شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
التخفف من العلاقات والبحث عن الأمان في الزمن السائل

التخفف من العلاقات والبحث عن الأمان في الزمن السائل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 16 مايو 202202:30 م

في حديثٍ جمعني بصديق حول العلاقات العاطفية في حياتنا، أخبرني بأنه لا يبحث عن علاقاتٍ تقود إلى ارتباط رسمي (زواج)، وبأنه تحديداً في هذه الفترة من حياته يبحث عن علاقةٍ خفيفةٍ خالية من الالتزامات، وعبء المسؤوليات، وخالية من مشاعر الحب أو التعلق، ولكنها بهدف الونس، والمرح والتسلية وقضاء أوقات ممتعة للطرفين. أكد لي أن الأمر يجب أن يكون صريحاً وبالتراضي بين الطرفين، ويجب أن تعلم الشريكة المستهدفة أيضاً أن هذا هو شكل العلاقة المقصودة.

ليس هذا الصديق فحسب من يضع صفات وشروطاً لعلاقاته العاطفية، فالمستمع إلى قصص قليلة من المحيط أو حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، يدرك أن زمن العلاقات ذات الشكل الواحد، والشروط الواحدة، والتي تهدف بالضرورة إلى حب وارتباط رسميين يختفيان تدريجياً، وتحل محلهما علاقات بشروط مناسبة للشريكين، لا تشبه الشكل الذي تعارفنا عليه من قبل، والراسخ في لاوعينا.

علاقات خفيفة تليق بالزمن السائل

يخبرنا العالم السوسيولوجي زيغموند باومان، في كتابه "الحب السائل"، ضمن سلسلة السيولة، بأن العلاقات لم تعد على نمط "تعاهدنا على ألا يفرقنا إلا الموت"، وأن العصر الاستهلاكي الذي يعيشه الإنسان بالوفرة في المنتوجات، وتنوعها، والاستخدام الفوري والسريع وحتى الإشباع اللحظي والنتائج السحرية التي لا تحتاج إلى وقتٍ طويلٍ، ينطبق أيضاً على العلاقات الاجتماعية، ومنها الحب.

لم يعد الإنسان يبحث عن علاقات طويلة تحتاج إلى العمل والجهد، بل يسير تدريجياً نحو الخفة والتخلص من كافة الأعباء والمسؤوليات الناتجة عنها، أو كما تسميه كاثرين جار، "علاقات الجيب العلوي: التي تهدف إلى الاستهلاك اللحظي من دون أي مجهود والتخلص الفوري منها كالنفايات".

في خضم علاقات لا تدوم طويلاً، ولا تسمح للإنسان بالشعور بالانتماء ولا حتى الحب، حسب التعريف الذي اكتسبه الأشخاص عبر الأزمنة ورسخته الآداب والفنون بطريقة عرضها للمسألة، ظهرت معضلة "عدم الأمان"، والتي يقول فيها باومان أيضاً إنها تنطبق على جميع جوانب حياة إنسان العصر السائل، فلا ضمان للعلاقات، ولا للعمل أو السكن. لا يعرف إنسان هذا العصر "الاستقرار" نظراً لمتطلبات السوق المتغيرة والسريعة، والتي يشعر الكثيرون معها بالنبذ وتوجس الاستبدال بغيرهم، كذلك هو الشعور نفسه الذي يملأ العلاقات، شعور بالتهديد والترك طالما يوجد بديل وبوفرة، معتمدين على ما يصفه باومان بـ"فلنجرب ونرَ ما سيحدث".

الأمان المفقود في العلاقات وتجارب الحب الوفيرة لتعلم المهارة

معظم المشكلات المطروحة اليوم على مستوى العلاقات، تعودُ أساساً إلى الشعور بعدم الأمان، والتهديد بالترك والتخلي، الناتجين عن نمط العلاقة نفسها في هذا العصر، وأحياناً عن صدماتٍ أخرى يعرفها الشخص خلال مرحلة الطفولة، أو من علاقاتٍ سابقة، إذ تقول مايا (28 عاماً)، إن معظم العلاقات العاطفية التي اختبرتها، كانت تتعرض فيها للمقارنة أو التصريح بأنها غير كافية، وهو السبب ذاته الذي ولّد عندها شعوراً بعدم الأمان، وقررت بناءً عليه إنهاءها. في حين رفضت مريم، العلاقات العابرة (علاقات الجيبِ العلوي)، التي قد يعترف فيها الطرف الآخر منذ البداية، أو تكتشف من خلال معاملته أنها تعيش علاقةً لا نية من طرف الشريك فيها في استمراريتها، والتي تصفها بأنها استنزاف للمشاعر وهدر للوقت. ربما هذا ما منحها تجربةً لتحديد نمط العلاقة التي تريدها والحديث عن ذلك في كل مشروع علاقة جديدة. ولا نقصد هنا بالضرورة أن تكون المرأة هي الشريك الذي يتعرض لهذا الشعور، فالأمر وارد ويحدث فعلياً للجنسين.

لم يعد الإنسان يبحث عن علاقات طويلة تحتاج إلى العمل والجهد، بل يسير تدريجياً نحو الخفة والتخلص من كافة الأعباء والمسؤوليات الناتجة عنها، أو كما تسميه كاثرين جار، "علاقات الجيب العلوي: التي تهدف إلى الاستهلاك اللحظي"

هذا التنقل الذي عرفه شكل العلاقات والمشكلات التي نتجت عنه، جعل المختصين النفسيين يركزون على تقديم تفاسير ونصائح حولها، بدءاً من تحديد كل شخص الغرض من دخوله في العلاقة، وتعريف الحب بالنسبة إليه، وما الذي يريده من الشريك تحديداً، بغرض منع أي لبسٍ واختلاف قد لا يظهران في البداية لكنهما قد يكونا سبباً في جرح أحد الشريكين، ومعاناتهما.

هنا نعود إلى السؤال الذي بات مشاعاً: ما هو الحب؟ الذي يقف عنده المختصون مشددين على تنقيته مما اكتسبه اللاوعي عبر أغانٍ وأفلام وفنون وآداب بشكل عام، منوّهين بأن الحب الحقيقي خالٍ من الآلام، والتعلق، ويحافظ فيه الشريكان على فردانيتهما ومساحتهما الشخصية، لاغين فكرة التلاحم والذوبان في الشريك، التي سيطرت على الإنسان لعصورٍ كشكلٍ من أشكال الحب. حتى هدف العلاقة الذي كان متعارفاً عليه، أي الزواج وإنجاب الأطفال، انفصلا عن شروط الحب، وصار من الواجب معرفة الشخص لهدف العلاقة حسب رغبته الخاصة. صار كثيرون واعين لتشكيل علاقةٍ حسب رغبتهم تتماشى مع العصر أيضاً، أو في طريقهم إلى ذلك.

تصنيف العلاقات والشخصيات بين العامة والمختصين

يزيد انتشار الوعي بالعلاقات بين العامة، ويظهر جليّاً، فما أن تقرأ منشوراتٍ على مواقع التواصل، لعامةٍ غير مختصين، في أثناء روايتهم تجاربهم الخاصة، أو تجارب المحيطين بهم، لا يتأخرون في استخدام تسميات علمية دقيقة مثل "علاقة سامة"، "علاقة اعتمادية"، "شخصية نرجسية"، "شخصية مسيطرة"، وغيرها من التسميات التي لم تكن معروفةً إلا من قبل مختصين.

حتى المصطلح الذي وصل إلى قمة تداوله مؤخراً Red flags، والذي يعني العلامات التي تدل على أنك مع الشريك الخطأ، صار شائعاً. وتمكّن كثيرون من مشاركة تجاربهم وآراءهم الشخصية، في وقت قد تكون الصفة التي يبحث عنها شخص ما في شريكه، منبوذةً تماماً من شخصٍ آخر.

معظم المشكلات المطروحة اليوم على مستوى العلاقات، تعودُ أساساً إلى الشعور بعدم الأمان، والتهديد بالترك والتخلي، الناتجين عن نمط العلاقة نفسها في هذا العصر، وأحياناً عن صدماتٍ، أو من علاقاتٍ سابقة

وبات استعمال المصطلحات واضحاً وواسعاً، ويمكن لأي شخص مهما كانت خلفيته استخدامها وتفسير ما يحدث في العلاقات من خلالها أيضاً، وربما هو السبب ذاته لتوجه الحوارات وحتى السيناريوهات في الأعمال الفنية نحو المباشرة والصراحة، الأمر الذي استهجنه كثيرون، فقد ولى زمن المجازات وفهم ما بين السطور. الجميع يدعون حالياً إلى تبسيط ما يشعرون به وتوضيحه، من دون أي تنميق في التعبير عن أنفسهم للمقربين بمن فيهم الشريك، لمنع أي سوء فهم، أو عدم فهم. على سبيل المثال، تظهر ابنة البطلة علا في مسلسل "البحث عن علا"، وهي تخبرها بأن هذه العلاقة سامة. الابنة المراهقة تستطيع تسمية علاقة وتصنيفها وسط دهشة والدتها، وهذا ما لم يكن موجوداً في الأجيال السابقة على الأقل.

تزداد محاولة الأشخاص لاكتساب فهم ووعي بطبيعة الشخصيات والعلاقات بعد كل تجربة يمرون بها، وهذا ما يفسره باومان بأن الوقوع في الحب يصبح مهارةً يتعلمها المرء وكلما ازدادت تجاربه، وتراكمت خبرته، تصبح كل تجربة قادمة بالضرورة أحسن. ويسير الإنسان الحديث إلى التخفف من تملك الأشياء بإرادته أو حتى من دون ذلك، فوتيرة العصر ومتطلباته تفرضان عليه شروطهما، إذ قال عنهما ريتشارد باكستر المبشر التطهيري: "ينبغي أن تقع خفيفةً حتى يمكن التخلص منها بسهولةٍ وفي أي لحظةٍ"، وهذا تماماً ما يحدث مع علاقاته العاطفية والاجتماعية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image