شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"نساء يركضن مع الذئاب"... لماذا أصبح كتاباً مقدّساً للكاتبات المصريات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 15 مايو 202204:31 م

"حلمتُ في يوم من الأيام أنني أروي الحكايات، وشعرتُ بمن يربت على قدمي مشجعاً لي فنظرت إلى أسفل، لأرى نفسي واقفة على أكتاف امرأة عجوز كانت تُثبت كاحلي، وتنظر إلى أعلى وهي تبتسم، قلتُ لها: لا لا تعالي أنتِ، وقفي على أكتافي لأنكِ عجوز وأنا ما زلتُ شابة، فردت بإصرار: لا لا هذا ما يجب أن يكون. فنظرت لأجد أنها تقف على أكتاف امرأة طاعنة في السن أكبر منها، والتي كانت تقف بدورها على أكتاف امرأة أكبر كانت تقف على أكتاف امرأة مكفنة والتي كانت تقف على أكتاف شبح امرأة، والذي كان يقف على أكتاف....".

كان ذلك هو الحلم القديم الذي رأته القاصة والمحللة النفسية الأمريكية كلاريسا بنكولا (Clarissa Pinkola)، ذات الأصول الإسبانية والمكسيكية وكذلك المجرية بالتبني، وهو أيضاً ذاك الحلم الذي جسدته بنكولا في كتابها الفريد، الذي يُمثل ذروة الإبداع النسوي، "نساء يركضن مع الذئاب". صدرت النسخة العربية الأولى منه عام 2005، بترجمة فاتنة للكاتب والمترجم مصطفى محمود، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب- مكتبة الأسرة، وبعد النجاح الساحق الذي حققه، والتأثير الطاغي الذي تركه على الكاتبات والمبدعات المصريات، توالت الطبعات، ليصدر في طبعة ثانية عن المركز القومي للترجمة، ثم طبعة حديثة عن دار آفاق للنشر بالقاهرة.


"المرأة والذئبة"... علاقة قرابة

صدقت كلاريسا بنكولا حلمها القديم عن المرأة العجوز، وآمنت بأن رواية الحكايات أو سماعها إنما يستمد قوته من العمود الشاهق للحلقات الإنسانية المتصلة مع بعضها البعض والمتصاعدة عبر الزمان والمكان، وهذا العمود الشاهق، الذي يُمثل السلسلة الطويلة من الحياة البشرية، هو المصدر الوحيد للقصة، بالأحرى روحها. وبما أن بنكولا هي باحثة نسوية بالأساس، فقد كان سعيها الدؤوب، يهدف إلى الوصول إلى المرأة الأزلية، أو –بتعبيرها– "المرأة الوحشية"، التي هي منبع الطبيعة الغريزية والحدسية للمرأة، حيث رأت الكون في بدايته، ونهلت من قوته، ومن الشمس والقمر، ومن طين الأرض، في توحد عارم مع الحياة البدائية، التي تحوي المعارف الأصلية.

والمرأة الوحشية عند بنكولا هي تعبير مجازي، بما يحويه من تراكيب وتمثلات نفسية فهي تقول: "المرأة الوحشية من وجهة نظر علم النفس المبدئية، هي روح الأنثى، بل أكثر من ذلك، هي مصدر الأنوثة".


بما أن بنكولا هي باحثة نسوية بالأساس، فقد كان سعيها الدؤوب، يهدف إلى الوصول إلى المرأة الأزلية، أو –بتعبيرها– "المرأة الوحشية"، التي هي منبع الطبيعة الغريزية والحدسية للمرأة

غير أن هذا الطرح الثري، والمغري، الذي يدفعنا إلى الانضمام لركب الطبيعة الغريزية، لا يعني لدى كلاريسا أن نتحلل من كل شيء، ونفقد جذورنا وهويتنا، بل إنها ترى أن الطبيعة الوحشية هي الدرع الواقي لنا، بعد أن عصفت الحضارة بكل ما هو فطري وغريزي، وأسست لأنظمة صارمة، سحقت الروح الإنسانية، وأهدرت المغامرة البشرية الحقة، في سبيل الوصول إلى الحرية. ولأن المرأة هي الحاملة لهذه المعرفة الحدسية، والطبيعية الغريزية، فكانت دائماً وأبداً العدو اللدود للحضارة الرأسمالية التي تسعى إلى التعليب، وتصدير النماذج النسائية الجاهزة المجوفة، الخالية من الروح.

معجم سيكولوجي للأنوثة

ولم يكن الجمع بين "النساء والذئاب" في ذلك العنوان الملفت، تعبيراً لفظياً عن القوة والشراسة، بل إن الجمع بينهما، جاء عبر دراسة كلاريسا لبيولوجيا الحيوانات المتوحشة، والذئاب على وجه الخصوص، ومن خلال هذا البحث العلمي، توصلت الكاتبة إلى أن دراسة الذئاب، تشبه دراسة تاريخ المرأة من ناحيتين: تميزها بالقوة الروحية، ومعاناتها لآلام الولادة، وثمة خصائص نفسية واحدة، تشترك فيها الذئبة مع المرأة القوية، كصدق المشاعر، والروح المرحة، والقدرة العالية على العطاء، تقول كلاريسا: إن المرأة والذئبة بطبيعتهما تشتركان بعلاقة قرابة؛ لقد ظلتا كلتاهما مطاردتين ومعرضتين للإيذاء المستمر، ومتهمتين ظلماً بالنهم، والميل للمخادعة، وهما مستهدفتان دوماً من هؤلاء الذين يستأصلون دائما كل ما هو فطري".

أنفقت بنكولا أكثر من عقدين من عمرها، في الإعداد لهذا الكتاب، وتجميع مادته من الأساطير والحكايات الشعبية المستقرة في مختلف الثقافات، والتي تتناول عالم المرأة قديماً، وهي تربط بين هذه الميثولوجيا القديمة، وعلم النفس الحديث، حيث تجري تحليلاً نفسياً، كطبيبة ومعالجة نفسية، لشخوص الحكايات والأساطير، بافتراض أن كل شخصياتها موجودة بداخلنا.

ويقول المترجم في تصديره للكتاب: "إن كتاب كلاريسا، يُعد معجماً سيكولوجياً للأنوثة الغزيرة والمبتهجة والمتفردة، ويستند على علوم متنوعة مثل الإثنوغرافيا والإثنولوجيا، والفلكلور والأنثروبولوجيا، كي يُحلل ويُناقش فكرة القهر المجتمعي التاريخي الواقع على المرأة، ويتبنى رؤية يونج للفن على أنه المخزون التراثي والجيني والإبداعي للإنسانية في صوره الموروثة وأهمها صورة المرأة الوحشية".

قاتل الزوجات وترنيمة الخلق

ثمة غرام نشأ بين كلاريسا بنكولا وعدد كبير من الروائيات والشاعرات المصريات، حتى صار "نساء يركضن مع الذئاب" بالنسبة إليهن كتاباً مقدساً. وعند أي أزمة نفسية أو إبداعية، يكون سرد كلاريسا الحيوي، العاصف، المفعم بالحياة، هو المنقذ، فثمة طاقة روحية هائلة، تسكن صفحات الكتاب، يُمكنها تبديد أي ظلام. تكمن هذه الطاقة في روح كلاريسا نفسها، هي التي نشأت في أحضان الطبيعة بالقرب من البحيرات العظمى، وهناك كان غذائها الرئيسي هو البرق والرعد، وفي المساء كانت تستمع إلى حقول القمح، حين يعلو صوت حفيف أوراقها، وعلى المدى البعيد كانت ترى قوافل الذئاب، تأتي إلى المناطق الجرداء تحت ضوء القمر، تتهادى متمايلة في صلوات إيقاعية.

الكاتبةكلاريسا بنكولا

وكانت هذه الشابة الصغيرة، تقترب من الذئاب، لتشرب معها من نفس الجدول دونما خوف، لكن هذه النشأة بين أحضان الطبيعة، لم تُجنب كلاريسا الدخول في سجن النساء، الذي شُيد في كل المجتمعات على السواء، فهي تقول إنها تنتمي إلى جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت المرأة آنذاك تعتبر نوعاً من الملكية الخاصة "وهكذا مثل الكثير من النساء من قبلي ومن بعدي، عشت حياتي كمخلوق متنكر. لم أنس أغنية تلك السنوات المظلمة، (أغنية الروح الجائعة)".

منذ عدة سنوات قرأت لي صديقتي الباحثة والقاصة الكردية خيرية شوانو، هذا المقطع: "لا تكوني حمقاء، ارجعي وقفي عند الزهرة الحمراء، وامشي في خط مستقيم إلى الأمام، إلى هذا الميل الأخير الصعب. اذهبي واطرقي على الباب المفكك العتيق، تسلقي إلى الكهف، تسللي من خلال النافذة في أحد الأحلام، انخلي رمال الصحراء، وانظري ماذا تجدين، إنه العمل الوحيد الذي يتعين عليك فعله. هل تحتاجين إلى نصيحة في التحليل النفسي؟ اذهبي لتجمعي العظام".

الوحشية التي تقصدها كلاريسا، ليست الهمجية، وإنما هي وحشية داخلية، من شأنها إيقاظ الحواس، إلى الدرجة التي تصل فيها المرأة إلى قوة الذئبة فلا يستطيع أن يستغلها أحد

من هنا بدأت قصتي مع نساء وذئاب كلاريسا بنكولا، وصارت "لالوبا"، هي قصتي الأثيرة. وحتى أعثر عليها، كان علي أن أذهب بعيداً، أن أتحرر، وأغني كي تشتعل الحياة في الجزء المعتل من الروح. لقد حررتني لالوبا، وهي –وفقاً للأسطورة- المرأة العجوز التي تعيش في الصحراء، وتجمع عظام الموتى في كهف صغير، ثم تنطلق بالغناء، مستخدمة صوت الروح. وحين تغني لالوبا، تكتسي العظام باللحم، وتظل تغني حتى تبث الروح في الجسد، وقد اُطلق على هذه "المرأة الوحشية" –لالوبا التي كانت تعيش في الصحراء- أسماء عديدة، تشعبت وامتدت جذورها إلى كل الأمم عبر قرون من الزمان. وهناك بعض الأسماء القديمة لها مثل: أم الأيام، الأم نِكس، وهي إلاهة الليل في الميثولوجيا اليونانية التي لها السيادة على كل الأشياء من الطين والظلام.

"لالوبا" أو "ترنيمة الخلق"، هي قصتي المفضلة في حكايات وأساطير كلاريسا، فيما أحبت الكاتبة خيرية شوانو قصة "بلوبيرد... قاتل الزوجات"، وهي القصة التي تحمل إلينا أنباءً، عما ينبغي فعله إزاء جُرح المرأة الذي لا يتوقف نزيفه.

تقول شوانو إن أهمية هذا الكتاب، تكمن في تصحيحه للكثير من المفاهيم والمعتقدات السائدة، التي ترسخت في عقولنا، على أنها أشياء إيجابية، وهي بالأساس، تم تفصيلها على مقاس المجتمع الذكوري، لممارسة المزيد من القهر على المرأة، ومن بينها مثلاً مفهوم الوحشية. فالوحشية التي تقصدها كلاريسا، ليست الهمجية، وإنما هي وحشية داخلية، من شأنها إيقاظ الحواس، إلى الدرجة التي تصل فيها المرأة إلى قوة الذئبة فلا يستطيع أن يستغلها أحد. كما أنها تُقدم قراءة جديدة لمفهوم البراءة، فهي لا تقصد بالبراءة، السذاجة أو الوداعة، وإنما البرء من الجروح، فالمرأة الوحشية، لديها القدرة على البرء من جروح نفسها وإشفاء جروح الآخرين أيضاً.

أما قصة "بلوبيرد"، فتنبهنا إلى خطورة السذاجة، أو المبالغة في التسامح مع الجانب المظلم في الرجل، حتى تظهر المرأة في صورة الزوجة الصبورة، المخلصة، وهي في الحقيقة، ليست سوى فريسة أمام وحش. لكن أكثر ما أدهشني في هذا الكتاب هو ذلك الربط القوي الذي حققته كلاريسا بفنية هائلة، بين الرحم الكوني ورحم المرأة.

كنوز العالم القديم

ذات صباح، تلقت الشاعرة والفنانة التشكيلية غادة خليفة، إتصالاً هاتفياً، من معالجتها النفسية الدكتورة فؤادة هدية، نصحتها بضرورة التوجه إلى مكتبة الأسرة بالهيئة العامة للكتاب، لشراء الكتاب الجديد "نساء يركضن مع الذئاب". في الطريق تصفحت غادة خليفة الكتابَ الضخم، ولم تتوقف عن قراءته للآن، حيث وصل عدد مرات قراءتها له إلى 28 مرة. تقول غادة إن كتاب كلاريسا، كان بمثابة علاج لها، لكنه علاج محبب إلى نفسها، هي التي عشقت فن "الحواديت" والحكايات منذ الصغر، وقضت لياليها في الطفولة تُفكر في حدوتة "أمنا الغولة"، وتتساءل باستغراب، لماذا حازت البنت الكاذبة على الجائزة؟ هل علينا أن نكذب حتى نفوز؟ واستمر هذا السؤال مؤرقاً لها، حتى استطاعت الوصول إلى المعنى العميق للحدوتة، وهو احترام الضعف الإنساني، أي ضعف أمّنا الغولة.

أكثر ما أدهشني في هذا الكتاب هو الربط القوي الذي حققته الكاتبة، بفنية هائلة، بين الرحم الكوني ورحم المرأة

تضيف غادة: "ثمة طريقة سرد ساحرة لبنكولا في كتابها الملهم. أسرتني الطاقة الشعرية الهائلة في الكتاب، كما أنني فُتنت بطريقة التحليل النفسي للحكايات. الكتاب يخبرنا عن الكثير من الكنوز المعرفية والخبرات الإنسانية، التي اكتشفها العالم القديم، ثم قرر هذا العالم بشخوصه، أن يمرر هذه المعرفة للأجيال التالية، حتى وصلتنا نحن، ربما لنكتشف المعنى العميق، وتكون هذه لحظة التنوير، أو الضوء الذي يرشدنا إلى الطريق".

وتقول أيضاً: "أهديت هذا الكتاب لأكثر من 20 صديقة، لأنني مؤمنة بقدرته الساحرة على إنقاذنا في ظل ما يُمارس علينا من قهر مجتمعي. كما أنه دفعني للعب مع حياتي بوصفها حدوتة، تتقاطع مع حواديت كلاريسا، وهذا ممتع، وملهم بالنسبة لي"."في حكاية الحذاء الأحمر، تصنع الفتاة الصغيرة، حذاءً لنفسها من القصاقيص، ثم تأتي سيدة ثرية، لتأخذ الفتاة للعيش معها، وفي تطور وتصاعد الحدوتة، تتصاعد وتيرة الجوع العاطفي التي تشعر به البنت تجاه عالمها القديم. لا بد أن هذه الحكاية تعلمنا شيئاً مهما، وهي ألا نُفرط في إبداعنا في سبيل أي شيء، لكن كان لابد أن تمر هذه الفتاة بتلك التجربة، حتى تُدرك قيمة ما تملكه. وهذه واحدة من القصص التي أثرت في بشكل مباشر".

أما الكاتبة والروائية أريج جمال، فتقول:" لا أتعامل مع (نساء يركضن مع الذئاب)، بوصفه كتاباً عادياً، بل هو بالنسبة لي، عمل استثنائي، بل مقدس؛ فالكتاب الذي يمنحنا كل هذه الخبرة الإنسانية، وينقل لنا هذه التجارب العميقة، ويربطنا بالأرض، وبالوجود، وبغريزة المرأة الوحشية، بهذا الشكل الحميمي، لا شك أن به سرّاً ما. لقد وضعتْ فيه كلاريسا عصارة تجاربها في الحياة. وهذه الكاتبة قد عاشت أكثر من حياة، ونحن بقراءتنا لهذا العمل الفريد، قد عشنا أيضاً حيوات عديدة. أحببت جميع الحكايات، وقد علمتني كلاريسا الصبرَ، سواءً في الإبداع أو في الحياة. تعلمت من خلالها أن أحترم كل مرحلة أمر بها، وأن أنتبه إلى ما أصاب روحي، وما أنا في حاجة إليه للحفاظ عليها من التمزق والضياع. لقد دلتني على الطريق".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image