"ليش لأ؟"، و"من الآخر"، و"مش نورمال"، وغيرها من العبارات، هي أسماء لمحالّ ملابس، في سوق التصفية في العاصمة عمّان، أو كما يفضّل كثيرون تسميته بسوق "تلاع العلي"، على اسم المنطقة التي يقع فيها، وتخفيفاً لوطأة كلمة "تصفية" التي قد تشعر زبائن السوق بأنهم مختلفون بشكل أو بآخر.
فعلى غرار شارع الوكالات في منطقة "الصويفية" في عمّان، والذي تتراصّ فيه محالّ ملابس تعرض أهم الماركات العالمية بأسعارها "العالمية"، يقع على الجانب الآخر من عمّان الغربية شارع "التصفية"، وتباع فيه الملابس عينها التي يمكن أن نجدها في شارع "الوكالات"، أو بالأحرى ما كان يباع فيه سابقاً، بأسعار زهيدة جداً، تشعر زبائن سوق التصفية بأنهم عندما يرتدون ما يشترونه من ماركات عالمية، قادرون على أن يكونوا مثل زبائن "الصويفية".
هذا الاختلاف، بين تفضيل زبائن شارع التصفية تسميته بسوق "تلاع العلي"، وبين شرائهم ملابس من السوق تحمل علامات تجاريةً عالميةً معروفةً، مثل زارا وماسيمو دوتي وبيرشكا، يبيّن جانباً مما يفكرون فيه: "أي نعم نحن مختلفون بسبب الفوارق الطبقية التي تتزايد يوماً بعد آخر في الأردن، لكننا بفضل هذا السوق أصبحنا مثلنا مثل غيرنا".
تأثير "السوشال ميديا"
عمر سوق "تلاع العلي" في عمّان، من عمر جيل "الديجيتال"، أو جيل مواقع التواصل الاجتماعي في الأردن. هذه الفترة الزمنية لم تلغِ الحدود بين ساكن الكرك في أقصى جنوب الأردن، وبين قريبه الذي يعيش في كندا فحسب، بل هي أيضاً الحقبة التي ازداد فيها تأثير الصورة على العقل والاهتمام، وعلى طرح سؤال: "إشمعنا إحنا غير؟"، وهنا نتحدث عن جيل فتيّ لا يستوعب الفروقات الطبقية، وغير معني بالإخفاقات السياسية الذي قسمت الناس طبقتين، حتى في دولة صغيرة كالأردن، فيها اليوم الغني وفيها الفقير، وطبقةٌ ما بينهما تتأرجح وتحاول ألا تسقط في حفرة الفقر.
"إنت ما بتعرفي تأثير الصور والفيديوهات على فيسبوك وتيكتوك على البنات من جيل بنتي؟"، أجابتني سيدة أردنية على سؤال طرحته عليها في أثناء جولتي في السوق، وهي تنتظر ابنتها التي كانت تقيس فستاناً في أحد المحال. استفسرت منها عن سبب ارتيادها "المتكرر" كما قالت للسوق، فقالت إن العامل الأساسي هو مواقع التواصل التي لا تنفك تعرض صوراً لملابس من أفضل الماركات، تظهر فيها فتيات من جيل ابنتها دعاء (23 عاماً)، وهن يرتدينها.
أنا لا أحرم أبنائي من شيء، لكن على قد لحافك مد رجليك! لذلك أفضل أن أشتري لابنتي من سوق التصفية، لأن فيه الماركات التي تحلم بارتدائها كما زميلات لها في الجامعة، ومثل صور تراها على مواقع التواصل، لكن بسعر أقل من نصف السعر الأصلي للقطعة
طلبت من والدة دعاء أن تفسر وجهة نظرها أكثر، فقالت: "عندي ثلاثة أولاد شبان وابنتان، دعاء أصغرهم. لم يسبق في جيل إخوتها الأكبر سناً، أن كانت لديهم اهتمامات بماركات الملابس التي يرتدونها، على الرغم من أنهم درسوا في الجامعة مثلها، لكن لم يسبق أن سمعت أحدهم وهو عائد من الجامعة يتحدث عن الفرق بينه وبين زملائه في المحاضرة في ما يتعلق باللباس، لكني اليوم أسمع هذه العبارة منها".
وأضافت: "أنا لا أحرم أبنائي من شيء، لكن على قد لحافك مد رجليك! لذلك أفضل أن أشتري لابنتي من سوق التصفية، لأن فيه الماركات التي تحلم بارتدائها كما زميلات لها في الجامعة، ومثل صور تراها على مواقع التواصل، لكن بسعر أقل من نصف السعر الأصلي للقطعة".
قالت والدة دعاء تلك العبارة في نهاية حديثها، وهي تستند إلى حمالة ملابس مكتوب عليها: "بدينار"، أي أقل من ثلاثة دولارات. التقطت قطعةً معروضةً على تلك الحمالة ووجدنا أنها من ماركة "بيرشكا".
"لا أريد التصوير"
في الجهة المقابلة لتلك الحمالة، طاولة معروضة عليها "بناطيل" ومعلق عليها يافطة تقول: "خمسة دنانير"، أي ما يقارب سبعة دولارات. لمحت فتاةً تتجول بين أكوام البناطيل، وتبحث عن قياس يناسبها. عرّفت عن نفسها لرصيف22 باسم أسيل، وهي طالبة جامعية في السنة الثانية. سألتها عن سبب ارتيادها سوق "تلاع العلي"، فأجابت بسؤال: "في تصوير؟ إذا في تصوير ما بدّي أحكي".
بفضل هذا السوق أصبحنا مثلنا مثل غيرنا.
