلاة الربانية القصيرة التي أوصانا بها المسيح. تحكي لي قبل النوم حكايات نوح، و السفينة الضخمة التي أمره الله أن يبنيها، ويحتمي بها مع أهل بيته.

أكرر خلفها الحكاية، وأنا أعد أنواع الطيور والحيوانات والزروع التي اختارها نوح أن تدخل معه لفلكه الضخم.

أنام، وأستيقظ، وتحكي لي في اليوم التالي عن "سطنائيل"، الذي سقط فأصبح مخلوقاً من نار، محتقراً من الله والبشر، وسيظل حتى المنتهى يستقبل "الأشرار" مثله.

رأيت وجه أمل

كبرت على قصص أحادية الرؤية، كما وردت، وكما حكوها لي في "مدارس الأحد"، وعلى شرائط الكاسيت، وشاشات التلفزيون.

لم أفكر أبداً في رؤية مختلفة حتى رأيت لأول مرة، وأنا في المرحلة الإعدادية، وجه "أمل"، على مطبوع ضخم بعنوان: "الأعمال الكاملة".

وقعت عيني للوهلة الأولى على "كلمات سبارتكوس الأخيرة"، قرأتُ في صمت، وذهول، وخوف:

المجد للشيطان معبود الرياح

من قال لا

في وجه من قالوا نعم

من علّم الإنسان... تمزيق العدم!

أغلقت المجلد، ثم أعدت القصيدة إلى نظري مرة أخرى، وأنا أقرأ حتى نهايتها، لا أتذكر سوى أنني وقعت في حب هذا الشاعر، غريب الاسم والكلمات، وأصررت وقتها على المشاركة بهذه القصيدة بالتحديد في مسابقة الإلقاء الشعري.

ذهبت إلي منزلي، ووضعت المجلد الذي استعرته قرب وسادتي، وظللت أفكر لماذا احتقر الله والناس الكائن الناري؟

قرأت في اليوم التالي "مقابلة خاصة مع ابن نوح"، و"صلاة"، وأكملت ديوانه "العهد الآتي" كاملاً، و ذهبت إلى صديقي الأكبر أتحدث عن وجهة النظر الثورية التي أعجبتني في توظيف قصص "مدارس الأحد" في الشعر.

استلهام التراث الديني

أدرك أمل دنقل الشاب الجنوبي من أول مرة سافر فيها إلى القاهرة أن التعبير المباشر في الشعر يؤدي للسجن بنفس المباشرة، فلجأ – كما ذكر – لتوظيف التراث التاريخي والديني في الإشارة إلى ما يريد التعبير عنه.

بسبب حب أمل للتراث، والأساطير، والتاريخ بشكل عام، جعله مادته الخصبه في الثورة، والرفض، والنبوءة.

شاعر مثل أمل دنقل كان يملك من الوعي درجة كافية، مكنته من اللجوء للتراث العربي بشكل محدد، والبعد عن التراث اليوناني الذي لا يرتبط بواقع القارئ، ولا يعرفه.

كذلك انطلاقاً من التراث العربي جاء توظيف التراث الديني، سواء الإسلامي أو المسيحي، لكون الموروث الديني هو جزء لا يتجزأ من التكوين النفسي والاجتماعي لأي عربي، فكان الشعر عند أمل هو كيفية تثوير هذا الموروث، بما يتوافق مع القضية، والفكر، وانحيازه للمحكومين، وإصراره على الانتصار لقيم الإنسان المطلقة، مثل: الحرية، الصدق والحق.

الانحراف الشعري

"الانحراف الأسلوبي أحد الأسس اللافتة التي تقوم عليها العملية الشعرية بشكل عام، إذ يشكل في النص منطقة براقة منبهه لوعي المتلقي ولزيادة حساسيته ما يسهم في عبوره للنص عبوراً جمالياً"، طبقاً لأطروحة الباحث محمد فتحي.

هناك عدد من المعايير للانحراف بمستويات عدة، منها اللغة والنثر العلمي وغيرها، وما يخصنا هنا هو الانحراف على المستوى الديني، الذي وظفه أمل دنقل في قصائده، وفي تعريف الانحراف على المستوى الديني في الشعر تكون البنية اللغوية على كافة المستويات صحيحة، ولكنها تشكل خروجاً على المأثورات الدينية المعروفة لدى عامة الناس.

كلمات سبارتكوس... دهشتي الأولى

لم أعرف طيلة طفولتي سوى آية "إنجيل لوقا"، التي نرددها كل عيد ميلاد مع الرعاة "المجد لله في الأعالي"، حتى صُدمت للمرة الأول بأمل وهو يقول: "المجد للشيطان معبود الرياح"، وهو مانسميه في الشعر أو الأدب عموماً بـ "كسر أفق التوقع"، لكن هذه الصدمة تلاشت شيئاً فشيئاً حين تخلصت من نظرتي الأحادية الثابتة للموروث الديني، الذي تعلمته أو قرأته على حاله عند أدباء آخرين.

تتقسم القصيدة لعدد من المقاطع، يبدأ كل مقطع بـكلمة"مزج"ورقم، واختار أمل كلمة "مزج" بالتحديد لدلالتها، فهذا المزج هو ما يمنح النص هوية العبور لأزمنة متعددة، وبالوقوف على شخصيات ثورية، خالقاً فضاءً سردياً متكاملاً.

كذلك من عنوان القصيدة "كلمات سبارتكوس الأخيرة" نستدل على أن الأبيات وظفت القصة التراثية لعرض وصية لسبارتكوس، قالها قُبيل وفاته، وهو ما يمنح الكلام قدسية الوصية لشهيد الحرية والثورة.

لم أعرف طيلة طفولتي سوى آية "إنجيل لوقا"، التي نرددها كل عيد ميلاد مع الرعاة "المجد لله في الأعالي"، حتى صُدمت للمرة الأول بكلمات أمل: "المجد للشيطان معبود الرياح"

وكما يشرح الباحث ناقل زامل في دراسته، فيكتب أنه فضلاً عن كونها تمثل امتداداً لهذه القضية التي أطلقها سبارتكوس، فالكلمات الأخيرة لابد أنها جاءت من أرض المعركة، التي وقع فيها وهو يدافع عن حقوق المستضعفين والفقراء، ويطالب بأن يعاملوا كبقية الناس، وهنا يأخذ العنوان شكل الوثيقة التاريخية الراصدة للحظات الأخيرة من حياة ثورة إنسانية كاملة، تم التعبير عنها بلسان قائدها.

وظف أمل التراث الروماني و الديني في قصيدته، وربما يتفكك "الانحراف"، وصدمات المتلقين في الجملة الشعرية الأولى "المجد للشيطان" حين نستدل على كون القيصر، واستعباده لسبارتكوس ورفاقه، وضع نفسه موضع الإله، وما كان الشيطان سوى سبارتكوس، الذي ثار ورفض السجود والطاعة، فالمجد له!

ربما فهمت ذلك، في وقت تالٍ، لكنه أثار إحساسي بشكل أكبر بتجربة أمل المتفردة، واستخدامه للمفردات والقصص الدينية، وكيفية تعبيره عن واقعه المقهور، وتحريضه على الثورة من خلال أول "لا" قالها سطنائيل لله (سطنائيل رئيس الشياطين في المعتقد المسيحي).

ينتقل أمل في "مزج" ثالث، فيلجأ للقصة الدينية ذاتها، مستلهماً التطوبيات التي وعظ بها المسيح من قبل، "طوبى للودعاء لإنهم يرثون الأرض" ، فيقول :

الله لم يغفر خطيئة الشيطان حين قال لا

و الودعاء الطيبون هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى

لإنهم لا يشنقون!

الوديع، الهادئ، المسالم كان من وجهة نظر المسيح هو من سيرث الأرض في النهاية، لكن أمل رأى أن هذا الوديع ماهو إلا خانع، لا يصرخ، ولا يثور، وبالتالي لن يسجن، ولن يُشنق.

العهد الآتي.. "إنجيل" أمل

يقول أمل دنقل عن ديوانه العهد الآتي: "أردت به أن أوجد صلة بين التصور الديني للكون، والصراع الإنساني، وبين التصور الثوري للصراع المعاصر".

يضم "العهد الآتي" 8 قصائد، سُمي معظمهم بأسماء الأسفار في العهد القديم من الإنجيل (التوراة) مثل قصائد سفر التكوين، خروج، مزامير، ومن العهد الجديد الذي بدأ به ديوانه "صلاة"، مستلهماً الصلاة الربانية القصيرة.

ديوان "العهد الآتي" عند أمل دنقل هو امتداد لقصائده ودواوينه السابقة، وهو اختار كلمة "العهد الآتي" تحديداً ليكون عهداً جديداً، عهد مستقبل لكل إنسان حر، وذلك على غرار تقسيم الإنجيل، العهد القديم (التوراة) ثم العهد الجديد (زمان المسيح وتلاميذه) ثم العهد الآتي (عهد أمل دنقل).

قسم أمل الديوان إلى إصحاحات، وهو شكل مستعار من العهد القديم (التوراة) واستخدم مفردة الإصحاح للتأكيد على صدق الثورة، وحقها الذي لا ينازع، فكلمة إصحاح تعني "الكلام الذي لايشوبه باطل".

يقول الكتاب المقدس:"طوبى للودعاء لإنهم يرثون الأرض" ، ويقول أمل دنقل:
الله لم يغفر خطيئة الشيطان حين قال لا
و الودعاء الطيبون هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى
لإنهم لا يشنقون!

بدأ الديوان بالصلاة الربانية التي حفطتها عن ظهر قلب منذ نعومة أظافري "أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأتي ملكوتك"، ليقول أمل: "أبانا الذي في المباحث . نحن رعاياك، باق لك الجبروتُ وباق لنا الملكوت وباق لمن تحرس الرهبوت".

وهي كما عنونها أيضاً "صلاة" لكنها صلاة إلى القوى القمعية التي تُصر على قهر كل انسان يطالب بحقوقه وحقوق أراضيه المسلوبة والمنهوبة، في تناص رائع مع موروث ديني مسيحي بقوة الصلاة الربانية، ليضمن التأثير وجذب انتباه المتلقي لقوة الكلمة والفكرة.

وعلى العكس من سفر التكوين في العهد القديم، والذي كنا نختم قصة الخلق فيه بآية "ورأى الرب ذلك حسن"، يختم أمل كل مقطع شعري بجملة مضادة "ورأى الرب ذلك غير حسن"، لأنها تناسب قضيته التي يشرح فيها حال العرب والدماء التي لطخ به العربي أخيه، وعن الكراهية والطمع والغدر.

عشاء أمل دنقل الأخير

العشاء الأخير، حيث جلس المسيح مع تلاميذه، وكسر الخبز، وبارك، وأعطى لهم، وقال: "خذوا! كلوا! هذا جسدي، وخذوا اشربوا هذا دمي"، استلهم عدد من الشعراء والتشكيليين هذه اللوحة، واستخدمها أمل دنقل، في مرتين مختلفتين، قصيدة "عشاء" يقول فيها :

قصدتهم في موعد العشاء

تطالعوا لي برهة

ولم يرد واحد منهم تحية المساء!

وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة

في طبق الحساء

نظرت في الوعـــاء:

هتفت: ويحكم ....دمي

هذا دمي… فانتبهوا

لم يــأبهوا !

وظلّت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة

وظلت الشفاة تلعق الدماء!

هنا يستعير أمل روح العشاء الأخير للمسيح بشكل مضاد، فالمسيح قدم جسده ودمه برضا ومحبة، وجسد بهما العطاء والبذل والتضحية، بينما يصور أمل تهافت رفاقه على جسده ودمه، دون موافقة منه، بل يصرخ فيهم ولايستجيبوا، في إشارة للاعتداء واغتصاب الحق.

وكانت صورته إشارة واضحة، علّ التخاذل والصمت جراء مايحدث في فلسطين، ومايتم من انتهاكات بمباركة القيادات العربية.

استلهم الصورة نفسها في قصيدة "العشاء الأخير" من ديوانه "مقتل القمر"، ولكن هذه المرة يتوحد مع رمزي المسيح وأوزوريس، كتب:

أنا "أوزوريس" صافحتُ القمر

كنت ضيفاً ومضيفاً في الوليمة

حين أجلست لرأس المائدة

وأحاط الحرس الأسود بي

فتطلعت إلى وجه أخي..

فتغاضت عينه.. مرتعدة!

يستلهم هنا أمل دنقل شخصية أوزوريس التي ترمز لعودة الحياة والخصوبة بعد الموت بالحب، ثم يعود فيستلهم صورة من "العشاء الأخير" للمسيح، وهي ليهوذا الذي خانه وسلمه.

ثم يتوحد، ويتضامن مع تضحية المسيح:

"فكسرتُ الخبز، حين امتلأت كأسي من الخمر القديمة

قلت: يا إخوةُ، هذا جسدي.. فالتهموه

ودمي هذا حلالٌ.. فاجرعوه!"

أمل الذي غير وجه الشعر العربي الحديث، على الأقل في مصر، فارق الأرض بعد صراع مع السرطان، ترفَّع أن يهزمه، وفارق بشاعرية متفردة كما اعتاد في مايو/ أيار 1983.

أمل دنقل الذي أحب، لم يغير دمي وأفكاري شيئاً مثلما فعلت بي كلماته، ولم يجعلني أحد أنظر للقصص والتراث برؤية مختلفة، وجديدة مثل رؤيته، أثارت في نفسي أسئلة لا تتوقف أبداً، أظنها بدأت مع "المجد للشيطان"، ثم مع قصيدة "مقابلة خاصة مع ابن نوح" حين دق قلبي للمرة الأولى، وكأنه اكتشاف من عالم آخر، وهو يقول: "حين قال لا للسفينة وأحب الوطن".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image