في منشور على حسابه على موقع فيسبوك، الذي يتابعه نحو 761 ألف شخص، اعتذر الناشط السياسي السابق وائل غنيم "بعد شهور من حساب النفس"، كما قال. وحصد اعتذاره آلاف الإعجابات والتعليقات الإيجابية في معظمها، وأعاد مئات مشاركته، في تظاهرة حب كبيرة تذكر بالتظاهرة التي قوبل بها في ميدان التحرير مساء السابع من شباط/ فبراير 2011 عقب الإفراج عنه، بعد اعتقال دام 12 يوماً... فعن ماذا اعتذر وائل عنيم؟ ولمَن؟
تضمّن اعتذار وائل غنيم ثماني نقاط يمكن اختصارها في ثلاثة موضوعات: الأول، "بخصوص كل ما قمت به من سوء تقدير وقلة قيمة لنفسي وإضرار بوعي كثير من شباب بلادي عبر تصرفاتي غير المسؤولة"، ويرتبط به اعتذاره عن "تكرار خروجي عن مشاعري واستسلامي لغضبي وجهري بمعصيتي وسوء تقديري لنفسي قبل غيري".
الموضوع الثاني هو احترام القيادة المصرية الحالية والإقرار بأنها تعلم أكثر منه: "أحياناً ينبغي للحياة أن تكسر عزيمتك حتى تدرك قيمة الصبر وتحترم القيادة وتراعي المصلحة فتكون من المصلحين"، "العدل أساس الملك، ومن العدل ألا أتصدر مشاهد الحوار في أمور لا ناقة لي فيها ولا جمل ولا علم لي بتفاصيل أمورها وموازين قوتها"، "فيه طريقة للمطالبة بالحقوق مع احترام المسؤوليات وفرق السن والخبرات. واللي بيحترم نفسه بيساعد غيره على احترامه وده طريق أفضل كتير من طريق تأجيج مشاعر الكراهية والغضب ضد مسؤولي البلد". والجملة الأخيرة تحديداً ترمي إلى ندمه على المشاركة في ثورة يناير، وهو كان قد قال ذلك صراحة في الكثير من فيديوهاته على مواقع التواصل الاجتماعي.
والموضوع الثالث أنه يعرض نفسه على القيادة -التي أقر لها بالعلم، وألزم نفسه باحترامها (لفارق السن!)- لكي تستفيد من خبراته: "لديَّ خبرة لا بأس بها في مجالات عملية هي تحت أمر بلدي". ولم ينسَ أن يتحدث عن كرامته التي "أهنتها في السابق بسوء صنيعي وقلة حيلتي"، وعن "الفقير اللي بيكدح عشان قوته".
عن ماذا يعتذر وائل غنيم؟
رسالة اعتذار وائل غنيم صيغت بعناية لكي ترضي جميع مَن يقرأونها، فهو رجل ذكي ويدرك أن اعتذاره للسلطة التي ساهم في الثورة عليها سيجعله يخسر شباب الثورة الذين صدّقوه وصفقوا له في يناير 2011، وهم ليسوا قليلين، وغالبيتهم يشعرون اليوم بالظلم من ممارسات النظام الحاكم ضدهم، وانقلابه على ثورتهم... لكنه إذا اعتذر للثوار سيخسر السلطة تماماً لأن خطابها المعلن ضد الثورة، لدرجة أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بنفسه قال إنها كتبت شهادة وفاة مصر، وإنها كشفت كتف مصر وعرَّت ظهرها، في حين يعرف مَن يتابع وائل غنيم في السنتين الأخيرتين أنه يجتهد ليجد لنفسه مكاناً ضمن تركيبة النظام الحالي.
لذلك جاءت صيغة الاعتذار ملتبسة بقصد "عن كل ما قمت به من سوء تقدير وقلة قيمة لنفسي/ وإضرار بوعي كثير من شباب بلادي"، فالجزء الأول موجه للثوار الذين كان يسوؤهم ما شاهدوه من تردٍّ لحالته عبر فيديوهاته التي ملأ بها حسابه على تويتر، حيث ظهر ونصفه الأعلى عارٍ بلا ملابس، نحيلاً وعظام صدره بارزة، حليق الرأس ويشرب الماريغوانا، وهي صورة سيئة لما آل إليه حال شباب الثورة الذين كنا نقول إنهم أطهر من في مصر. أما الجزء الثاني فاعتراف بأنه ضلل الشباب الذين خرجوا في يناير، وهو ما يرضي النظام!
ولا أظن أن هذا سينطلي على الشباب، لأن كل بنود الاعتذار بعد ذلك ليست سوى رسالة للنظام لكي يجدوا له مكاناً يبدأ منه رحلة جديدة بينهم.
مَن هو وائل غنيم؟
أثناء تواجدي يوميّاً في ميدان التحرير أيام الثورة (25 يناير- 11 فبراير 2011)، كنت أسمع اسم وائل غنيم، دون أن أعرف بالضبط مَن هو غير كونه كان "أدمِن" صفحة "كلنا خالد سعيد" التي دعت للتظاهرات. كثيرون غيري كانوا يريدون أن يعرفوه في طريقهم لفهم الوسيلة التي يُدار بها ميدان التحرير في تلك الأيام، والشخص –أو الأشخاص- الذي يطلق على الأيام أسماء فعاليات ويدعو الناس إليها، فيندفعون بعشرات الآلاف للمشاركة فيها، فمن الصعب أن يدار هذا الحدث الكبير، الذي سيغيّر شكل وتحالفات المنطقة كلها، بشكل عفوي عشوائي.
"وائل غنيم، شكلاً ومضموناً، كان الاختصار النموذجي الذي أراده المصريون لثورتهم: كانوا يريدونها ثورة شابية، وثورة متعلمين في مدارس أجنبية من الطبقة الوسطى، وثورة الإنترنت..."
الأخبار بدأت تتوارد عن اختطاف وائل غنيم واعتقاله، حتى أصبح الإفراج عنه مطلباً ضمن المطالب التي يرفعها الثوار في الميدان، وبالفعل فوجئ الجميع مساء يوم 7 شباط/ فبراير بالأمين العام الجديد للحزب الوطني الدكتور حسام بدراوي، وهو يدخل الميدان بصحبة وائل غنيم... بدراوي سعى للإفراج عنه ليهدئ الميدان ضمن تطمينات وتنازلات وتغييرات حاول النظام تقديمها لينجو، مثل الوعد بأن الرئيس الأسبق حسني مبارك لن يترشح مجدداً، وأن ابنه ليس مطروحاً للسلطة، وتغيير الوزارة، والوعد بتعديل بعض بنود الدستور، وتغيير الأمين العام للحزب الحاكم، وتعيين نائب لرئيس الجمهورية.
من الميدان، توجّه وائل غنيم مباشرة إلى قناة دريم للظهور مع الإعلامية منى الشاذلي في برنامج العاشرة مساءً، ومن هذه اللحظة تحول إلى بطل.
الثائر النموذجي!
وقتها، كانت الدفة تميل في الشارع المصري لمصلحة حسني مبارك بعد خطاب عاطفي، فقد بدأ كثيرون يناقشون مسألة إمهاله عدة أشهر حتى يكمل دورته، ما دام قد تعهد بعدم ترشيح نفسه لدورة سادسة، لكن "أداء" وائل غنيم في البرنامج أعاد الشارع ظهيراً للثورة، فقد بكى بحرقة عند ذكر "الشهداء"، واعتذر لأمهاتهم قائلاً: "أريد أن أقول لكل أم ولكل أب فقد ابنه، أنا آسف، لكن هذه ليست غلطتنا، والله العظيم ليست غلطتنا، هذه غلطة كل مَن كان متمسكاً بالسلطة ومتشبثاً بها... عايز أمشي"، ثم انسحب من البرنامج.
وقتها كان شابّاً في الثلاثين من عمره، وسيماً، حصل على بكالوريوس هندسة الحاسبات من هندسة القاهرة عام 2004، وماجستير إدارة الأعمال بامتياز من الجامعة الأمريكية في القاهرة، عام 2007. وعمل في مجموعة شركات في مجال الإنترنت والمعلومات، حتى اختير عام 2010 مديراً إقليميّاً في شركة غوغل، لتسويق منتجاتها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأشرف على تعريب وتطوير منتجات الشركة، وانتقل للعيش في دبي ليعمل في فرعها الرئيسي هناك.
وائل غنيم، شكلاً ومضموناً، كان الاختصار النموذجي الذي أراده المصريون لثورتهم: كانوا يريدونها ثورة شابية، وهو في الثلاثين، وثورة متعلمين في مدارس أجنبية من الطبقة الوسطى، وهو خريج هندسة وحاصل على ماجستير من الجامعة الأمريكية، وثورة الإنترنت، وهو المدير الإقليمي لغوغل. لذلك، قام مئات الآلاف بمتابعة حسابه على فيسبوك ليلة ظهوره، والتحق حوالي 200 ألف بصفحة جديدة بعنوان "أفوّض وائل غنيم للتحدث باسم ثوار مصر".
تبدّلات وائل غنيم
يوم جمعة النصر، في 18 شباط/ فبراير 2011، صليتُ الجمعة بجوار قائم المنصة من ناحية ناصية شارع محمد محمود. يومها كان شباب جماعة الإخوان المسلمين يرتدون زيّاً موحَّداً مكتوباً عليه اسم أحد التكوينات الكثيرة التي ظهرت وقتها وتنتهي أسماؤها بـ"الثورة"، ويتحكمون بالداخل والخارج، ويبسطون سيطرتهم... وخطب يوسف القرضاوي الجمعة من فوق المنصة، وهو أحد أهم قيادات التنظيم الدولي، وجاء وقتها من قطر خصيصاً لهذا الأمر، وبعد الانتهاء من الصلاة صعد شبابهم إلى المنصة ورددوا هتافات دينية، في مشهدية واضحة على أن الجماعة ركبت الثورة بالقوة.
"غاب وائل غنيم عدة سنوات، عمل خلالها في عدة مواقع بعيدة عن السياسة، لكنه ظهر منذ عامين ونصف العام تقريباً بـ‘كاراكتر’ الشبح، في الفترة نفسها التي ظهرت فيديوهات المقاول محمد علي"
وقتها، رأيت وائل غنيم وهو يحاول أن يصعد المنصة وهم يمنعونه، لأنهم يعرفون أن صعوده سيحول الدفة لصالحه. هذا المشهد وما تلاه من صعود للجماعة عبر استفتاء 19 آذار/ مارس 2011 على تعديل دستور 1971، ثم الانتخابات النيابية: مجلسي الشعب والشيوخ في تشرين الثاني/ نوفمبر، ثم الانتخابات الرئاسية في أيار/ مايو – حزيران/ يونيو 2012 التي فاز فيها محمد مرسي... أبعدت وائل غنيم عن الصورة، لأن الذين منعوه من صعود المنصة في جمعة النصر، هم الذين استلموا البلد.
غاب وائل غنيم عدة سنوات، عمل خلالها في عدة مواقع بعيدة عن السياسة، لكنه ظهر منذ عامين ونصف العام تقريباً بـ"الكاراكتر" الذي أشرت إليه، "كاراكتر" الشبح، في الفترة نفسها التي ظهرت فيديوهات المقاول محمد علي، والتي أشار فيها إلى وقائع فساد في الهيئة الهندسية للقوات المسلحة التي تتولى معظم الأعمال الإنشائية في مصر بعد انتخاب الرئيس السيسي عام 2014، وطالب فيها المصريين بالغضب والنزول إلى الشارع للتظاهر، في محاولة لتكرار سيناريو يناير/ فبراير 2011، وهو ما وجد استجابة في البداية، قبل أن يلتقطه إخوان الخارج ويوجهوه لمصالحهم، وهو ما أدى إلى انصراف الناس عنه.
ظهور وائل غنيم بهذا الشكل مثَّل "طلقة الرحمة" التي صُوِّبت نحو صورة "شاب الثورة النموذجي" الذي تحول إلى "أراغوز" يتنطط ويشتم بألفاظ بذيئة، ويتجاوز كل الخطوط الأخلاقية، ليقضي على ما تبقى من احترام للثوار لدى بعض الناس... لكنه، في الوقت نفسه، كان "البهلوان البذيء"، الذي يشتم محمد علي بألفاظ قذرة، ردّاً على تجاوزه اللفظي في حق الرئيس السيسي.
هل كان ظهور وائل غنيم بهذا الشكل وفي ذاك التوقيت متفقاً عليه؟ لا أظن ذلك، فمتابعة فيديوهاته تقول إنه رجل ذكي بالفعل، يعرف متى وأين وكيف يظهر، بدليل أن حساباته على فيسبوك وتويتر يتابعها الملايين، وفيديوهاته على قناته على موقع يوتيوب تجني مئات آلاف المشاهدات، بالإضافة إلى أنه كان يتحدث إلى ضباط الأمن الوطني –من منزله في أمريكا- وهو يعرف أنهم يتابعونه، ويطلب منهم الاتصال به.
وقتها أيضاً، كان قد انفصل عن زوجته الأمريكية، أم ولديه، وتعرض أخوه لمضايقات أمنية، أظنها زالت سريعاً، وهو ما يعزز فكرتي عن "الأداء" الذي يبرع وائل غنيم فيه، "أداؤه" مع منى الشاذلي مساء 7 فبراير في العاشرة مساءً، و"أداؤه" مع مديرته في شركة غوغل التي حكى عنها في بعض فيديوهاته، و"أداؤه" شخصية "الثائر الأراغوز" المدمن البذيء في النصف الثاني من عام 2019، ثم رجوعه الآن إلى شكله الأليف المحبوب الذي يناسب رجلاً أربعينيّاً، بشعره الطويل المصفف، ووزنه الذي كان عليه قبل عشر سنوات، ولغته الهادئة المهذبة.
خطابات وائل غنيم في الفترة الأخيرة فيها الكثير من الندم لأن كثيرين استفادوا من يناير إلا هو، رغم أنه مَن فجَّر الحدث، فالإخوان صعدوا إلى السلطة للمرة الأولى في تاريخهم، والحزبيون القدامى ترشحوا للرئاسة وكوَّنوا أحزاباً وشارك بعضهم في مشهد 3 يوليو، وتقلدوا مناصب مهمة وحصلوا على عضوية البرلمان بالانتخاب والتعيين، ورجال الحزب الوطني القديم عادوا مرة أخرى تحت لافتة "مستقبل وطن"، ورجال المال استلموا مشروعات من الباطن تدرُّ ربحاً معقولاً، حتى بعض الثوريين أصبحوا صحافيين ومقدمي برامج "توك شو"... بينما طلع هو "من المولد بلا حمص" كما نقول في مصر.
والآن، هل وصلت رسالة اعتذار وائل غنيم إلى "المرسل إليه" كما أرادها؟ بالتأكيد وصلت، فالرجل ليس عاديّاً في مصر، لكن هل فهموها؟ وهل هم مستعدون للتجاوب معها؟ هذا ما ستكشف عنه الأحداث في الأيام والشهور القادمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون