أظن أنه لم تغب عن الذين تابعوا لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع بعض الإعلاميين، على هامش الاحتفال ببدء موسم حصاد القمح في توشكى، يوم 21 نيسان/ أبريل، ثم خطابه في إفطار العائلة المصرية يوم 26 أبريل، ملاحظة مسألة مهمة هي تغيّر لهجة خطابه وما يرافقها من انفعالات وتعابير الوجه والجسد. ففي حين كان يبدو منفعلاً وصارماً في لقاءاته السابقة التي يتحدث فيها إلى ضيوف يتم انتقاؤهم بعناية، وهو يوليهم ظهره، مصدِّراً عبارات قوية بانفعال واضح، نراه في اللقاءين المذكورين يبدو هادئاً ودوداً مبتسماً ومجاملاً.
لم يكن وجود المرشح الرئاسي السابق والمعارض الناصري المعروف حمدين صباحي هو الشيء الوحيد اللافت في إفطار العائلة المصرية، لكن اللافت أكثر أن الرئيس السيسي اختصه بإشارة واضحة من فوق المنصة حين قال: "أرى أن الأستاذ حمدين صباحي موجود"، ثم توجه إليه من المنصة مباشرة، وسلّم عليه بحرارة وتحدث معه لبعض الوقت، مع ملاحظة أن صباحي كان قد شن حملة كبيرة ضد الرئيس السيسي في وقت سابق على خلفية ما رآه فشلاً في إدارة الدولة، وتضييقاً على الحريات.
ثم سلم السيسي أيضاً، وبنفس درجة الود، وتحدث مع الصحافي ورئيس حزب الدستور السابق خالد داود الذي أُفرج عنه في رمضان الماضي، بعد أن اعتُقل في 20 أيلول/ سبتمبر 2019 عقب الاحتجاجات التي دعا إليها المقاول محمد علي، وقضى قرابة العامين محبوساً على ذمة القضية 488 لسنة 2019 أمن دولة، مع ناشطين مشهورين منهم: القائد العمالي كمال خليل والمحامية ماهينور المصري، والناشطة إسراء عبد الفتاح، والصحافية سولافة مجدي وزوجها حسام الصياد، وغيرهم.
الثابت والمتحول
إذا كان شكل أداء السيسي ولهجته قد تغيَّرا بين ليلة وضحاها، وإذا تابعنا الترحيب بدعوته من تكوينات حزبية غير فاعلة ولا تملك وجوداً محسوساً في الشارع المصري، لدرجة أن متابعي الشأن العام لا يعرفون أسماءها، فإن ثمة ثوابت لم يغيّرها الرئيس في خطابه ولم يتراجع عنها، برغم أن الواقع يشي بعكس ما يقول، وأهمها:
أولاً: يعتبر السيسي أن ثورة كانون الثاني/ يناير 2011 هي سبب الانهيار الاقتصادي والسياسي الذي تعيشه مصر من وقتها وحتى الآن، فقد سبق أن حمَّلها مسؤولية بناء سد النهضة والإخفاق في التوصل إلى اتفاق معقول مع إثيوبيا بشأن مدة الملء، كما حمَّلها مسؤولية تآكل الاحتياطي الدولاري، وقال إن مصر فقدت حوالي 37 مليار دولار في العامين الذين أعقباها، وهو ما نعاني من تبعاته حتى الآن... وقال إنه في المدة من 25 يناير حتى 8 شباط/ فبراير 2011 خسرت مصر أراضي زراعية واسعة تم البناء عليها دون ترخيص باستغلال للفراغ الأمني.
الرئيس نفسه يقدّم دلائل على عدم صحة طرحه ضمن خطابه المتناقض، حين يقول إن دعم الدول العربية كان كبيراً ووصل إلى عشرات المليارات من الدولارات عامي 2013 و2014، وهو من المفترض أن يعوِّض ما فُقد من الاحتياطي. كما يقول إن البنية التحتية التي استلمها كانت منهارة أصلاً، وإن انكشافها كان مسألة وقت فقط مع ما في ذلك من اعتراف بفشل نظام حسني مبارك وتبرير للثورة ضده. ثم إن تعطيل انتخاب رئيس لمدة عامين، كما ذكر، كان نتيجة المسلك الذي فضَّل المجلس العسكري السير فيه ضد الإرادة الشعبية وقتها، وكان الرئيس السيسي عضواً في هذا المجلس. وأخيراً، فإن توجيه القوة الأمنية كلها إلى ميدان التحرير أثناء الأحداث، رغم أن مساحته حوالي 45 ألف متر مربع، وترك الدولة كلها خارج الرقابة هو ما أدى إلى ذلك، في حين كانت الحكمة تقتضي محاورة الثوار دون عنف، وتشديد الرقابة على الدولة لضمان عدم الانفلات.
"لم يكن وجود المرشح الرئاسي السابق والمعارض الناصري المعروف حمدين صباحي هو الشيء الوحيد اللافت في إفطار العائلة المصرية، لكن اللافت أكثر أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اختصه بإشارة واضحة حين قال: ‘أرى أن الأستاذ حمدين صباحي موجود’"
ثانياً: يعتبر السيسي أنه مستدعى لحكم مصر وليس مجرد رئيس، بالرغم من أنه اجتاز استحقاقين انتخابيين عامي 2014 و2018، ووضع دستوراً عام 2014، وعدَّله عام 2019 بما يسمح له بالبقاء في السلطة ثماني سنوات إضافية عن الاستحقاق الدستوري الذي وافق عليه الشعب. وعلى الرغم من الأحداث التي رافقت انتخابات 2018، والتي تراجع فيها الفريق أحمد شفيق عن إعلان الترشح، بعد أحداث معروفة، وسُجن الفريق أول سامي عنان رئيس الأركان السابق قبل الإفراج عنه في كانون الأول/ ديسمبر 2019، وفي أثره المستشار هشام جنينة والدكتور حازم حسني، وسجن أحمد قنصوة، الضابط الذي أعلن ترشحه للرئاسة، وأخيراً ترشح شخص مجهول في اللحظات الأخيرة قبل انتهاء مدة الترشح، وسط شكوك في مساعدته في الحصول على التوقيعات التي يقررها قانون الانتخاب.
ثالثاً: يؤكد السيسي أنه ونظامه نجحا بدرجة كبيرة في قيادة هذه المرحلة وحققا ما لم يكن ممكناً تحقيقه من قبل أي نظام آخر، لدرجة أنه شكك –علناً في خطابه- في قدرة الفريق أحمد شفيق على اجتياز التحديات. وقال إنه واجه مشكلة وباء كورونا وآثار الحرب الروسية الأوكرانية على الرغم من أنه لم يتسبب بهما.
الرئيس نفسه يقول في خطابه إن المعاناة لا تزال مستمرة، وهي مرشحة للزيادة، لكنه يُرجعها إلى الزيادة المطردة للسكان، ويقارن عدد السكان في 2011 (80 مليوناً) بالعدد الآن (104 ملايين)، متجاهلاً أن كل الرؤساء السابقين واجهوا زيادة السكان بالمعدل نفسه. فقد تضاعف عدد السكان تقريباً في فترة حكم حسني مبارك من 42.2 مليون نسمة في عام 1980 إلى 76.8 مليوناً عام 2010، في حين زاد السكان في عهد السيسي من 84 مليوناً عام 2013 إلى 103 ملايين في 2021، أي بنفس المعدل تقريباً... غير أن "النجاح" الاقتصادي يعني وضع عامل الزيادة السكانية في الاعتبار.
رابعاً: شدد الرئيس المصري على أنه يذكر منذ 2013، قبل أن يتولى السلطة رسميّاً في 2014، أن الدولة المصرية شبه منهارة، وتحتاج إلى الكثير من الجهد والصبر، وأن على المواطنين أن يتحملوا جزءاً من فاتورة الإصلاح، وهذا حق، لكنه أغفل أنه هو نفسه حدد أكثر من موعد، وطلب أكثر من مهلة لحدوث الانفراجة، قبل وباء كورونا وتداعياته، لكن لم يحدث شيء سوى مزيد من التراجع الاقتصادي والأعباء التي يتحملها المواطنون الفقراء من زيادة الضرائب وغلاء أسعار.
زيادة الدين العام خمسة أضعاف
"النجاح" في إدارة الملف الاقتصادي من وجهة نظر السيسي، والذي يتفاخر بتحقيقه وينفي قدرة أي رئيس آخر على تحقيق إنجاز مماثل، يتمثل في التركيز على البنية التحتية (وصفها بأنها كانت شديدة التواضع قبله)، من حيث استدامة توفير الكهرباء والمياه، ومد شبكة الغاز الطبيعي والصرف الصحي قدر الإمكان (قال إنه لا يمكن تغطية مصر كلها)، بالإضافة إلى زيادة حجم تخزين المواد الأساسية إلى ستة أشهر بما يستلزمه ذلك من توفير مخصصات مالية... وأخيراً القضاء الكامل على بؤر الإرهاب وتمركز جماعات العنف الديني في سيناء بنفقات وصلت إلى 84 مليار جنيه (حوالي 4.5 مليارات دولار)، إضافة إلى استشهاد 3277 فرداً من الجيش والشرطة خلال المواجهة من 2013 وحتى الآن، وإصابة 12 ألف و280 فرداً تعذّرت عودتهم للخدمة بعد العلاج.
"هل من الممكن أن نصدّق دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى ‘حوار سياسي’ في الوقت الذي يقبع فيه آلاف المصريين في السجون خارج القانون، غالبيتهم العظمى لم يمارسوا العنف ولم يدعوا إليه، إنما فقط عبروا عن رأيهم؟"
"النجاح" من وجهة نظر الرئيس أيضاً أن مصر الآن -بين عدد قليل من الدول- تحقق معدل نمو إيجابي في ظل وباء كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، فقد كان معدل النمو قبلهما يصل إلى 9%، وقد انخفض إلى 3.3% الآن، رغم أن معدلات النمو في اقتصاديات دول كبرى انخفضت إلى تحت الصفر.
مؤشرات لا يجب إغفالها
هذا الكلام –لو صح- يغفل عدة مؤشرات مهمة جدّاً لا يجب إغفالها، منها:
أولاً: قدّمت الدول المتقدمة في أمريكا وأوروبا وفي مناطق أخرى في العالم إعانات بطالة كبيرة ومؤثرة لمواطنيها ولمدد طويلة، مما كلَّف خزاناتها مبالغ طائلة المفروض أنها تكون ضمن خطط طويلة الأجل لمواجهة الكوارث المحتملة من أوبئة وفيضانات وحروب، إلخ، في حين قدمت مصر مبالغ زهيدة جدّاً لفئات محدودة وبشروط صعبة، وبالتالي فإن الدول الكبرى هي التي تحملت خسائر الكوارث، بينما في مصر تحملها المواطنون الذين تعيش نسبة عالية منهم تحت خط الفقر أساساً.
ثانياً: تفادى الرئيس تماماً الحديث عن حجم الدين العام في مصر، الذي بلغ بشقيه الداخلي والخارجي 5.5 تريليونات جنيه مصري حسبما أظهر الحساب الختامي لموازنة العام 2020-2021 (حوالي 300 مليار دولار)، منها 145 ملياراً و529 مليون دولار ديناً خارجيّاً، بينما كان حجمه 34.9 مليارات دولار فقط في العام 2011، بمعدل زيادة 420%. واستهلك سداد فوائد وأقساط هذه الديون 51.4% من الموازنة الأخيرة. وفي لقاء تلفزيوني معه، ذكر وزير المالية المصري أن مصر تضطر لطلب ديون جديدة لسداد فوائد الديوان القديمة.
هذا الرقم الضخم لديون مصر الذي يمثل عبئاً على التطور الاقتصادي جعل مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا تعلن في 22 نيسان/ أبريل الحالي، أن أوضاع الاقتصاد المصري في تدهور، واعتبرت أن مصر بحاجة إلى الاستقرار ماليّاً ومواصلة الإصلاحات مع البرنامج التابع لصندوق النقد الذي يحمي الفئات الضعيفة.
وفي السياق ذاته، وفي إطار محادثات الربيع للصندوق والبنك الدوليين، قال المستشار المالي ومدير إدارة أسواق النقد ورأس المال في الصندوق توبياس أدريان إن مصر تستورد المواد الغذائية، وخاصة القمح، وتحديداً من أوكرانيا وروسيا. وهذا تطور سلبي بالنسبة إلى مصر التي تواجه ضغوطاً تضخمية وضغوطاً على تدفقات رأس المال.
لماذا "الحوار السياسي" الآن؟
السؤال الآن: هل لهذا الوضع الاقتصادي دخل في دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال لقائه مع إعلاميين مصريين وفي إفطار العائلة المصرية، لإجراء ما أسماه "حواراً سياسيّاً"؟ هل أدرك أن القادم صعب ومن الممكن أن تكون له ردود فعل محلية كبيرة قد تصل إلى الغضب الشعبي، وأراد أن يحتوي القوى التي من الممكن أن تساعد في تأجيج الغضب؟ أم أنه –كما ألمح- انتهى من ملف محاربة الإرهاب وقرر الالتفات إلى المصالحة الوطنية وتوسيع قاعدة المشاركة؟ ولماذا لم يعلن خلو سيناء من البؤر الإرهابية إلا الآن وسط هذه الأزمة الاقتصادية وتداعياتها المحتملة؟ ومَن الذي من المفترض أن يشارك في هذا الحوار؟ وإلام يهدف؟ وهل من الممكن أن نصدق دعوة الرئيس في الوقت الذي يقبع فيه آلاف المصريين في السجون خارج القانون، غالبيتهم العظمى لم يمارسوا العنف ولم يدعوا إليه، إنما فقط عبروا عن رأيهم؟ وماذا عن القبض على "ظرفاء الغلابة" والموت المفاجئ –بعد فترة غياب- للخبير الاقتصادي أيمن هدهود؟ هذا ما سأتناوله في مقال قادم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين