سافر أمجد كامل (27 عاماً)، من القاهرة إلى باريس قبل 10 سنوات، لإكمال دراسته في جامعة السوربون، محملًا بأحلام لا حدود لها، واستقبل المدينة بشغف وانفتاح، لكنها تركته في نهاية المطاف أسيراً لمضادات اكتئاب عجز عن العيش بدونها، وانتهى به الحال في مصحة نفسية لمدة عام كامل، ممنوعاً من الخروج أو السفر في خضم وباء كورونا.
مصحة نفسية كبرى
على الأراضي الفرنسية، يعيش أكثر من ثمانية ملايين مهاجر من جنسيات مختلفة، تمثّل الجالية العربية والإفريقية النسبة الأكبر منهم. يرحل هؤلاء محملين بآمال الحياة الأوروبية الرغدة بعد الهرب من أوطانهم، وسرعان ما تتحطّم أحلامهم على صخرة الواقع.
هذا ما حدث مع أمجد، يقول لرصيف22: "خرجت من مصر بأحلام أكبر حتّى من أن تستوعبها فرنسا، لكن بعد مرور خمس سنوات، تمّ تشخيصي باكتئاب شديد منعني من ممارسة حياتي اليومية بشكل طبيعي، حتى جاءت أزمة كورونا، وفقدت كل مصادر رزقي، ما أعياني تماماً، ودخلت إلى المصحة".
أمضى أمجد في المصحة عاماً كاملاً، بعد تسريحه من العمل، وطرده من السكن، وعجزه حتّى عن العودة إلى مصر في خضّم الوباء، لكنه فوجىء داخل المصحّة بوجه آخر "أكثر قبحاً لفرنسا" على حد قوله، وجه دفع أعداداً هائلة من السكان المحليين لإدمان المهدئات وعقاقير الاكتئاب حتى وصل الأمر لدرجة دقت معها الدولة ناقوس الخطر.
تشير البيانات المحليّة في فرنسا إلى أن شخصاً من كل ثلاثة في فرنسا، يستخدم العقاقير النفسية، أي أكثر من 32% السكان البالغ عددهم 65 مليوناً.
يرى البعض أنّ هذا المعدل المرتفع يعكس السخاء في النظام الصحي الفرنسي، بينما يرى آخرون أنّه مشكلة صحيّة حقيقية تهدد السلامة العقلية للمواطنين.
عام 2012، أصدر الصحافي الاستقصائي الفرنسي غاي هنغنت كتابه "المؤثرات العقلية: الوجه الخفي لمضادات الاكتئاب والمهدئات والحبوب المنومة مضادات الذهان"، متقصياً ما خلفته الأدوية النفسية وإدمانها على أجساد أكثر من ثلث المجتمع، ومدى تأثير الظاهرة على الصحة العامة للفرنسيين، ملقبًا الشعب الفرنسي بـ"بطل العالم في فوضوية العقاقير النفسية"، وموضحاً أنّ فرداً من كل خمسة وقع أسيراً لإدمان المنومات والمهدئات.
أين المفّر؟
أمضى (ب. أ)، وهو باحث مصري، 12 عاماً في مدينة تولوز الفرنسية، بعدما خرج من مصر خوفاً من معرفة العائلة والأصدقاء ميوله المثلية الجنسية، لكنه صُدِم بواقع أكثر عنفاً وشراسة خاصة ضد المثليين ممن قدموا من دول الشرق الأوسط.
يحكي الباحث عن معاناته من نظرة السكان الفرنسيين إلى خلفيته الوطنية والاجتماعية، وفيها الكثير من الفوقية والتعالي، "مهما بلغت درجاتهم العلمية"، على حد قوله. يقول لرصيف22: "خلال سنوات دراستي اضطرت إلى العمل في مجالات مختلفة، وخلال عام واحد طُردت من خمس وظائف، ثلاث منها بسبب معرفة أصحاب العمل بميولي المثلية، المتعارضة في الغالب مع قيمهم اليمينية، لذا اضطررت لترك سكني والعيش في غرفة واحدة مع ستة من جنسيات عربية وإفريقية، لكن فور معرفتهم بميولي الجنسية ألقوا بمتعلقاتي في الشارع، وأمضيت أياماً عديدة في العراء".
"خرجت من مصر بأحلام أكبر حتّى من أن تستوعبها فرنسا، لكن بعد مرور خمس سنوات، تمّ تشخيصي باكتئاب شديد"
مع تدهور صحته النفسية جراء هذه الأزمات المتتالية، دخل (ب. أ) مصحة نفسية لتسعة أشهر، خرج منها عاجزاً عن العيش بدون الأدوية المهدئة ومضادات الاكتئاب.
عمّقت هذه الأزمة شعوره بالاحباط والاغتراب، فلا هو قادر على العودة إلى بلده، ولا التكيّف في مجتمع يعاني مواطنوه الأصليون أزمات كبرى، وفق رأيه.
يتشارك أبناء الطبقات الوسطى وما دون من الفرنسيين بعض الأمراض النفسية مع شرائح اللاجئين والمهاجرين من جنسيات مختلفة، فالمهاجرون، وخاصة في العقود الأخيرة مع تصاعد خطاب الكراهية وأفكار اليمين المتطرف، يعانون من أمراض نفسية أهمها الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، ما يضطرهم إلى اللجوء إلى العقاقير المهدئة، حالهم كحال الفرنسيين، بينما تظّل أزماتهم أكثر تعقيداً بلا أفق، ربما ما عدا العودة مما هربوا منه سابقاً.
التعايش مع مضادات الاكتئاب
يشاطر الفرنسي فرنسوا رولان (40 عاماً)، يعمل مدرساً للمرحلة الابتدائية، الباحث المصري المشاعر ذاتها، فقد اعتاد تعاطي مزيج من العقاقير المهدئة والمنومة منذ عشر سنوات، أي منذ فقدان وظيفته السابقة، وولوجه مجال العمل غير المنتظم، ما أدخله في نوبات من الهلع المستمر اضطرته إلى أن يذهب لمعالج نفسي.
يحكي رولان لرصيف22: "بدأ الأمر كرغبة في تجاوز أزمة البطالة، وعدم الاستقرار المادي. وجدت ذاك المزيج بديلًا أفضل من الكحول أو الأقراص المخدّرة، لكن مع مرور السنوات، فقدت القدرة على العيش بدونه، برغم ما أشعر به من اضطرابات في الأجهزة الحيوية، التي شخصها الأطباء كعرض جانبي للمنومات، لكن نوبات القلق ما زالت مستمرّة".
تتمتّع فرنسا بالمعدل الأعلى للانتحار سنوياً مقارنة بجيرانها الأوروبيين، وتنافس بهذا المعدّل الدول الإسكندنافية، مع الفوارق الكبيرة بين فرنسا وجيرانها الشماليين من حيث متوسط دخل الفرد والأزمات الاقتصادية، مثل البطالة والتضخم والفساد السياسي والإداري، وهذه كلها تتفوق فيها فرنسا بامتياز. وما بين الأدوية النفسية والانتحار، يتجلى الاقتصاد كعامل محرك للظاهرتين على التوازي.
عام 2013، أظهرت الأرقام الصادرة عن وكالتي الإحصاء INSEE و Eurostat، والتي نشرتها الرابطة الوطنية لمنع الانتحار، أن عدد الذين ينتحرون في فرنسا أعلى بكثير من عدد الذي ينتحرون في المتوسط الأوروبي، ففي كل عام يحاول حوالي 220.000 شخص في فرنسا الانتحار ، ويموت 10.000 منهم نتيجة لذلك.
هذه الإحصاءات المقلقة تعني أنّ عدد حالات الانتحار في فرنسا يزيد عن ضعفَي عدد حالات الانتحار في المملكة المتحدة وإسبانيا، كما تُظهر إحصاءات عام 2009 أن متوسط عدد حالات الانتحار في الاتحاد الأوروبي لكل 100.000 نسمة بلغ 16.8 للرجال و 4.4 للنساء. لكن في فرنسا، بلغ عدد حالات الانتحار 23.5 و 7.5 على التوالي.
في كل يوم يحاول أكثر من 700 فرنسي التخلص من حياتهم، وبينما تدق الجمعيات الأهلية ناقوس الخطر، هناك خطاب إعلامي يميني الطابع، يحاول الرجوع بالفرنسيين إلى القرون الوسطى.
البطالة كلمة السر
أمام كل تلك الأزمات يتصاعد الخطاب اليميني الشعبوي في فرنسا، إذ لا يجد حرجاً في إرجاع ما يعانيه الشعب الفرنسي من أزمات نفسية تتسبب في انتحارهم أو إدمانهم الأدوية النفسية، إلى أنّه ناجم عن أزمة دينية مرتبطة في الأساس بابتعاد الفرنسيين عن الكتاب المقدس، مثل باتريك بيسون، أحد المستشارين السابقين للرئيس نيكولا ساركوزي، وهو من رموز اليمين الفرنسي، وكان قد ذكر في نقاش إعلامي أسباب إدمان الأدوية النفسية وزيادة معدلات الانتحار، مبرراً ذلك بالابتعاد عن تعاليم المسيحية، وانغماس المواطن الفرنسي في عالم ما بعد الحداثة.
لا شيء يشغل بال الإعلام الفرنسي أكثر من سؤال الهويّة، فيما تتصاعد الهجمة اليمينية ضد المهاجرين واللاجئين، خاصة من العرب والمسلمين والأفارقة. يعلق بعض نجوم الإعلام الفرنسي عليهم كل ما آلت إليه البلاد من أوضاع سيئة، لكن بنظرة عن كثب، فإنّ هدد المنتحرين الآخذة في التزايد، ومعدّل تناول الأدوية النفسية يتركزان في مناطق الريف الفرنسي الأكثر تهميشاً، والأقل حصولاً على الخدمات بالنسبة للعاصمة.
لا هو قادر على العودة إلى بلده، ولا التكيّف في مجتمع يعاني مواطنوه الأصليون أزمات كبرى
عام 2011 أضرم طالب في مدينة مارسيليا النار في نفسه، بعدما فشل في الحصول على عمل جيد، أمّا في نيسان/ إبريل 2020، فقد أشعل شاب ثلاثيني النار في جسده خلال النهار بمحطة قطار بيغال أمام أعين الناس، وخلال الأعوام العشرة هناك العديد من الضحايا احتجوا على الوضع العام بالانتحار المعلن أو إضرام النار في وضح النهار، وهما في عداد السلوكيات الاحتجاجية.
تعكس مثل هذه الأفعال مستوى الغضب الشعبي الذي بلغ ذروته مع اندلاع احتجاجات السترات الصفر عام 2019، لتدق ناقوس الخطر، كما يوضح الباحث في الفلسفة بجامعة السوربون، فرانسيس إيمانويل، لرصيف22، يقول: "السترات الصفر لم تكن إلّا تعبيراً أكثر مباشرة على الحنق الذي بلغه الفرنسيون بعد عقود من محاولات الإصلاح الفاشلة، وغالباً ما تنتهي بالمزيد من الانهيار".
ويتابع: "إدمان الأدوية النفسية والانتحار مؤشر على ما بلغته الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا، أوضاع يتّم تسطيحها من قبل نخبة مسيسّة، كل ما تتطلع إليها إلصاق الفشل الاقتصادي بالدولة وبالمهاجرين، بينما تتغافل عن عمليات النهب الممارسة من قبل الدولة الفرنسية بحق مستعمراتها الإفريقية السابقة".
وينهي إيمانويل: "الحالة العامة للشعب ممزقّة بين البحث عن الهوية والبحث عن أمان اقتصادي، اللذين هما بطلا هذا المشهد العبثي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 6 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 7 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت