شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أما أنا فللأسف يمكنني أن أتصوّر ما يمر به الأوكرانيون اليوم

أما أنا فللأسف يمكنني أن أتصوّر ما يمر به الأوكرانيون اليوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 1 مارس 202202:07 م


هذه شهادتي السرية...

البحرين

في العام 2011، وفي خضم ثورات الربيع العربي، كانت انتفاضة البحرين في أوجها. تحديداً في يوم 14 شباط/ فبراير، وكنتُ أسكن حينها في مدينة الخُبر السعودية التي تتصل بالبحرين عن طريق جسر يصل ضفتَي المدينتين المطلتين على الخليج العربي. صمَمَت زها حديد هذا الجسر ليبدو على شكل موجة تصل بين عالمين مُتخالفين في كل شيء، ومتشابهين أيضاً.

عند الحدود السعودية البحرينية، كانت تنزل النساء من السيارات ويتبادلن الجلوس خلف مقعد قيادة السيارة مع شركائهن، فالقيادة لم تكن مسموحةً للنساء في السعودية في ذلك الوقت بعد، وكان الوصول إلى الحدود، يعني مباشرةً خلع العباءة السوداء والقفز إلى مقعد قيادة السيارة، وأشياء كثيرة أخرى، تشبه إلى حد ما الخروج من غرفة ضيقة إلى مرج واسع، وتسمح لبعض القيود بأن تنكسر بعيداً عن السلطات والقوانين والأعراف والضغوط التي لا تنتهي.

رأيت السلاح الحي للمرة الأولى في البحرين، ومن ثم رأيته لاحقاً في دمشق مراراً وتكراراً.

كانت رحلة البحرين الأسبوعية بالنسبة إلي، على الرغم من صعوبتها بسبب ازدحام الحدود الهائل، أمراً في غاية الأهمية، وكأنني كنت أقول في كل مرة أن بإمكاني الخروج من هنا، وبإمكاني أن أبدو بالشكل الذي أريده.

بعد شهر من اندلاع احتجاجات البحرين، لم أكن أصدق أن هذا يحصل بالفعل. تعودتُ بعد ذلك أن أصدق أن الشعوب تقوم بثوراتها، ولو بعد سبات طويل، وأن الحكومات الديكتاتورية تقوم أولاً بقتل الثائرين، ومن ثم تلجأ إلى حلول تفاوضية وتصالحية في بركة الدماء المتسربة تحت أقدامها.

في الرحلة الأولى لي إلى المدينة بعد انتفاضتها، لم أعرف الطريق جيداً كما حفظته من قبل. اختفى دوار اللؤلؤة بالفعل. تغيّرت ملامح العاصمة، ولم تعد ساحتها الكبرى موجودةً. كان ذلك أحد الحلول الغريبة التي أربكتني، فإلغاء ساحة وتدميرها وتبديل خريطة المدينة من أجل وقف الاحتجاجات، كان حلاً عميقاً، يشبه ما فعلته بقية الحكومات العربية لاحقاً، من إلغاء المدن التي تثور على حكامها، وإلغاء الساحات، وتبديل سكان المناطق، وإخفائهم وقتلهم، ونقلهم من مكان إلى آخر، وإنشاء مدن جديدة على أنقاض القديمة التي اتسعت لأحلام المتظاهرين، وطرد الشعب من أرضه، ومسح خريطة العالم من أجل مقعد.

كانت الدبابات المدرعة التي قَدِمت من الجانب السعودي تقف على أطراف الطريق، وبدت المدينة حزينةً. أما الخليج العربي فكان هادئاً سطحه، وهائجاً عمقه. لم تكن البحرين المدينة التي عرفتها من قبل. خفتت أصوات الانتفاضة. ولم تتحقق مطالب الشعب.

بعد ثلاثة أشهر تقريباً، وفي رحلة مشابهة إلى البحرين، قضيت نحو تسع ساعات في زحام السيارات داخل المدينة. كنت متجهةً إلى مطار البحرين للسفر، ولم أتمكن من الوصول إلى طائرتي في الوقت المحدد. فوّتتُ رحلتي، لكنني عرفت في ذلك اليوم أنني كنت في عمق تظاهرة صامتة، إذ خطط المحتجون للتوجه إلى الشوارع بسياراتهم بصمت، لخنق الحركة، ولمنع تسيير الاحتياجات اليومية. كانوا يحتجون بصمت ومن دون أي إشارة. وأدركت حينها أنه لا يمكن خنق احتجاجات الشعوب. سيكون هناك دوماً طريق، ولو كان مؤجلاً.

رأيت السلاح الحي للمرة الأولى في البحرين، ومن ثم رأيته لاحقاً في دمشق مراراً وتكراراً.

في زيارات متعاقبة إلى دمشق، شهدت القصف والقذائف وتوقفت على الحواجز، وودعت أصدقاء هاربين، وآخرين مخفيين إلى الأبد، وانتظرت صديقات وأصدقاء معتقلات ومعتقلين معظمهم لم يفرَج عنهم حتى اليوم

دمشق

سمعتُ من منزلي في الخبر السعودية، عن أول مظاهرة سِلمية في دمشق في منطقة الحريقة في الشهر نفسه الذي بدأت فيه احتجاجات البحرين، في شباط/ فبراير 2011، وجاءت عفويةً وغاضبةً صدح فيها المتظاهرون: "الشعب السوري ما بينذل". لم يكن مخططاً لها أو لم تكن مدروسةً بأي شكل، لكن الجميع في ذلك الوقت كانوا يمتلئون غضباً وأملاً في آنٍ معاً. كان المصريون عندها يحشدون لجمعة الإطاحة بمبارك، عندما اعتدى شرطي سوري بالشتم على أحد الأشخاص في سيارته في الحريقة. لم يكن ذلك أمراً غريباً، فشرطة المرور في دمشق معروفة بقذارتها. كانت تعيش من رشاوى سائقي السيارات، وكانت تكتب المخالفات عمداً وزوراً، وكانت لها سلطة ما، لكنها أيضاً تقع في نهاية السلسلة الأمنية في النظام السوري فوق المواطنين، وهي بطبيعة الحال طبقة من منتهكي حقوق السوريين اليومية. اتصلتُ بأمي في دمشق حينها، وبلغة مشفرة كالعادة قلتُ لها: " لقد حدث ذلك فعلاً. لم أكن لأصدق لو لم أرَ الفيديو. أريد أن آتي إلى دمشق الآن!".

في شهر آب/ أغسطس من ذلك العام، وعلى وقع المظاهرات في حمص وحماه ومعظم المحافظات السورية، كنتُ أزور عائلتي في دمشق خلال شهر رمضان.

أجلس على البلكون المطل على شارع "أبو رمانة" الرئيسي بعد وجبة الإفطار، وأتأمل مدينتي الهادئة. كانت دمشق تنصت لأصوات القصف، وتتزايد فيها أعداد العناصر الأمنية والمسلحة التي تملأ الشوارع بشكل لا يصدَّق، وكنت أصاب بضيق التنفس لكثرتهم في الطريق. بُنيت الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش في كل شارع ضيق أو واسع، وعلى كل مفترق، وكما في البحرين، أُغلِقت بعض الشوارع، وتغيرت خريطة الساحات وطرق الوصول إليها، ورُفعت الجدران. في ذلك المساء، بعد صلاة التراويح، سمعت من جامع الحسن في شارعنا في "أبو رمانة"، الهتاف الأول الذي يصدر من قلب دمشق، ومن شارع يعجّ بقوات الأمن والمخابرات. هتف المتظاهرون: "يا حمص نحنا معاكي للموت، الشعب يريد إسقاط النظام".

كل ما كنت أريد أن أسمعه في ذلك اليوم، هو هتاف لحمص. كنا نموت كل يوم مع شبان حمص وشاباتها ومع كهولها وأطفالها، وكانت حمص لا تستكين وتملأ الدنيا أهازيج وأغاني واحتجاجاتٍ مبهرةً، لكن النظام بدأ بشن عمليات عسكرية عنيفة على المدينة، وأخذت صور القتلى تنهمر علينا كالمطر الذي جافى دمشق سنين طويلةً. كان ذلك الهتاف السريع في مظاهرة طيّارة هو كل ما نملك.

في زيارات متعاقبة إلى دمشق، شهدت القصف والقذائف وتوقفت على الحواجز، وودعت أصدقاء هاربين، وآخرين مخفيين إلى الأبد، وانتظرت صديقات وأصدقاء معتقلات ومعتقلين معظمهم لم يفرَج عنهم حتى اليوم.

لم تكن تلك التظاهرات تشبه شيئاً أعرفه. كانت هائلةً، وعارمةً وصاخبةً، وقويةً واحتفاليةً تشبه اللبنانيين كثيراً، وتشبه كل الغضب الذي كتمناه طويلاً في دواخلنا.

لبنان

في 17 من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2019، وصلتُ إلى لبنان في رحلة سريعة لمدة ثلاثة أيام. كانت رحلة عمل، وقد اصطحبت معي ابني وابنتي كي نلتقي بعائلتي التي ستأتي من دمشق لقضاء ثلاثة أيام معنا في بيروت. في الليلة ذاتها اندلعت الثورة اللبنانية. تجمّع الآلاف في ساحة الشهداء وامتلأت الشوارع. أُلغيت ورشة العمل التي جئت من أجلها، واضطرت عائلتي إلى العودة على وجه السرعة إلى دمشق خوفاً من انقطاع الطرق، وكان عليّ أن أغادر مع طِفلَيّ في أقرب رحلة، لكنني لم أكن لأفوّت هذه المرة أيضاً الثورة التي تصدح تحت نافذتي.

في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر، وقبل توجهي إلى مطار بيروت الدولي في رحلتي العائدة إلى براغ، رافقتُ صديقي السوري المقيم في لبنان الذي كان منخرطاً بعمق في الحراكين السوري واللبناني بطبيعة الحال، وانضممنا إلى تظاهرات بيروت الواسعة.

لم تكن تلك التظاهرات تشبه شيئاً أعرفه. كانت هائلةً، وعارمةً وصاخبةً، وقويةً واحتفاليةً تشبه اللبنانيين كثيراً، وتشبه كل الغضب الذي كتمناه طويلاً في دواخلنا. كان لبنان أقرب ما يكون إلى ساحة ثورة لا يمكن أن تتوقف. كان كموجة تسونامي ضخمة ستغمر كل ما مضى، وكل ما سيأتي. عندما أتخيل المعنى الحقيقي لكلمة ثورة، أتذكر أنني في الجموع العاتية أقف مع طفلين مذهولين بما يريان.

"كلّن يعني كلّن"، سألني ساري وسيلينا: "من المقصودون بـ’كلهم’؟". أجبتُ بأنهم "جميعاً" من يريدون أن يمنعونا من زيارة عائلاتنا، ومن يقررون مصيرنا، ويمنعون عنا الهواء الذي نتنفسه.

على الرغم من أن كل ما كنت أقوله بدا مبهماً، إلا أن الطفلين الذين شهدا أوجه الحرب والثورات المتعددة، تمكّنا من فهم المعنى الحقيقي لكلمةٍ مجازية هي: الثورة.

سيحدث في ما بعد انفجار مرفأ بيروت الهائل الذي سيحطم قلوب الملايين من الثائرين في العالم، وقلوب اللبنانيين على الأخص. هذه الحكومات يمكن أن تمسح البشر عن وجه الخريطة كلياً، وليس الساحات والمدن فحسب. لا قيمة تُذكر لأرواح البشر وذكرياتهم وما يبنون في مدننا.

أوكرانيا

في 25 شباط/ فبراير 2022، يشارك ابني ساري ذو الاثني عشر عاماً صورةً على حساب الإنستغرام الخاص به. كان قد أخذها من صديقه دانييل الذي ينحدر من عائلة أوكرانية. يكتب ساري على الصورة أنه يكره بوتين الذي يقصف اليوم عائلة صديقه، والذي قصف سوريا قبل ذلك.

تتشابك القصة بطريقة غير متوقعة. نحن اليوم أمام عدو واحد، يواجه الطفل السوري معركة الطفل الأوكراني، ويتمنيان معاً السلام لسوريا وأوكرانيا. يأتي ساري إليّ بعين دامعة: "هذه الحياة ليست عادلةً، عائلة دان في خطر!". وأتذكر كل المرات التي كنا نحن فيها في خطر، وكل المرات التي قلقت فيها على عائلتي إلى درجة أصابتني بالشلل أمام تفاصيل حياتي اليومية. تسيطر الحرب على مشاعرنا وتجمدها. نحن المتلقون لها ولرعبها. لا يمكنني أن أمنع نفسي من التضامن غير المشروط مع الأوكرانيين. أنا أعرف جيداً ما يمرّون به اليوم. نحن نواجه العدو نفسه.

تقرع بابي على عجل جارتي التشيكية، وبعينين مغرورقتين بالدموع تسألني إن كنتُ أعرف أي منظمة يمكنها أن تساعد في إخراج صديقتها من أوكرانيا. تقول لي: "لديها أطفال صغار، وهم في منطقة خطرة للغاية. لا يمكنني أن أتصور ما يمرون به اليوم". أما أنا فللأسف، يمكنني أن أتصور ما يمر به الأوكرانيون اليوم.

لم أستطع حتى اليوم أن أُخرج عائلتي من دمشق. أفكر إن كان بإمكاني ضمن عجزي تجاه عائلتي السورية، أن أنقذ أنقاض العائلات الأوكرانية.

نحن اليوم أمام عدو واحد، يواجه الطفل السوري معركة الطفل الأوكراني، ويتمنيان معاً السلام لسوريا وأوكرانيا. يأتي ساري إليّ بعين دامعة: "هذه الحياة ليست عادلةً، عائلة دان في خطر!". وأتذكر كل المرات التي كنا نحن فيها في خطر، وكل المرات التي قلقت فيها على عائلتي إلى درجة أصابتني بالشلل أمام تفاصيل حياتي اليومية

تخرج تظاهرة مليونية متضامنة مع أوكرانيا مساء يوم الأحد في شارع المتحف الوسيع في العاصمة التشيكية، براغ. أنضمّ مع صديقتي البوسنية إلى صفوف الهاتفين.

صديقتي عاشت حرب البوسنة، وهربت منها بتشوهات نفسية دائمة. تعانقني وسط الجموع وتذكّرني بأننا نعرف ما هي الحرب، ونعرف أننا كنا طويلاً نخوضها في رحلاتنا الداخلية والاجتماعية والسياسية. وأننا خسرنا الكثير بسببها، أكثر مما يمكن أن نحتمل.

وسط المظاهرة يمر شريط طويل أمام عينيّ، يبدأ بدوار اللؤلؤة البحريني، ولا ينتهي في شارع المتحف وسط العاصمة براغ.

الحرب

أحاول رتق الكوارث وترميم قلبي المنكسر كل يوم، وأتمسك بذاكرتي عن كل الحروب والثورات التي شهدتها، وعن كل المدن التي هجرتها وأقربها إلى قلبي مدينتي دمشق. سأستمر في رواية حكايتي، وفي رواية حكايات النساء اللواتي وجدن أنفسهن في ساحة المعركة من دون عتاد، فاخترن المواجهة واخترن التشبث بالأمل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image