وبعد أن اطمأنت بأنها مقابلة مكتوبة، قالت: "لدينا نفسيات مريضة في مجتمعنا، يعتقدون أن من يشتري ملابس من سوق التصفية فقير، ويشعرونك بأن الأردن بلد غني! صدقيني نصف من تشاهدينهم على إنستغرام يشترون من سوق التصفية".
"لماذا خفتِ من أن يكون هناك تصوير؟". أجابت الفتاة: "لا أريد أن يعتقد أي شخص أنني فقيرة، أو أن والدي مقصّر معي، وهو على العكس، لو أطلب منه عيونه فسيعطيني إياها وهو يضحك، لكن أنا لا أقبل أن أصرف راتب عمله الذي يتعب فيه على بلوزة سعرها ثلاثون ديناراً، في الوقت الذي أستطيع فيه أن أشتريها من سوق التصفية بعشرة دنانير".
مواسم قديمة وجديدة
في محل مجاور، يقف علي الكردي بين كومة ملابس مصفوفة على طاولة، ومكتوب عليها: "ديناران ونصف". أسأله، وهو مدير المكان، عن مدى قدرة سوق التصفية على ردم جزء من الفجوة بين الطبقات في الأردن، فيجيب: "مع الترندات والصيحات التي تجتاح عالم السوشال ميديا، نلاحظ أن زبائن السوق، خصوصاً من الفتيات صغيرات السن، يردن أن يتشبهن بما ترتديه النجمات والفنانات، غير آخذات بعين الاعتبار أن القطعة التي ترتديها فنانة ما، لن يتناسب سعرها مع الأوضاع الاقتصادية لمعظم العائلات الأردنية، وهنا يأتي دور سوق التصفية، إذ نبيع التراند بسعر رخيص، فيختفي الشعور بالاختلاف".
ويبيّن الرجل في حديثه أن بضائع سوق التصفية مؤخراً لا تقتصر على الملابس القديمة ذات الماركات العالمية، والتي تعود لمواسم سابقة، بل اتجه التجار إلى بيع قطع تشبه إلى حد كبير قطع ملابس الماركات، لافتاً إلى أن أغلبها بضائع تركية، تنتج ملابس تتناسب جداً مع "التراند".
وعن أسعار الملابس التي تباع في سوق التصفية، يشرح التاجر: "هناك بلوزات تبدأ بدينار واحد فقط، وأغلى القطع لا تتجاوز العشرين ديناراً (35 دولاراً)، وعلى الأغلب تكون لمعاطف شتوية ثقيلة".
الناس البسيطة يتنفسون عدالةً، وأنا أدرس القانون، وأعرف ماذا تعني كلمة عدالة، وأعرف الشعور الجميل الذي ينتاب المرء إذا لمس أنه متساوٍ مع الآخر، حتى لو كانت تلك المساواة في ماركة بلوزة ليس إلا!
الشعور بالمساواة
من المعروف عن سوق التصفية أنه "لا يهدأ". حتى الذين يضطرون إلى المرور منه في أثناء ذهابهم أو عودتهم من عملهم، يحرصون على البحث عن أي دخلة فرعية تجنّبهم الزحام الكبير في الشارع. في أثناء جولتنا في السوق، والتي انطلقت في الصباح واستمرت حتى ساعات الليل، كان الشارع "بينغل نغل"، وفق توصيف الشاب موسى، وهو يبيع على عربةٍ ترمساً وذرةً أمام صف من محالّ التصفية.
موسى عمره 19 عاماً، ويعمل على العربة لمساعدة والده في تأمين معيشة العائلة، ويقول خلال حديثه إلى رصيف22: "عربتي في شارع التصفية ضمان لي بأنني سأعود إلى البيت ومعي مصروفي ومصروف شقيقتي التي تدرس. هنا الناس مجانين ماركات، لكن ما معهم يشترونه من سوق الوكالات أو من المولات، لذلك يتنفسون في سوق التصفية".
سألته عن سبب استخدامه تعبير "يتنفسون"، فأجاب ضاحكاً: "نعم هنا الناس البسيطة يتنفسون عدالةً، وأنا بالمناسبة أدرس القانون، وأعرف ماذا تعني كلمة عدالة، وأعرف الشعور الجميل الذي ينتاب المرء إذا لمس أنه متساوٍ مع الآخر، حتى لو كانت تلك المساواة في ماركة بلوزة ليس إلا!".
نصحني الشاب بالذهاب في جولة داخل محل ملابس محدد، لأطّلع على العلامات التجارية التي يبيعها، وعندما قلت له إنها كغيرها من الماركات في السوق، ضحك وقال: "إنت بس فوتي".
"ديكني، تومي، ومين سيكرت، وغيس"، وغيرها من العلامات الفخمة جداً. أسأل صاحب المحل واسمه عدي بركات عن مكان استيرادها، خصوصاً أن غالبيتها غير موجودة أصلاً في عمّان. فيجيب سريعاً وهو يحمل بلوزةً إلى زبونة: "الله يخليلنا مصانعنا التي تطبع اسم تلك الماركات على نسخ مقلدة منها".
وبعد أن انتهى من الزبونة عاد وقال: "الانقسام بين الغني والفقير في البلد، يجعل أشخاصاً بسيطين ‘على قد حالهم’ يصدقون أن ما نعرضه ماركات أصلية وليست تقليداً. حتى أولئك الذين يعرفون أنها مقلدة، لا يهتمون بذلك بل يهتمون بشيء أكبر، وهو شعورهم وهم يرتدون ملابس تحمل مثل تلك الماركات العالمية. يشعرون بأنهم ليسوا مختلفين عن غيرهم!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.