حاز إلهام المبدعين والعباقرة على اهتمام معظم الثقافات والحضارات القديمة، والتي أرجعت الإبداع الأدبي لقوى غيبية أسطورية، بينما آمن العرب بوجود طائفة من الجنّ أطلقوا عليها اسم "شياطين الشعر"، معتبرين الشعر "نفث الشيطان" أو "رُقَى الشيطان".
ففي الميثولوجيا الإغريقية القديمة، عُرفت آلهة الإلهام التسع أو الميوزات، كمصادر إلهام للمبدعين؛ وكانوا يؤمنون بأن الميوزات يقضين نهارهن، عندما ينام الشعراء، بالاستحمام في مياه الوعد الصافية في ينبوع عبقر، أما في الليل فيهبطن إلى الأرض ويجلسن على مقربة من المصباح الذي ينير للأديب، فتلهمه الأفكار الجميلة والألفاظ المتناغمة.
ربط العرب بين الشعر والأدب وبين وادي عبقر في نجد، أحد أودية الجنّ في الثقافة العربية، فاشتقوا منه لفظ "العبقرية"، وزعم سكان عسير أن الشاعر إذا أراد نظم قصيدة، يصعد إلى قمة جبل "مهلهل" ومعه شاة يذبحها ويقرّبها قرباناً، ثم يضطجع في ظل شجرة، فإذا قُبل قربانه أحسّ في نومه كأنه يُسقى شيئاً، فينهض ويقول الشعر، معتقدين أن الجنيات الحسان يرضعن الشعراء من لبانهن لتعذب ألسنتهم، بحسب كتاب "الباب المرصود" لعمر فاخوري.
الميوزات يقضين نهارهن بالاستحمام في مياه الوعد الصافية، أما في الليل فيهبطن إلى الأرض ويجلسن على مقربة من المصباح الذي ينير للأديب، فتلهمه الأفكار الجميلة
واعتاد الأعراب أن يقولوا إن للشاعر "نجياً" من الجنّ أو الشياطين، فالشاعر عندهم دون شيطان كالرجل الذي لا ظل له.
ووفقاً لكتاب "ومضات من نوادر الكلام وطرائفه" للدكتور محمد بن حمدان؛ فقد صنّف جرير جنَّ الشعراء إلى صنفين من حيث القوّة والجودة، هما "الهَوْبَر" الذي جاد شعره وصحّ كلامه، و"الهَوْجَل" الذي فسد شعره.
"أنا هاجسك الذي ألقي على لسانك الشعر"
وفي كتابه "الحيوان" فصّل الجاحظ لأنواع جن وادي عبقر، فقال: "إنَّ الحنَّ ضَعفة الجنِّ، الجني إذا كفر وظلَم وأفسد قيل شيطان؛ وإن قوي على البنيان والحمل الثقيل واستراق السمع قيل مارد، فإنْ زاد فهو عِفريت، وإن زاد فهو عبقري"، معتبراً أنّ الحنَّ يوحون لضعفاء الشعراء والعبقري متخصص لكبار الشعراء.
اعتاد الأعراب أن يقولوا إن للشاعر "نجيّاً" من الجنّ أو الشياطين، فالشاعر عندهم دون شيطان كالرجل الذي لا ظل له
ويروي أبو الفرج الأصفهاني في كتابه "الأغاني"، لقاء الأعشى بشيطانه وجهاً لوجه، وكيف أخبره أنه مؤلف قصيدته التي مطلعها: "رحلت سمية غدوة أحمالها غضباً عليك"، ولصدمته عرّفه بابنته، وراحت الجنية تنشد للأعشى القصيدة حتى أتت على آخرها، وتكرر الأمر مع قصيدته "ودِّعْ هريرة إن الركب مرتحل"؛ فارتعب الشاعر، حتى رَثَى الشيطان لحاله وقال ضاحكاً: "ليفرغ روعك يا أبا بصير، أنا هاجسك مسحل بن أثاثة الذي ألقي على لسانك الشعر".
ويقول "بديع الزمان الهمذاني"، في المقامة الأسودية:
إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ صَغِيرَ السِّنِّ/ وَكَانَ فِي العَيْنِ نُبُوٌّ عَنِّي
فَإِنَّ شَيْطَانِي أَمِيرُ الجِنِّ/ يَذْهَبُ بِي فِي الشِّعْرِ كُلَّ فَنِّ
وزعمت العرب أنه من بين شياطين الشعر مسحل بن جندل، شيطان الشاعر الأعشى، وجُهُنّام، المُسخّر للشاعر عمرو بن قَطَن، وهَبيد بن الصُّلادم، شيطان الشاعر عَبيد ابن الأبرص، ولافظ بن لاحظ الذي ألهم امرئ القيس قصائده، ومدرك بن واغم الذي كان شيطان الكميت بن زيد الأسديّ، وهادر، الشيطان المُسخّر للشاعر النّابغة الذّبياني، وغيرهم. ولعل أهم الكتب عن جن الشعر هو كتاب ابن شهيد الأندلسي، رسالة الزوابع والتوابع.
"عزيف الجن يسابق يدي ولا يكف حتى أنتهي من الكتابة"
وحول ذلك يقول الأديب التونسي إبراهيم درغوثي: "زعم العرب قديماً أن لكل شاعر شيطانه الذي يلقنه الشعر مثل: هاذر بن ماذر: شيطان النابغة الذبياني، ولافظ بن لاحظ: شيطان امرئ القيس. ومِسحل بن أُثاثة: شيطان الأعشى.وهَبِيد: شيطان عَبِيد بن الأبرص.. وهؤلاء من فطاحلة الشعراء وأصحاب المعلقات قبل الإسلام.
الأديب التونسي إبراهيم درغوثي
وفي زمننا الحاضر، تحول هذا الاعتقاد إلى حالة إبداعية، حتى أن أبا القاسم الشابي أتهم بالجنون والسحر لأن منجزه الشعري كان خارقاً".
زعم سكان عسير أن الشاعر إذا أراد نظم قصيدة، يصعد إلى قمة جبل "مهلهل"، ومعه شاة يذبحها ويقدمها قرباناً، ثم ينام في ظل شجرة، فإذا قُبل قربانه أحسّ في نومه كأنه يُسقى شيئاً، فينهض ويقول الشعر
ويضيف درغوثي: "أعتقد أن الكتابة موهبة أولاً وصناعة ثانياً، لكني في بعض المرات وأنا منهمك في الكتابة أشعر وكأن هناك من يملي عليّ ما أكتب، حتى أنني أنكر على نفسي أنني صاحب هذه الكتابة عندما أعود إليها بالقراءة.
كما أنني أستفيق في بعض الليالي لأهجر الفراش وطنين يملأ رأسي وعزيف كعزيف الجن يسابق يدي، ولا يكف حتى أنتهي من كتابة نص أو تتمة لنص عجزت عن إنهائه وأنا واع بحالي.
إن عجائب هذه الدنيا لا تحصى ولا تعد، وما كان يعتقد في زمن ما أنه من الخوارق التي لا يصدقها العقل صار ممكناً، فلم لا يكون للمبدع شيطان وصاحب يبلغ عنه رسالة لأولي الألباب؟".
الروائية الفلسطينية صابرين فرعون
أما الروائية الفلسطينية صابرين فرعون، فتقول: "أجدني دون تخطيط أدون ما يخطر لي على قصاصات صغيرة ملونة، كما أقوم بالتسجيل الصوتي لملاحظاتي منذ مدة، كي أحافظ على الفكرة من الغرق في جبّ النسيان، وعند تفرغي من العمل أعود للتسجيلات وأحولها إلى نصّ، خاصة وأني أكتب عن الواقع الاجتماعي.
أحيانا أتوجه إلى الشرفة لأعشّب وأسقي النباتات، فأجد الطاقة اللازمة لاشتغل على النص، وأتخفّف من كم الأفكار في مواضيع كثيرة تأكل رأسي.
وفي أوقات حاجتي للكتابة واختناقي بضجيج النهار فإن الكلمات تطالبني بالصمت والإصغاء. أظن أننا في هذا العالم لسنا أحراراً ما لم نعد إلى أرشيف الماضي ونعيد إحياء الأحداث ويردها".
وتتابع فرعون: "في بعض الأحيان أطلق نظري للفراغ، للسماء وحركة غصون الأشجار والغيوم ولطريقة البشر في الكلام، وأدّعي قدرتي على تمييز الصادق من الكاذب في مشاهداتي وتلصصي على حوارات الناس دون تدخّل، أتخيلني شجرة على وشك أن يقطعوها فماذا تقول عن كينونتها؟
في وقت ما تمرنت على كتابة صفحة ثم صفحات يومياً، خاصة عند انتهائي من قراءة ما هو مفيد وممتع. صقل اللغة كما تهذيب الفكرة يحتاج لتأن وصبر وتأمل لتخرج الكلمات بأبهى حللها وتستقر في العقل والقلب".
أحلم بمن يُلقي عليّ شعراً
أما الروائي السوداني د.أمير تاج السر، فيقول: "ليس لدي مصدر محدد أستوحي منه الإلهام، فيمكنني أن أستوحي نصي من مصادر كثيرة وغير متوقعة، مثل خبر في جريدة، أو شخص أصادفه بالشارع، أو حادث مرور، واستوحيت كثيراً من النصوص من حكايات مرضى بالسودان لاسيما بمنطقة الحدود السودانية- الإرترية، أحياناً أدرس حوادث ضخمة وشخصيات تبدو ملهمة لكن لا أستوحي شيئاً.
غالباً أترك الإلهام يأتي وحده، من دون تدخل وهذا يناسبني في كل الأحوال، ومن الروايات التي استوحيتها من كتب قرأتها: 'مهر الصياح، وتوترات القبطي، وزهور تأكلها النار'، أما الروايات التي استلهمتها من أحداث قوية، رواية 'منتجع الساحرات' التي شاهدت فيها موت اللاجئة الأريترية أببا تسفاي، أيام عملي في الحوادث في مستشفى بورتسودان".
ويضيف تاج السرّ: "أعمل وفق مشروع ممتد عن الهوية، ولم أجرب جفاف القريحة؛ فلم يمر علي وقت طويل بلا كتابة، لكن أثناء كتابتي اليومية لأي نص، قد ينقطع الإيحاء حين أنقطع عن الكتابة لأي ظرف مثل المرض أو السفر، وتصعب استعادة الشحنة الكتابية مرة أخرى، فأظل اقرأ ما كتبته مرات عدة حتى أستعيد الإيحاء، وربما أعيد قراءة كتب أحبها، لتمنحني ثقة في استعادة طاقتي الإبداعية، وحدث هذا معي في روايتي 'مثل طقس'، و'366'.
عموما لكل كاتب أو شاعر طريقته، وبعض المبدعين يغيب عنهم الإيحاء سنوات، ويعثرون عليه بصعوبة شديدة".
صنّف جرير جنّ الشعراء إلى صنفين من حيث القوّة والجودة، هما "الهَوْبَر"، الذي جاد شعره وصحّ كلامه، و"الهَوْجَل" الذي فسد شعره
أحلم بمن يُلقي عليّ شعراً كثيراً وجميلاً...
بينما يقول الشاعر العُماني يونس البوسعيدي: "هناك شيء لا أحب تأويله يقع معي، وهو أني في منامات كثيرة أحلم بمن يُلقي عليّ شعراً كثيراً وجميلاً، ولكني لا أستطيع أن أعي أو أحفظه كله، فلعلي أقبض آخر بيتين أو ثلاثة أبيات كأكثر حد، فضعف الذاكرة يلازمني في الصحو والمنام.
الشاعر العُماني يونس البوسعيدي
ولأن الشعر لا ميعاد دقيق له فأنا ألحظ أن الجو المتحرك أجمل وأكرم في تداعي الشعر وكذلك الأماكن العالية والمرتفعة التي تطل على مساحات شاسعة مليئة بالحياة، بينما الهدوء والخلوات في الأماكن المنعزلة توفر لي نصوصاً تتأمل بإيقاع هادئ، فألتقط مطر الشعر حين ينهال لي وحدي".
ويضيف: "أمتاح من التاريخ كثيراً في نصوصي، وأعتبره معيناً لن ينضب، حين أتوقد في داخلي لا أهرب للتاريخ أو للشعر، لكن أصدقائي أو أهلي من كل أدغال التاريخ يحضرون لي تطبيبًا وضماداً".
رياح تأتيه من وادي "عبقر"!
فيما يؤكد الروائي المصري عمرو العادلي عدم اعترافه بالإلهام، وأن ينتظر الكاتب رياحاً تأتيه من وادي عبقر، ويرى أن ذلك في عصرنا يبدو غريباً، مضيفاً: "لنحرّر الكلمة ونسمها 'محفّزات الكتابة'، وهي كثيرة، منها مثلاً أصوات الناس في الشارع، شخص يتحدث بصدق إلى آخر، أو تكمن في فنجان قهوة مضبوط تقدمه يد يحبها الكاتب.
الروائي المصري عمرو العادلي
وأحياناً تكون المحفّزات من حزن أو شجن، لكن المحفز الأكبر بالنسبة لي القراءة. أقرأ في كل شيء، حتى لو جزء من ورقة، أحب شراء الكتب القديمة، ففيها دائماً مفاجآت، ذات مرة وجدتُ خطاباً من شاب إلى فتاة يعترف لها فيه بحبه بكلام عذب، احتفظتُ به.
كما أود سماع حكايات الغير، لا لأكتبها لاحقاً، ولكنها تحفزني لمعرفة كيف يفكر الناس، ماذا يحبون وماذا يكرهون، والسينما رافد أساسي من روافد الكتابة، الصورة إلهام، سواء كانت فوتوغرافية أو متحركة. الأحلام محفز قوي للكتابة، نحلم بما نفكر به، ثم نفكر مجدداً بما حلمنا به، دائرة لا تنتهي إلا بنهاية الحياة".
ما تفيض فيه روحي
بينما تؤمن الكاتبة اللبنانية براءة الأيوبي بأن الكتابة الإبداعية موهبة، ولكي تتصف بالاستمرارية لا بدّ من أن تقترن بمضمون يحمل بين ثناياه اختلافاً من أجل عدم الوقوع في فخّ الرتابة، مضيفة: "عادةً عندما أكتب نصاً نثرياً أعتمد كلياً على ما تفيض فيه روحي من مشاعر متباينة بين فرح وحزن وقلق وحيرة وغضب، حالتي النفسية تكون ملهمي الوحيد. الأمر يختلف عندما ألجأ إلى السرد القصصي مثلاً، وتحديداً عند اختيار الشخصيات أو مشهد البداية والذي أعتبره أساسياً وحاسماً".
وتتابع براءة: "معظم الشخصيات هي في جزء كبير منها واقعية (أغذّيها من الخيال) صادفتها في مكان ما من محيطي الاجتماعي ولفتت اهتمامي بأوصافها، سواء الايجابية أو السلبية، لتصير المحدّد الأساسي لدينامية النص.
وبالرغم من أن معظم مصادر الإلهام الكتابي بالنسبة لي مستمدّة من الواقع، إلا أنني، وفي مرّات قليلة، تعثّرتُ ببعضها أثناء النوم، بحيث كنت أستيقظ لأجدني في قمّة الجهوزية الفكرية للكتابة، وكأنّ أحدهم أفرغ في رأسي جعبة من الحكايا أثناء إغفاءتي، مانحاً لأناملي قدرة انسيابية غريبة.
يحصل كثيراً أن أقف عاجزة بشكل كلي عن الكتابة دون أن أعرف السبب. في البداية كنت أصاب بتوتّر يبدّل حالتي المزاجية لفترة من الزمن، غير أنني الآن وبعد شيء من الخبرة، بتُّ أدرك أن حالة كهذه ليست سوى عابرة وأن دفقاً سيغزو أناملي ذات بغتة، وهي مجرّد مسألة وقت لا أكثر".
الروائي الجزائري فيصل الأحمر
أما الروائي الجزائري د. فيصل الأحمر فيروي لنا واقعة حدثت له ضمن أزمات انقطاع الإلهام أثناء الكتابة، قائلاً: "لا أنتقل إلى الورق أو الحاسوب إلا في المرحلة الأخيرة للكتابة، فتكون كتابتي سريعة ودون خربشة، عدا المراجعات الضرورية التي تأتي غالباً بعد تمام العمل، إلا أن عملية الإنزال هي المجال الأول والأساسي للإلهام.
الغريب أنني عندما كنت أكتب روايتي 'ساعة حرب ساعة حب' كنت أصور الحياة الحقيقية لإرهابي تائب بعد ظهور قانون الرحمة، عقب عشرية الدم في الجزائر، وبلغت نقطة كنت عندها بحاجة إلى تفاصيل دقيقة حول حياة الإرهابيين في الجبل، كتسيير شؤون المال، المحاكمات العرفية، العلاقات المحرجة، حوادث التصفية؛ فلم أرغب في كتابة عموميات معروفة وتكرار الكليشيهات.
لحسن الحظ، كنت أعرف واحداً من الحراس الشخصيين لكثير من المسؤولين الكبار في التنظيم بالجبل، وقد كنا أتراباً وتربيناً معاً في أحياء الطفولة قبل تقطع السبل بيننا، فصرت أدعوه على سهرات خاصة وأتلاعب به لجعله يسترخي تماماً، وأستدرجه في الحديث بطرق ملتوية، كانت الليلة تطول فيروي لي أشد الأسرار خطورة، ويجيب كل أسئلتي متسائلاً وهو يضحك: 'هل أنت جامعي أو مخبر في الأمن يا فيصل؟'.
وكانت تلك الليالي حلاً سماوياً لأزمة الإلهام التي لا أدري كيف كنت سأفعل معها لولا جار الطفولة وصديق الماضي".
يروي أبو الفرج الأصفهاني في كتابه "الأغاني"، لقاء الأعشى" بشيطانه وجهاً لوجه، وكيف أخبره أنه مؤلف قصيدته التي مطلعها: "رحلت سمية غدوة "، ولصدمته عرّفه بابنته، وراحت الجنية تنشد للأعشى القصيدة حتى أتت على آخرها، فارتعب الشاعر
"لا مواعيد لزيارات شياطين الشعر"
وتؤكد الشاعرة والروائية الفلسطينية صونيا خضر أنه لا مواعيد محددة لزيارات شياطين الشعر، بل هم من الشيطنة بمكان لزيارات مباغتة في أوقات غير مناسبة، كساعات الدخول بالنوم أو أوقات الفوضى والضجيج، مضيفة: "أصبحت أحاول استفزازهم للزيارة، باختيار الوقت والمكان الهادئين ومحاولة البحث عنهم واستدراجهم للمجيء، بالنهاية وبعد عمليات كرّ وفر بين الشاعر وإلهامه، تنشأ بينهما علاقة نفعية وودية عبر التدرب المستمر لجلبهم بالأوقات المناسبة".
الشاعرة والروائية الفلسطينية صونيا خضر
وتضيف: "نقرأ كل يوم عشرات النصوص النثرية والشعرية، لكن قلما نتوقف مطولاً بتأملها والبحث في غيبياتها، لأن مهمة شياطين الشعر لا تتوقف عند الخروج بنص جميل، بل تتأكد من وصوله للقارئ، وملامسة روحه.
والإلهام والدافع لكتابة الشعر أهم من الشعر نفسه، وضروري لمنح اللغة بريقها الروحي، لا أتمكن من كتابة نص دون الإلهام، الذي أتصيّده وأترقبه وأدعو دائماً بأن يكون في وقت يسمح لي بالكتابة.
أحتاج إلى الهدوء والإلهام، قد أجلس لساعات أمام حاسبي دون أن أكتب كلمة، وقد تباغتني الفكرة خلال انهماكي بأمر آخر، فأسرع لتدوين ولو شذرة واحدة كي لا أنسى، ثم أعود لها في وقت لاحق، وأحاول وقتها الدخول مجدداً في الحالة واسترجاع اللحظة لأتمكن من الكتابة بعاطفة وصدق، وإلاّ أشطب الفكرة من أساسها".
الحديث عن محفِّـزات "الإبداع"
بينما يعتبر الكاتب الليبي خالد السحاتي أن الحديث عن محفِّـزات "الإبداع" ذو شجون؛ لأنه مرتبط بطقوس الكتابة، ومتعلق بتبايُن أساليب المبدعين في صياغة عوالم إبداعهم، وقد يأتي الإلهام من منظر جميل، أو كلمة نسمعها، أو ذكرى مؤثرة، وقد يكون رائحة عطر، أو حنيناً إلى ماض بعـيد، أو برنامجاً إذاعيّاً، أو قصيدة شعرية، أو مكاناً معيناً له في القلب منزلة".
ويضيف "السحاتي": "أحب أن أكتب في هـدوء، لأن الإلهام، قائم على صفاء الذهن والتركيز والتأمل العميق، وقد يأتي في أوقات لا نحسب لها حساباً، ولا أستطيع أن أحدد وقتاً لحضور هذا الإلهام، وأحب أن أقيد سوانح هذه اللحظات بالكتابة؛ لأنني لو لم أفعل قد تضيع الفكرة، ويختفي رأس الخيط، ولهذا تتباين تجارب الكتاب والمبدعين مع الإلهام، ولكل منهم معه قصص وذكريات لا تنتهي".
"للشعر روحٌ تتلبس الشاعر ليقول ما يدهش"
فيما يؤكد الروائي اليمني الغربي عمران أن الأساطير اليمنية القديمة المتعلقة بوادي "عبقر" وعلاقته بالجن والشعر، لم يعد لها وجود الآن، لكن يبقى الإيمان بأن للشعر روح ممكن تأتي أو تتلبس الشاعر ليقول ما يدهش.
الروائي اليمني الغربي عمران
ويتابع عمران: "لا يوجد لدي ما أدعيه أنه يلهمني، عدى ما يمكن أن أترك لشخصياتي أن تكون هي، فمتى ما تلمست دوافعها لحياة الحرية، أراها تتصرف بصورة غير مقبولة اجتماعياً ودينياً، لكني أتقبلها كنماذج منفصلة عن قناعاتي، وبذلك هي من تلهمني أن أكتب سيراً حية تعيشها، سير كائنات حرة منطلقة، لا تخشى قمع الرقيب، بل تعيش نكاية به ما تحبه؛ فشخصياتي من تلهمني ما لا أخطط له من أحداث وعلاقات غير سوية وأمكنة غريبة".
وتقول الروائية المصرية وكاتبة أدب الطفل ياسمين مجدي: "أترك مسؤولية الكتابة لعقلي الباطن، ليس عليّ إلا أن أسمع نداء صوت متكرر يخبرني أنه بحاجة للخروج والتجسّد على الورق. إنه صوت من عالم غائب لا أعرف من يكون، لكنني استسلم لسلطانه.
ليس عليّ إلا أن أسمع نداء صوت متكرر يخبرني أنه بحاجة للخروج والتجسّد على الورق... الروائية المصرية وكاتبة أدب الطفل ياسمين مجدي عن أسرار الإبداع
عندما يثبت ولائي والتزامي وجلوسي للورق، يبدأ الصوت يخبرني سطراً وراء سطر، حتى تبين الشخصية التي راودتني. ونتشارك الأوقات والانفعالات لدرجة التوحد ككاتبة مع أبطال لأصبح صوتهم".
وتضيف ياسمين: "الأحلام هي أحد مصادري، إحدى رواياتي جاء لي بطلها في حلم، ولم أرغب في إفلاته أو أن يضيع مني، لذا سجّلته على ورقه فور استيقاظي.
أؤمن بالإلهام في الابداع، ربما بعض الأسرار تتكشف لنا مع الكتابة عندما نفتح قلوبنا ونطلق مجسات الاستقبال لدينا، لحظات رهيفة تمنحنا ما لا نعرفه أحياناً.
بعض الأشخاص قابلتهم منذ سنوات أو سمعت عنهم وظننت أنهم غابوا بعيداً، لكن في إحدى لحظات الكتابة كانوا يقفزوا إلى الورق كأني كنت أربيهم في ذاكرتي من أجل كتابتهم يوماً، منهم بنت لها عيون تضحك حتى أثناء البكاء، والتي كتبتها بعد سنوات طويلة".
الشعراء يستحضرون الجنّ والإنس
بينما يقول الناقد والأديب المصري منير عتيبة: "لست مع فكرة الإلهام بالمعنى الرومانسي الشائع، فالشعراء والأدباء ليسوا أنبياء، ولا يتصلون بقوى خارقة، ولكنهم موهوبون ويعملون على موهبتهم، فالعبقرية 1% موهبة و99% عمل وجهد مستمر، لكن مصادر الكتابة عديدة كالتفكير في الحياة حولنا، القراءة، المناقشة مع الآخرين، دقة الملاحظة، البحث في المصادر والمراجع، ويتم تخزين ما يمر بالكاتب في لا شعوره ويخرجه أثناء الكتابة".
الناقد والأديب المصري منير عتيبة
ويظن الكاتب أن ما كتبه لم يكن ما يريد كتابته منذ البداية، لكن الحقيقة أنه يكتب بوعيه ولا وعيه وما يفاجئ به هو المخزون في اللاوعي وليس الموحى به من قوى مفارقة".
الشعراء والأدباء ليسوا أنبياء، ولا يتصلون بقوى خارقة، ولكنهم موهوبون ويعملون على موهبتهم
وأخيراً تقول الشاعرة السودانية ابتهال تريتر، نائب مدير بيت الشعر بالخرطوم: "الإلهام عندي مرتبط بالعزلة، وقتما توفرت جرى الحبر في عروق القلم واختزن الكثير ويخرج بلا إرادة في أحايين كثيرة، والإلهام قد استشفه في شيء لا يخطر على قلب أحد".
وتضيف تريتر: "يعزز الإلهام اقتناص وجودي للمبدع والتفسير يفسده غالباً، لكنني مقتنعة تماما أن اللحظة التي كتب فيها سند:
ياصندل الليل المضاء
أفرد قميص الشوق حين تطل سيدة النساء
وتناثر الأحد الصبي يهز أعمدة الغناء
لو زندها احتمل الندى لكسوت زندك ما تشاء
ثوبا من العشب الطري وإبرتين من العبير وخيط ماء.
هذا إلهام مجنون...
"الغرائبيات... مستفزّة وركضنا خلف المعرفة يجعلنا نفتح شرفة على عالم الماوراء، ونعلق كل ما لا يعقل على أسواره"... عن الإبداع في عيون كاتبات وكتب عرب
الغرائبيات هذه مستفزّة وركضنا خلف المعرفة يجعلنا نفتح شرفة على عالم الماوراء، ونعلق كل ما لا يعقل على أسواره.
شخصياً أنا متصالحة مع الجن وكتبت:
ساقنا في حضرة لم نكتشفها/ رقصت في حلبة الشوف السراجا
أيقظتنا رقة ما في اتكاء/ بين سطرين يذوبان اختلاجا
ورشقنا الجن بالوجد وغبنا/ نحن إن شئت الحصى ثم الزجاجا
تسكن النايات أعلانا عروشاً/ في المجازات ونحياها هياجا
وامتلكنا الغيم لم نستبق باباً/ في فم الأرض ولم نغلق رتاجا
الشعراء يستحضرون الجن والإنس وأشياء أخرى وهذا مكمن إبداع واحد من أصل متعدد، ولا تحاولوا معنا في إيجاد إجابة لهذا السؤال. هذه متاهة. وصفتمونا كثيراً بالمجانين وحتى النبي وُصف بالشاعر المجنون حين نزل النص القرآني، لذا لن أمنحكم إجابة شافية. أنا عند ظنكم بي... استعيدها حين أكون وحدي والعزلة بيت أفكاري".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...