شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
حين غضب

حين غضب "و" الذي فقد رجليه على أمة لا تعرف كيف تسير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 17 مايو 202201:28 م

كان يدرس معنا في القرية "و" الفاقد لساقه. فكان محروماً من سماع اسمه من طرفنا؛ فهو يُنادى بـ"العايب" (الكسيح) و"المعوّق" و"أبو عصا" و"أبو كراع"، ما عدا في يوم واحد من العام هو يوم العلم، 16 نسيان/أبريل، إذ كان يُنادى بـ"العبقري" لأن مساهمته في تتويج مدرستنا في مسابقة يوم العلم تكون حاسمة، فهو يعطي الإجابة في كل المواد، قبل أن يكمل العريفُ السؤال.

مرّةً رفض "و" أن يصعد إلى الحافلة المتوجّهة إلى عاصمة المحافظة للمشاركة في مسابقة يوم العلم، رغم محاولات المدير والمعلمين، احتجاجاً منه على الألقاب المعيبة التي تُطلق عليه من طرف الجميع، من غير أن يحرك المديرُ والمعلمون ساكناً.

قال "و": اليوم سيظهر المعوق من غير المعوق. اذهبوا من دوني، فإنّي منتظركم هنا مع منحوتاتي. هل تريدون أن أرسل معكم إحداها لتنوب عني؟

تماثيل تصرخ وتمشي وتغني وتحقق الانتصاب

كان الفتى "و" بارعاً في إنجاز تماثيل صغيرة من الطين إلى درجة أن الناظر إليها للوهلة الأولى يعتقد أنها كائنات حية مهربة من البيوت، فيشرع في مناغاة التمثال إذا كان لطفل، ومغازلته إذا كان لفتاة. وهما أكثر الشرائح التي كان يحب "و" نحتها، حتى ينفس عن حرمانه، فهو يعتقد أنه لن يحظى بفتاة وأطفال في حياته بسبب "إعاقته".

نحت مرة فتاة وتركها تجف تحت الشمس، ريثما يخرج من الصف، فوجد فتية سرقوها واختلَوا بها بين أشجار الدفلى في الوادي، وراحوا يمارسون عليها العادة السرية جماعياً، من غير أن يستتروا عن بعض، رغم أنهم من بيئة قروية تلزم فردَها بالابتعاد كثيراً عند قضاء حاجته، إذ لم تكن هناك مراحيض، حتى لا تُرى عورته. من هذا الذي يستطيع أن يظهر بين الناس، بعد أن يروا منه ما يجب ألا يُرى؟

كان "و" يغار على منحوتاته، تماماً مثلما يغار عاشق على فتاته، فنسي أنه لا يملك ساقاً، وغامر زحفاً صوب الوادي ليسترجع أنثاه من بين "مخالب الثعالب المكبوتة"، فلم يصل إلا وقد فقدَ كثيراً من الدم واللحم

وكان "و" يغار على منحوتاته، تماماً مثلما يغار عاشق على فتاته، فنسي أنه لا يملك ساقاً، وغامر زحفاً صوب الوادي ليسترجع أنثاه من بين "مخالب الثعالب المكبوتة"، فلم يصل إلا وقد فقدَ كثيراً من الدم واللحم.

صاح على "الثعالب" عند وصوله، فرفعوا سراويلهم، وانطلقوا في اتجاهات مختلفة، قبل أن يعاين وجوههم ويتعرف عليها، فيدفعوا ضريبةً لا يستطيعون توقع طبيعتها، لكن بعد أن انتزعوا فخذَي المنحوتة الأنثى. لاحقاً قال البعض إنهم فعلوا ذلك انتقاماً من صاحبها، فيما قال البعض إنهم أخذوا العضوين اللذين يمكّنانهم من مواصلة حفلتهم الجنسية.

بذل جهداً مريراً في اقتحام أشجار الدفلى، واحتضن أنثاه باكياً بحرارة جعلتها تتفتت في حضنه.

حافلة أصحاب الأقدام الخرساء

عادت الحافلة بطيئةً من غير تزمير، على غير عادتها في المواسم السابقة، دلالةً على عدم التّتويج. ونزل التلاميذ "الأسوياء" خفيضي الرؤوس والعيون، فصاح "و" ورأسه يكاد يلامس السماء: "وداعاً أيتها المدرسة التي عجزت عن جعل تلاميذها ومعلميها وإدارتها يرونني إنساناً عادياً، أنا الذي فقدت ساقي في حادث لم يحترم فيه سائق متهوّر قانون المرور".

بعد خمسة وثلاثين عاماً، رأيت التلاميذ النازلين أذلّاءَ من الحافلة العائدة خالية الوفاض من مسابقة يوم العلم، في كل رياضي عربي "سوي" شارك في أولمبياد طوكيو. ورأيت "و" في كل رياضي عربي "معوّق" عاد بالميدالية؛ أي عاد بما ذهب من أجله، بعد أن رفع علَمه الوطني في منبر يسيل له لعاب الأعلام. ذلك أنّ الأعلام مثل البشر تغار أيضاً، وتفرح أيضاً. وهل كانت الأعلام العربية تفرح في طوكيو لولا الرياضيون "المعوّقون"؟

لقد انتظرت من الحكام العرب، أو لأقل إنني حلمت، فما يحيط بهم من مستشارين أولى بصفة "المعوّقين"، أن يستقبلوا الرياضيين المتوجين من ذوي الهمم، ويصدروا في حضرتهم القرارات التالية:

أولاً: تجريم الأذى المعنوي في حق أصحاب ذوي الاحتياجات الخاصة

ثانياً: اعتماد تسمية "ذوو الهِمَم" تسميةً رسمية للمنتمين إلى هذه الشريحة

ثالثاً: اعتماد بطولة وطنية خاصة بشريحة ذوي الهمم، بكل ما تتطلبه من قوانين وفضاءات

رابعاً: رفع المنحة الخاصة بشريحة ذوي الهمم، فتساوي على الأقل الأجر القاعدي المعمول به في تلك البلاد

خامساً: إلزام المقاولين بتكييف كل المنشئات بما ييسّر حركة ذوي الهمم فيها

سادساً: إطلاق أسماء متفوقين أحياء من ذوي الهمم على الشوارع والمنشئات الكبرى

سابعاً: تعيين كفاءة من هذه الشريحة مستشاراً رئاسياً أو أميرياً أو ملكياً، وإلزام كل وزارة بذلك

ثامناً: تعيين لجنة خاصة لتغذية برامج المنظومة التربوية برؤية إنسانية وإيجابية لهذه الشريحة

لقد حان لنا نحن العرب أن نعمل على تغيير مفهوم "الإعاقة" في أذهاننا ووجداننا، بمواجهة هذه الأسئلة: من هو المعوق الحقيقي؟ من لا يملك رجلين، أم الشعب الذي يملك حدوداً مغلقة في وجهه، فهو لا يزور ولا يُزار؟

لقد حان لنا نحن العرب أن نعمل على تغيير مفهوم "الإعاقة" في أذهاننا ووجداننا، بمواجهة هذه الأسئلة: من هو المعوق الحقيقي؟ من لا يملك رجلين، أم الشعب الذي يملك حدوداً مغلقة في وجهه، فهو لا يزور ولا يُزار، حتى بات عدد عمال وزارة السياحة، في كثير من الدول العربية أكبرَ من عدد السيّاح الوافدين؟ من المعوق الحقيقي، الذي لا يملك لساناً ناطقاً أم الشعب الغارق في الثرثرة الجوفاء في مواقع التواصل الاجتماعي والإذاعات والشاشات، من غير أن يدعو إلى جميل أو ينهى عن قبيح، حتى وصلنا إلى زمن عربي باتت النجومية فيه مخطوفة من فتيان وفتيات تيكتوك وإنستغرام، في ظل نزيف الهجرة الذي تشهده العقول المفكرة والمبدعة في مجالات حيوية؟

من المعوق الحقيقي؟ الذي لا يملك يديْن أم الشعب الذي يستقدم الأجانب ليُنجزوا له بناياتِه وطرقَه ويستورد قمحه وثومه وبصله وعدسه من الخارج، وهو يملك سهولاً يسيل لها لعابُ أكرانيا؟ من المعوق الحقيقي؟ الذي يعاني خللاً ذهنياً أم الشعب الذي لم يستطع، بعد عقود من الاستقلال الوطني، أن يتجاوز الشرعية التاريخية إلى شرعية المواطنة، حتى أن شرارة صغيرة باتت قادرةً على إشعال مكوناته الاجتماعية والإثنية؟ من المعوق الحقيقي، الذي لا يملك عينين أم الشعب الذي لا يبصر مستقبله فهو يراه في ماضيه؟ من المعوق الحقيقي، الذي لا يملك أذنين أم الشعب الذي لا يسمع على مدار عامه إلا البذاءات حتى من طرف أطفاله والرداءات في فضاءاته المختلفة؟

نهاية سعيدة وحزينة في الوقت نفسه

التقيت "و" بعد سنوات غابت عني فيها أخباره، وقد بات أباً وأستاذاً جامعياً في فرنسا، حيث بات يحوز عشرات براعات الاختراع، فقال لي: لا بد من تحقيق العدالة في الوطن العربي؛ إما أن نحرّك جميع القطاعات لتصير مثل الفرق الوطنية لكرة القدم، وإما أن نعوّقها هي الأخرى لتصير مثل بقية القطاعات، فقد بات أنشط وأنجح ما في معظم البلدان العربية فرقها الكروية. هل سترافقني إلى وادي الدفلى؟

ـ لماذا؟

ـ لأترحم على منحوتتي التي ذهبت شهيدةً للكبت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image