عندما هرعنا في أيام الحرب الأولى إلى الحدود الأوكرانية، لم نُعر اهتماماً إلى أي تفصيل أو قضية تأتي في المرتبة الثانية بعد مهمة إجلاء الفارين من الحرب وتأمينهم إلى أقرب نقطة أمان، فلا صوت يعلو على صرخة منكوب يستغيث حاملاً على ظهره حقيبةً وطفلاً وألف مشهد دمٍ وحرب.
الأسبوع الماضي توجهتُ إلى الحدود المجرية – الأوكرانية برفقة فريقٍ تطوّعي، وبخلاف المرات الماضية، كان الهدوءُ على الحدود فرصة للوقوف على كل شوائب حكاية اللجوء الأوكراني، وخلوةً مع عناوين ومشاهد العنصرية التي انهالت علينا في أسابيع الحرب الأولى. كلها استحضرَتها ذاكرتي، وكأن المعبر الحدودي كتب فوقه يافطة تقول: انتبه، هنا اختبر العالم الفرقَ بين عيونٍ ملونةٍ وأخرى داكنة.
قضينا حوالى ساعتين على الحدود بلا عمل، فأعداد المتطوعين كبيرة وحركةُ النزوح تشبه الحركة على بوابة القادمين في مطار دمشق الدولي عام 2015، يعبرها 10 أشخاص كلَ ساعة، نصفهم من كوادر المطار، لكن اللافت أكثر هو الحالة الإغاثية المتمثلة بهذا الكم الهائل من المساعدات والفرق التطوعية في مقابل وجود حوالى ثلاث عائلات فقط في الـ "كامب" على الحدود.
لاجئ نجمة واحدة
الانطباع الأول عن هذه الـ "فزعة" كان إيجابياً ومثيراً للإعجاب، لكن عدم وجود من ينجده جيش المغيثين هذا، حوّل حالة الانبهار إلى حسرة تشبه غصّة عطشان يرى شخصاً يهدر المياه، لذلك كانت تلك المشاهد كفيلةً بإثارة مشاعري كسوري يرى ما يجري لأقرانه على حدود أوطان بذلوا المال والدماء كي يصلوا إليها مستنجدين.التضامنُ مع الهاربين من ويلات الحرب أمرٌ مقدّس، ونحن –أبناء النكبة السورية- ندرك مرارة النزوح ونتعاطف مع مشردي الحروب أكثر من سوانا، لكن ذاكرتنا مثقلة بألف قصة معاناة على الحدود البيلاروسية، وعشرات الصور الدامية على شواطئ اليونان وتركيا.
أسير أنا ومتطوع من أصول نيجيرية، نتقاسم كآبة المراتب الأخيرة حسب التصنيف السياحي للملهوف، والذي خضع لمعيار الجنسية، ويحدثني عن نيجيري وصل قبل حوالى أسبوع إلى الحدود وطلب منهُ مساعدته في الإجراءات: "لقد شعر بأن جودة الإغاثة التي قدمت له تقل عن تلك التي تقدم للأوكرانيين بعد أن أجبره حرس الحدود على الانتظار ليوم كامل بغرض إعطاء الأولوية للأوكرانيين، وكلما وصل البوابة يطلبون منه العودة إلى نهاية الطابور، بحجة عدم وصول مندوب سفارته لتسجيل بياناته".
وأضاف: "كان يعلم أن هذه الحجج غير منطقية، فلا داعي لوجود مندوب السفارة على الحدود، والكثير من القادمين لم تكن لدى بلادهم سفارات في هنغاريا".
مواثيق حقوق الإنسان لا تشمل الجميع
يافطات الأمم المتحدة في كل مكان، وشعارات مكاتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابعة لها سوّرت الشريط الحدودي، وعلى إحدى سياراتها كُتبت كلمة Respect وتحتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ذلك الإعلان الذي جاء في مادته الأولى والثانية ما يلي: "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. ولكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي أو المولد. ولا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص”.تصل بعد لحظات سيارة تابعة للأمم المتحدة ويترجل منها شخص يبدو وكأنه مشرف أو مدير، ثم يتوجه نحوه جميع منسقي الفرق التابعة للمنظمة الدولية، وهنا يهمس صديقي النيجيري في أذني: "أترى ذلك الرجل؟ هو مندوب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة. في المرة الماضية ألقى خطاباً علينا وصدّع رؤوسنا في تقديم المساعدة للمحتاجين بشكل سريع ومن دون تمييز، وفي نفس اليوم حصلت حادثة الشاب النيجيري".
أن تأكل عشب الطريق يختلف عن كونك نباتياً
على جانبي الطريق تراصفت سيارات المنظمات والجمعيات الإغاثية التي تقدم الطعام والشراب للواصلين، إحداها كتب عليها عبارة VEGAN، ظننت بداية أن للكلمة معنى آخر غير "نباتي"، لكن تبين أنه المقصود، والسيارة تنتظر لاجئاً أوكرانياً من فئة النباتيين لتقدم له الطعام دون أن تؤرق نظامه الصحي بأي غذاء حيواني.أمعن النظر في السيارة، لتأخذني الذاكرة إلى مشهد صديق سوري قضى يومين على الحدود الصربية وهو نباتي، لكنه كان نباتياً بالمعنى الحرفي للكلمة، لقد أكل النباتات وأعشاب الشجر عندما كان فاراً من خفر الحدود الصربي، الذي كان سيعيده إلى اليونان بدلاً من أن يسمح له بالعبور إلى بلد أوروبي يمنحه حق اللجوء.
أمعن النظر في سيارة ال Vegan، لتأخذني الذاكرة إلى مشهد صديق سوري قضى يومين على الحدود الصربية، لكنه كان نباتياً بالمعنى الحرفي للكلمة، لقد أكل النباتات وأعشاب الشجر عندما كان فاراً من خفر الحدود الصربي.
تسألني صديقة مجرية: لماذا تمعن النظر هكذا بهذه السيارة "ذات النباتيين"؟
أجيبها كناظر بعين واحدة، عين الممتن لهذه الجمعية التي فكرت بفئة قليلة من الناس وقررت أن تلبي راحة صحتهم الغذائية. فوضعت نظرة العين الثانية المشبعة بدموع المفارقة جانباً، وعبرت لها عن إعجابي بسيارة الـ VEGAN، لأنني تيقنت أن البوح بحسرتي لن يجدي نفعاً، لن تفهمه، وربما ستعتبرني جاحداً.
بعيداً عن ازدواجية معيار الإغاثة والحسرة السورية، كان لتكثيف المساعدات على المعابر الحدودية بشكل يفوق الحاجة دور سلبي، فحسب شهادات من المتطوعين على الحدود حصل عليها رصيف22، تم تسجيل حالات استجرار غير مشروع للمساعدات عبر رصد أشخاص يأتون أسبوعياً إلى الحدود ويعبرون بعد أن يحصلوا على المساعدات، ثم يعودون بعد أيام إلى الداخل الأوكراني، وبعض هؤلاء رصدهم المتطوعون على أكثر من معبر حدودي".
أصحاب تجربة
التعاطفُ مع الهاربين من ويلات الحرب أمرٌ مقدّس، يستمدُ قُدسيته من إنسانيتنا، ونحن –أبناء النكبة السورية- ندرك مرارة النزوح ونتعاطف مع مشردي الحروب أكثر من سوانا، لكن تصنيفنا عالماً ثالثاً حتى في لحظات النجدة والعون، لا يقبله قانون ولا منطق، ولا ذاكرتنا المثقلة بألف قصة معاناة على الحدود البيلاروسية، وعشرات الصور الدامية على شواطئ اليونان وتركيا. كما لا يمكن لتلك الذاكرة أن تمحو مشاهد فرق ومنظمات، كثيراً ما مدّت ذراعها لغريق دون أن تنتظره ليطفو على السطح وترى لون بشرته أو لون عينيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com