في طريق متجه نزولاً من شارع الحمرا الشهير إلى جامعة بيروت الأميركية، يقع شارع عمر بن عبد العزيز، ثامن خلفاء بني أمية، المعروف لدى أهالي العاصمة اللبنانية اختصاراً بشارع "عبد العزيز". لا غرابة في إطلاق اسم حفيد عمر بن الخطاب على شارع رئيسي في مدينة عربية، الغريب هو في الشارع الذي يصب فيه شارع بلس، المسمّى على اسم المبشر الأمريكي دانيال بلس، مؤسس جامعة بيروت الأميركية. وإذا مشينا يميناً، عند نهاية "شارع عمر بن عبد العزيز،" نصل إلى شارع الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وفي نهايته إلى منطقة كليمنصو التي تحمل اسم جورج كليمنصو، رئيس وزراء فرنسا في الحرب العالمية الأولى.
وحدها بيروت دوناً عن كل المدن قادرة على الجمع بين خليفة أموي ورئيس أمريكي ورئيس وزراء فرنسي وقس أمريكي في مربع جغرافي واحد.
شوارع بيروت والتناقض الرهيب
هذه هي بيروت، مدينة التناقضات الرهيبة. كانت منطقة الأشرفية الشهيرة، بهويتها المسيحية وأبنيتها المشيّدة على الطراز الأوروبي، قد سمّيت على اسم الأشرف خليل، ثامن سلاطين دولة المماليك. هل كان يعرف أن حيّاً كاملاً سيُشيّد على اسمه، فيه نصب شهير للرئيس بشير جميّل، قبل أن يأتي تفجير المرفأ قبل سنتين ليدمر الكثير من عمارات الأشرفية الجميلة؟ وفي الأشرفية ذاتها شارع غورو، نسبة إلى الجنرال الفرنسي هنري غورو، مندوب فرنسا في الشرق الأوسط الذي احتل سورية سنة 1920 وأعلن عن ولادة دولة لبنان الكبير، وعلى مقربه منه في الأشرفية نجد شارع عبد الوهاب الإنكليزي، أحد شهداء سورية الذي أعدم على يد العثمانيين شنقاً في 6 أيار 1916.
وحدها بيروت دوناً عن كل المدن قادرة على الجمع بين خليفة أموي ورئيس أمريكي ورئيس وزراء فرنسي وقس أمريكي في مربع جغرافي واحد
وفي الوسط التجاري نجد اسم خليفة غورو، الجنرال ماكسيم ويغان، على مقربة من ساحة رياض الصلح، أحد أبطال الاستقلال اللبناني. وعلى الكورنيش تكمل التناقضات، من شارع ديغول عند محلّة المنارة، مقابل نصب الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والقريب من جادة رفيق الحريري من جهة، ومن شارع الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود. وإذا تقدمنا نحو منطقة الغبيري، نجد شارع قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، وشارع الإمام الخميني عند مطار رفيق الحريري الدولي.
دمشق وشوارعها
في سورية المجاورة، لم تثبت أسماء الكثير من الشوارع كما حدث في لبنان، وقد تغيّر الكثير منها مع تغير الأوضاع السياسية في البلاد. مع سقوط الحكم العثماني سنة 1918، أزيل اسم السلطان محمد رشاد الخامس عن "الجادة الرشادية" القريبة من محطة الحجاز، وعند بدء الانتداب الفرنسي، أطلق عليها اسم "شارع كاترو،" نسبة للضابط الفرنسي جورج كاترو الذي دخل دمشق مع غورو عام 1920، وعاد إليها في زمن الحرب العالمية الثانية ممثلاً عن الجنرال شارل ديغول. عند انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية سنة 1936، أزيل اسم كاترو وسمّيت الجادة بشارع خالد بن الوليد. وكذلك كان الحال مع "شارع جمال باشا،" قائد الجيش الرابع العثماني، الذي سمّي بشارع النصر في عهد الملك فيصل الأول، وهو مقر إذاعة دمشق.
منطقة الأشرفية الشهيرة في بيروت، بهويتها المسيحية وأبنيتها المشيّدة على الطراز الأوروبي، سمّيت على اسم الأشرف خليل، ثامن سلاطين دولة المماليك
كما كانت المنطقة الممتدة من الجسر الأبيض، وسط مدينة دمشق الحديثة، إلى سفوح جبل قاسيون الجنوبية، تُعرف باسم "جادة بونسو" نسبة للمفوض السامي الفرنسي غابريل بونسو، وقد تغيرت في عهد الكتلة الوطنية إلى "جادة العفيف". كما تغير اسم المستشفى الحميدي في البرامكة، المسمى على اسم السلطان عبد الحميد الثاني، ليصبح "مشفى الفربا" أو "المستشفى الوطني"، مع إبقاء اسم السلطان العثماني الأول على السوق الكبير وسط المدينة القديمة. وعلى الرغم من موجة التعريب التي طالت الشوارع السورية والأحياء بعد سنة 1918، لم يتغير اسم سوق مدحت باشا، ولا اسم قصر العظم في سوق البزورية.
ولكن التغيير سرى على الشوارع والأحياء المسماة على أسماء بريطانية، ومنها "جادة سبيرز" القريبة من العفيف، التي حملت اسم سفير بريطانيا في سورية ولبنان أيام الحرب العالمية الثانية. بعد الجلاء، عادت إلى اسمها القديم، "جادة نوري باشا". وعند افتتاح شارع أبي رمانة الأنيق في نهاية مرحلة الانتداب سنة 1945، سمّي بداية بشارع بريطانيا، عرفاناً بدعم بريطانيا لقضية استقلال سورية ودعوتها لتكون عضواً مؤسساً في الأمم المتحدة. بعد جلاء القوات الأجنبية عن سورية سنة 1946، صار يعرف عقارياً باسم "شارع الجلاء" ولكن اسم "أبي رمانة" ظلّ سائداً عند العوام حتى يومنها هذا. وبعد الجلاء أيضاً، شملت عملية إعادة تسمية الشوارع "جادة غوابيه" بين محطة الحجاز وجسر فكتوريا، وهو الضباط الفرنسي الذي قام باحتلال دمشق سنة 1920، وصار اسمها "شارع سعد الله الجابري". وأخيراً، هدم النصب التذكاري الذي شيّد للضابط الفرنسي ديكار بانتري، قائد حرس البداية الذي قتل على يد الثوار السوريين في الثورة السورية الكبرى، وصارت الساحة تُعرف باسم ساحة السبع بحرات وهي مقر مصرف سورية المركزي.
أشرف أحد الضباط الأحرار، وهو عبد اللطيف البغدادي، على عملية إعادة تسمية ميادين وشوارع ومستشفيات القاهرة، بهدف نسف الإرث الملكي، فقام بتغير اسم شارع الملك فؤاد إلى شارع 26 يوليو، وهو تاريخ مغادرة ابنه الملك فاروق مصر نفياً إلى أوروبا
شوارع القاهرة وثورة 1952
وقد تكرر هذا الأمر في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 وتسلّم أحد الضباط الأحرار، وهو عبد اللطيف البغدادي، وزارة الشؤون البلدية والقروية. أشرف البغدادي على عملية إعادة تسمية الميادين والشوارع والمستشفيات، بهدف نسف الإرث الملكي، فقام بتغير اسم شارع الملك فؤاد إلى شارع 26 يوليو، وهو تاريخ مغادرة ابنه الملك فاروق مصر نفياً إلى أوروبا. كما أزيل اسم فؤاد الأول عن الجامعة التي افتُتحت في عهده، ومحي اسم زوجته الثانية الملكة نازلي عن مستشفى الإسكندرية، وتحوّل اسم "مستشفى الملك فاروق" إلى "مشفى الجلاء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...