إن الرغبة في بذل قصارى جهدنا هو هدف رائع، ولكن عندما تصبح التوقعات العالية مستحيلة وغير واقعية، فهذا يعني أننا أضعنا البوصلة.
بطبيعة الحال، إن ارتكاب الأخطاء أمر لا مفر منه، ويحدث لنا جميعاً في مرحلة ما من حياتنا المهنية، لكن البعض منّا يتمسك بهذه الأخطاء لفترة أطول من غيره.
إن ما يغذي هذه المخاوف المستمرة هو الشعور بعدم الكفاءة تماماً والخوف من أن يكتشف الآخرون نقاط ضعفنا، وبالتالي بمجرّد أن يتحول التركيز على الأخطاء إلى "هوس" مع ما يسببه ذلك من شعور بالخزي والعار، يمكن أن يتحول الأمر إلى مشاكل أكبر، مثل السعي إلى الكمال.
في الحقيقة، إن السعي إلى المثالية والكمال ليس بالضرورة أمراً سيئاً، لقد توصلت الأبحاث إلى أن الذين يلتزمون بمعايير عالية هم بطبيعتهم أشخاص منخرطون في عملهم ولديهم الحافز للنجاح، ولكن تنقلب الأمور رأساً على عقب عندما تبدأ المعايير الصارمة للكمال في إحداث ضرر أكبر من نفعها.
عرقلة النجاح
الكمالية هي شكل من أشكال القلق، التي قد تمنعنا من التقدم في حياتنا المهنية، بخاصة عندما نبدأ في تجنّب المهام خوفاً من عدم اكتمالها بشكل مثالي، أو نقضي وقتاً طويلاً في محاولة تحقيق شيء مثالي.
في حوار أجراه رصيف22 مع المعالجة النفسية غنوى يونس، أكدت أن الأفراد الذين لديهم شخصية كمالية، يضعون أهدافاً ومعايير مثالية، تكون في معظم الأحيان غير واقعية أو تفوق قدراتهم، ونتيجة إخفاقاتهم يشعرون بالإحباط، مع ما يترتب عن ذلك من نوبات قلق وتوتر: "الشخص المعني قد يصاب بالاكتئاب نتيجة المثالية المفرطة التي يسعى إليها".
وأوضحت يونس أن هؤلاء الأفراد يركزون دوماً على النتائج بمعزل عن الطريقة، وقد يعملون على تأجيل الأمور المطلوبة منهم: "يعمدون دوماً إلى تأجيل المهام، لأن الأمور لا تسير وفق ما يريدونه... فإما يقومون بالعمل وفق توقعاتهم أو يعزفون عن ذلك".
الأفراد الذين لديهم شخصية كمالية، يضعون أهدافاً ومعايير مثالية، تكون في معظم الأحيان غير واقعية أو تفوق قدراتهم، ونتيجة إخفاقاتهم يشعرون بالإحباط، مع ما يترتب عن ذلك من نوبات قلق وتوتر
وعن الأسباب النفسية التي تقف وراء الكمال، كشفت غنوة أن هناك عاملاً مشتركاً يتمثل في كون هؤلاء الأشخاص يعانون من سوء تقدير الذات، فيحاولون تعويض هذا النقص من خلال وضع توقعات وأهداف تفوق قدراتهم، وينتظرون نتائج مثالية، مشيرة إلى أنه لديهم خوف غير مبرر من الفشل، بحيث أنهم يعظمون في ذهنهم مفهوم الفشل، ويعتبرون أنه في حال لم تسر الأمور وفق توقعاتهم، فهذا يعني بأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، وتبدأ مرحلة جلد الذات والوقوع في دوامة الكآبة.
وبحسب يونس، هناك سبب نفسي آخر للكمالية، يعود إلى الطفولة القاسية والانتقاد المستمر الذي كان يتعرض له المرء من قبل أهله في هذه المرحلة العمرية، ويصبح وجوده مرتبطاً بإرضاء غيره، غير أنها شددت على أن هناك خيطاً رفيعاً بين الأفراد الذين يسعون إلى اتمام الأمور بطريقة احترافية ومهنية وبين الأشخاص الذين لديهم "هوس" الكمال.
هذا وختمت غنوى يونس بالقول: "في نهاية المطاف، يجب أن يعي الجميع بأنه لا يوجد شيء مثالي في الحياة".
ما هي العلامات التي تدل على الكمال؟
هناك بعض العلامات التي تدل على أننا وقعنا في فخ عقلية الكمال السامة والآثار السلبية التي قد تترتب على صحتنا، من بينها:
التفكير فقط في ما لم نفعله، ما يجعلنا غير قادرين على التفكير في ما فعلناه: إذا لم نتمكن من التفكير في الأمور التي أنجزناها، فلن نشعر بالرضا على الإطلاق.
بالنسبة لمن ينشد الكمال في تقييم أدائه الوظيفي، فإن علامة 99 تعد أمراً سيئاً بالنسبة إليه لكونه يتطلع إلى علامة 100.
الكماليون بطبيعتهم لا يقبلون المجاملات ويركزون على الأخطاء لدرجة الهوس.
هؤلاء الأفراد لا يتمتعون أبداً بلحظة انتصاراتهم
هذا الضغط على كاهلهم يستنزفهم في نهاية المطاف، بخاصة وأنه عندما يصلون إلى هدفهم، فإنهم يسألون دائماً أنفسهم: "ما التالي؟"، وينظرون إلى منافسهم ليروا كيف يمكنهم القيام بذلك بشكل أفضل، وخط النهاية يستمر في التحرك أكثر فأكثر، بمعنى آخر، هؤلاء الأفراد لا يتمتعون أبداً بلحظة انتصاراتهم.
ينتج الإرهاق عن الإجهاد المزمن في مكان العمل، ويمكن أن يدمر الصحة على المدى الطويل.
لهذا من المهم جداً أن يكون المرء هادئاً، وأن يأخذ الوقت الكافي للشعور بالرضا عمّا فعله بعد الانتهاء من المهمة.
القلق للغاية بشأن ما سيحدث في حال عدم الوصول إلى المعايير العالية: قام باحثون من جامعة ميامي وجامعة فلوريدا وجورجيا للتكنولوجيا بتحليل 95 دراسة سابقة، ووجدوا أن هناك نوعين من الكماليين: الباحثون عن التميز والذين يضعون معايير عالية للغاية لأنفسهم ولغيرهم، والكماليون الذين "يتميزون بقلق مهووس ونفور من الفشل في الوصول إلى معايير أداء عالية للغاية"، بحسب ما قاله مؤلف الدراسة، لورينز ستيد، لموقع هافيغتون بوست.
وبحسب الباحث، فإن الكمال لا يحسّن الأداء الوظيفي، بغض النظر عن نوع الشخص: "تشير نتائجنا إلى أن السعي إلى الكمال ليس مفيداً إلى حدّ كبير في مكان العمل".
تفويت المواعيد النهائية: قالت شانون غارسيا، أخصائية نفسية في ولايت أوف ويلنس كونسلنج في إلينوي وويسكونسن، إن هناك علامة على أن كمالكم/نّ يضر أكثر مما ينفع عندما لا يسمح لكم/نّ بإنجاز أي شيء: "تقوم بضبط مهام العمل مراراً وتكراراً، ويتم دفع المواعيد النهائية، لأن ما تعمل عليه لا يشعرك بالرضا الكافي أبداً، أو قد تواجه مشكلة في بدء مهمة العمل خوفاً من عدم القدرة على القيام بها على أكمل وجه".
وأوضحت غارسيا أنه عندما يصبح المرء "سيء السمعة" في العمل بسبب تفويت المواعيد النهائية، يصبح بنظر الآخرين شخصاً غير موثوق به، ما يجعله يواجه صعوبة في التقدم في حياته المهنية.
وعليه، شددت شانون على أن السعي إلى الكمال لا يؤدي فقط إلى الإرهاق، ولكن أيضاً يولد التوتر المستمر الذي ينتقل من العمل إلى الحياة المنزلية، فالمرء الذي يكون سريع الانفعال أو متطلباً نتيجة الصراع الداخلي والنزعة إلى المثالية، فمن المحتمل أن يؤثر ذلك على أعضاء الفريق وزملاء العمل المرتبطين به، ما يؤدي إلى عدم الراحة في العمل.
عدم التواصل اجتماعياً: هناك علامة أخرى على أن الكمال يصبح ضاراً، عندما لا يتمكن الشخص المعني من الاستماع حقاً أو التعامل مع زملائه أو أحبائه، لأنه قلق جداً بشأن الحفاظ على صورة ذاتية مثالية، وبالتالي يمارس ضغطاً على نفسه لارتداء "القناع الاجتماعي".
إذا كنتم من الأشخاص الذين يتساءلون عمّا إذا كان سعيكم للكمال يساعد أو يضر حياتكم المهنية، يجب أن تسألوا أنفسكم: هل يجعلكم ذلك تشعرون بالقلق والحزن؟ هل تشعرون أن هناك فجوة متنامية بين الشخص الذي تبدون عليه من الخارج، وفي داخلكم تشعرون وكأن الأشياء على وشك أن تنهار في أي وقت؟
إذا كان الجواب نعم، فإن السعي إلى الكمال لم يعد يخدمكم، ويجب أن تفكروا في إعادة تعريف معاييركم والقبول بعبارة "جيّد بما فيه الكفاية".
كيفية التغلب على الهوس بالكمال؟
الكمال سيف ذو حدين. من ناحية، يمكن أن يحفزنا على تقديم أعمال عالية الجودة، ومن ناحية أخرى، يمكن أن يسبب لنا القلق غير الضروري. كيف يمكن الاستفادة من إيجابيات الكمال وما هي الإجراءات أو الممارسات التي يمكن استخدامها لإبقاء النزعة إلى الكمال تحت السيطرة؟
وضع الخطأ في نصابه: بعد أن نرتكب خطأً واضحاً في العمل، قد نرغب في أن "تبتلعنا" الأرض لإنقاذنا من الإحراج والعار والقلق من مواجهة زملائنا في العمل مرة أخرى.
إذا كانت هذه المخاوف تجعلنا مستيقظين طوال الليل، فينبغي أن نتحدى تلك الأفكار من خلال أن نصبح أكثر واقعية في تفكيرنا، كما اقترحت شانون غارسيا: "هل سينتهي العالم؟ لا. هل ستطرد؟ على الأرجح لا. هل ستتلقى ملاحظات بناءة من رئيسك في العمل؟ من الممكن. هل الاعتراف بخطئك سيكون غير مريح؟ قد يكون كذلك. هل نجوت من أخطاء الماضي؟ يبدو الأمر كذلك، إذا كنت تقرأ هذا. هل ستنجو من هذا؟ نعم!".
عدم جلد الذات كتكفير عن الذنب: لتجاوز الخطأ، نحتاج إلى إعادة التفكير في معنى التعلم من الخطأ، وبالتالي من المهم أن نأخذ نفساً عميقاً ونمنح نفسنا الإذن بالتخلي عن هذه الأفكار.
يفكر الناس في اجترار الأفكار لأنهم يعتقدون أن هناك مكافآت للقلق الشديد، ولكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.
لا يوجد أحد كامل، وعلى الرغم من أن نية الساعين إلى الكمال قد تبدو جيدة على السطح، غير أنه يمكن أن يكون للكمالية آثار سلبية في العمل، وأن تكون ضارة على مستوى علاقات الموظفين/ات، بالإضافة إلى التأثير السلبي على صحة الشخص
من هنا، تطلب شانون غارسيا من لأفراد أن يكونوا لطفاء مع أنفسهم ويعيدوا صياغة مخاوفهم بشكل إيجابي: "حقيقة أنك قلق بشأن ذلك يعني أنك تهتم... حاول ألا تضغط على نفسك بسبب ذلك. وكلما ظهرت هذه الأفكار السلبية حاول أن تقول: أنا أتقبل خطئي، أختار التعلم منه، وأنا أمضي قدماً".
عدم إخفاء الخطأ: عندما نرتكب خطأً فادحاً في العمل، قد نرغب غريزياً في إيقافه وقمعه ونسيانه.
إذا شعرت بالحاجة إلى الانسحاب، تحدى نفسك أن تفعل العكس. كن الشخص الذي يطرح ذلك في محادثة مع زملاء العمل أو رئيسك في العمل.
قال الفيلسوف الفرنسي فولتير "الكمال هو عدو الخير". هذا درس صعب، على البعض منّا أن يتعلمه لأسباب عديدة، بما في ذلك الخوف من الفشل، ومقارنة أنفسنا بالآخرين، نريد أن نكون "مثاليين".
الحقيقة هي أنه لا يوجد أحد كامل، والسعي دوماً إلى المثالية هو أمر خطير. على الرغم من أن نية الساعين إلى الكمال قد تبدو جيدة على السطح، فهم يريدون القيام بعمل جيد، غير أنه يمكن أن يكون للكمالية آثار سلبية في العمل، وأن تكون ضارة على مستوى علاقات الموظفين/ات، بالإضافة إلى التأثير السلبي على صحة الشخص المعني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين