يُفترض أن تكون المخرجة اللبنانية نادين لبكي جلست تبحث عن فكرة فيلم جديد، مُتمنية أن يتخطى ما يُحدثه من شهرة وجدل فيلميها السابقين "سكّر بنات" و"هلّأ لوين". فمكثت فترة للتحضير، وقررت كتابة كلّ الموضوعات التي تريد مناقشتها في السيناريو على لوح كبير: "الفقر ـ اللجوء ـ العاملات الأجنبيات ــ البطالة ــ السجون ــ زواج القاصرات ــ الإتجار بالبشر"، ثم أخذت نفسًا عميقًا وشردت بذهنها لثوانٍ، وعاودت النظر إلى اللوح، وقالت: "هذا كفر ناحوم.. إنه الجحيم".
قبل تلك الجلسة الساعية لعرض بعض من مآسي الإنسانية على شريط سينمائي بأكثر من ألفي عام، كان السيد المسيح، يقف على قمة جبل في مدينة كفر ناحوم، الواقعة على ساحل بحيرة طبرية في الشمال الفلسطيني (الشاطىء الشمالي الغربي لبحر الجليل، بعد أن دعا التلاميذ الأربعة: بطرس، وأندراوس، ويعقوب، ويوحنا، كي يُصبحوا صيادي ناس، ويذهبوا في السبت جميعًا إلى كفر ناحوم، حيث يذهب يسوع ليُعلِّم.
يسوع يبشر بالأمل ونادين تُنذر بالفوضى
فلمّا جلس يسوع على قمة الجبل، وتقدّم تلاميذه إليه، فتح فاه، ألقى عظتَه الشهيرة، وكأنها دستور للإنسانية جمعاء، فعلّمهم قائلًا: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاشى إلى البر، لأنهم يُشبعون. طوبى للرحماء، لأنهم يُرحَمون..طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون. طوبى للمطرودين من أجل البرّ، لأنّ لهم ملكوت السماوات. طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كلّ كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا، لأن أجركم عظيم في السموات".
لكن مساكين يسوع لم يعودوا في انتظار ملكوت السماوات، لأن الظلم لا يتحمله الأطفال في عمر "زين الرفاعي" بطل فيلم نادين لبكي، والحزانى لا يتعزّون، لأن أخته القاصر زوّجت رغمًا عنه وعنها، وماتت، ولم يُعزّه أحد، وكذلك المطرودون من أجل البرّ، مثل راحيل، تلك السيدة الإثيوبية، فقد داسها الجميع بالأقدام حين حلمت أن تطول فترة لجوئها في بلد لم تعد حانية فيه على أولادها، ففقدت رضيعها يوناس، ولم تعد تنتظر الأجر العظيم في السماوات، وتمنّت أن تناله لدقائق على الأرض.
على عكس الحنوّ البادي في عظة المسيح على أبنائه، والتعاليم المتسامحة للعيش في عالم أفضل، والتبشير بعالم آخر أفضل من تلك الحياة، كانت نادين لبكي تؤكّد في كل مشهد من حكايتها -التي كانت عشرين ساعة، حتى اقتطعت منها ما يناسب شاشات العرض واكتفت بساعتين- وتُنذر ببؤس على الأرض أبشع من جحيم الدار الآخرة، والأمل في صلاح البشرية معدوم، ولا حلّ سوى التوقف عن الإنجاب، كي يفنى الجميع!
دعاية سياسية أم صرخة إنسانية لا تجد مستمعها؟
اتُّهم الطرح الذي تناولته نادين في فيلمها بالمباشرة الفجّة من قِبل عدد من النقاد الفنيين، عندما جعلت بطلها "زين" يُحاكم والديه أمام القضاء بتهمة الإتيان به إلى العالم، هذا بجانب غرابة الطرح ذاته، وعدم معقوليته، بحسب قول بعضهم.
لم تتوقف الاتهامات لـ"لبكي" عند هذه النقطة فقط، بل ظهر من يقول بأن تجميع كلّ هذا الكمّ من القضايا (الفقر، اللجوء، العاملات الأجنبيات، البطالة، السجون، زواج القاصرات، الإتجار بالبشر) ما هو إلا مُغازلة للرأي العالمي وجمعيات حقوق الإنسان، ومن ثم قوبل "كفر ناحوم" بكلّ هذه الحفاوة، فنال جائزة لجنة التحكيم من مهرجان "كان"، ورُشّح ضمن أفضل خمسة أفلام للتنافس على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي.
بالنظر للاتهام الأول، الذي يبدو به قدر من الوجاهة، نجده يُمنطق ما لا يمكن "مَنطقته"؛ فكم من طفل وفتى وشاب كبير، يرى بأن وجوده في الحياة أسوأ شيء حدث له، وكم عدد المنتحرين في العالم، رغم رفاهية بعض الدول؟ ما بالك بعالمنا العربي الذي يحفل بكمّ من قاتلي أنفسهم لأسباب لها علاقة بصعوبة المعيشة، أو الانتهاكات التي تعرضوا لها، سواء من قِبل الحكومات، أو الأهالي المُعسف بهم هم الآخرين من قِبل الدول الباطشة، ناهيك بالأزواج الجدد من الشباب، الذين لا يرغبون في الإنجاب، لنفس السبب!
أما في ما يخصّ الاتّهام الثاني، رغم ما به من تدخّل في نوايا نادين، وصنّاع فيلمها، فهي تُهمة جاهزة دائمًا ما تطال أيّ مبدع يحصل على تكريم عالمي، ولعل أبرز مثال على ذلك، التهمة التي تطال الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ حتى الآن، وهي أنه نال جائزة نوبل في الآداب، تقديرًا لروايته "أولاد حارتنا"، وليس لمجمل أعماله، لا لشيء إلا لأنه يسخر فيها من الإله، بحسب ما يزعمون.
أمل دنقل سمع رسالة نادين قبل 40 عامًا!
السوداوية التي تناولها فيلم "كفر ناحوم" لمدّة ساعتين، كانت سِمة أساسية في أعمال الشاعر المصري الراحل أمل دنقل (1940 ـ 1983)، بل إنه يكاد يكون قد طرح ما تناولته نادين لبكي في فيلمها قبل أكثر من 40 عامًا.
"تلدين الآن من يحبو/ فلا تسنده الأيدي/ ومن يمشي/ فلا يرفع عينيه إلى الناس/ ومن يخطفه النخّاس: قد يصبح مملوكًا يلطون به في القصر/ يُلقون به في ساحة الحرب/ لقاء النّصر/ هذا قدر المهزوم: لا أرض/ ولا مال/ ولا بيت يردّ الباب فيه/ دون أن يطرقه جابٍ".
السوداوية التي تناولها فيلم "كفر ناحوم" لمدة ساعتين، كانت سِمة أساسية في أعمال الشاعر المصري أمل دنقل، بل إنه يكاد يكون قد طرح ما تناولتْه نادين لبكي في فيلمها قبل أكثر من 40 عامًا.
تلك الكلمات كانت جزءًا من قصيدة بعنوان "في انتظار السيف"، التي طرحها أمل دنقل عام 1970، وتكاد تكون لسانَ حال الأب سليم (فادي يوسف)، الأب في فيلم "كفر ناحوم". ألم تكن الأمّ سعاد (كوثر الحداد)، على وشك الصراخ في المحكمة أمام القاضي: "من يوقف في رأسي الطواحين/ ومن ينزع من قلبي السكاكين/ ومن يقتل أطفالي المساكين/ لئلّا يكبروا في الشقق المفروشة الحمراء خدّامين/ من يقتل أطفالي المساكين/ لكيلا يصبحوا في الغد شحاذين/ يستجْدون أصحاب الدّكاكين/ وأبواب المرابين/ يبيعون لسيارات أصحاب الملايين الرياحين/ وفي المترو يبيعون الدبابيس وياسين؟". ألم يحدث لـ"زين" كلّ ما تنبأ به أمل دنقل في تلك الكلمات؟!
تلك الحالة من التماس بين ما تنبأ به أمل دنقل في سبعينات القرن الماضي، وما صرخت به نادين لبكي في 2018، لم تتوقف عند استشراف الواقع المأساوي فقط، بل تجلّت في استلهام روح المسيح ذاته.
تلك الحالة من التماس بين ما تنبأ به أمل دنقل في سبعينات القرن الماضي، وما صرخت به نادين لبكي في 2018، لم تتوقف عند استشراف الواقع المأساوي فقط، بل تجلّت في استلهام روح المسيح ذاته: نادين استهلمت المكان "كفر ناحوم" وما به من فوضى، و"دنقل" استنهض يسوع، ليُلقي السفْرَ الأخير!
ردّت نادين في فيلمها على عِظة المسيح، بأن الحال أصبح فوضويًا، أما "دنقل" فأعاد يسوع ليطلّ على الكون الذي تركه عبر قصيدته "سِفر التكوين"، ليرى بعينيه ما حلّ بالإنسانية من خراب ودمار؛ لكنه لم يعًد بيديه حيلة سوى تذكّر وصاياه، والتحسّر عليها: "قلتُ فليكن الحبّ في الأرض، لكنه لم يكن/ أصبح الحبّ ملكًا لمن يملكون الثمن/ ورأيت ابن آدم وهو يُجن/ فيقتلع الشجر المتطاول/ يبصق في البئر/ يُلقي على صفحة النهر بالزيت/ يسكن في البيت، ثم يخبئ في أسفل الباب قنبلة الموت/ يُؤوي العقارب في دفء أضلاعه/ ويُورث أبناءه دينه، واسمَه، وقميصَ الفِتَن/ أصبح العقل مغتربًا يتسوّل/ يقذفه صبية بالحجارة/ يوقفه الجُند عند الحدود، وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني، وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن/ قلت: فليكن العقلُ في الأرض، لكنه لم يكن/ سقط العقل في دورة النفي والسجن حتى يُجن/ ورأى الرب ذلك غير حسن!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...