بالرغم من قناعتنا أن الكمال ليس من صفات البشر، وإنما من صفات الله في نظر المؤمنين، أو فكرة مستحيلة في نظر العلمانيين، غير أن بعض الأشخاص يحاولون دوماً الظهور بشكلٍ مثالي، فيجلدون ذاتهم في كل ثانية ويلومون أنفسهم على أبسط "تقصير"، سواء كان ذلك في حياتهم المهنية أم الخاصة.
واللافت أن هذا النمط من التفكير يجعلهم عرضةً للاكتئاب وحتى للإقدام على الانتحار، لاعتقادهم بأن "عيوبهم" الكثيرة لا تجعلهم يستحقون العيش على هذه الأرض.
تشير الأبحاث الحديثة إلى أن "الكمال" هو الهوس الجديد الذي يدمر الصحة العقلية لجيل الألفية، بحيث أنه يسجل أعلى مستوياته في هذا العصر الذي تطغى عليه وسائل التواصل الإجتماعي.
من الهوس من الرسوب في المدرسة، وصولاً إلى الهوس بعدد "اللايكات" والخشية من الانتقادات على "السوشال ميديا"، كيف يعيش بعض الأشخاص في عبوديةٍ مطلقةٍ لـ"حب الكمال"؟
وباء حب الكمال
كان "توم نيكول" يعاني من صعوبةٍ في النوم، وبهدف التغلب على هذه المشكلة، قرر اتّباع منهج روتيني صارم جداً: يشرب الماء فقط في أوقاتٍ مدروسةٍ، يأكل حسب موعدٍ محددٍ، يتجنب الكافيين، يمارس الرياضة بعيداً عن موعد النوم، كما أنه كان يطفئ كافة الشاشات عند الساعة التاسعة مساء. وبينما كان "توم"، طالب الدكتوراه يتلو هذه القائمة الطويلة لإعدادات النومه، بعد ليلةٍ أخرى من الأرق، أخبرته مستشارة شؤون الطلاب الدراسية أن مشكلته تكمن في أنه يعاني من حب الكمال، واللافت أن جوابه أكد ظنون المستشارة، إذ قال:"لست جيداً بما فيه الكفاية لكي أسعى وراء الكمال". في الواقع أوضحت صحيفة "الغارديان" البريطانية أن الهوس بالكمال يصيب كافة الناس على مختلف أعمارهم وأنماط حياتهم، إلا أنه ينتشر بشكلٍ متزايدٍ بين الطلاب. ففي وقتٍ سابقٍ من هذا العام، كشفت دراسة أُجريت على 40 ألف طالب في الجامعات البريطانية والأميركية والكندية، أن هناك زيادة بنسبة 33% منذ العام 1989 في أعداد الأشخاص الذين يشعرون أن عليهم تحقيق الكمال، وبناء على ذلك، يخشى رئيس فريق الدراسة، "توماس كوران" من جامعة باث، من ما أسماه "وباء خفياً لحب الكمال".هل الكمالية سمة شخصية أم حالة نفسية؟
إن الكمالية في علم النفس هي سمة شخصية يمكن تلخيصها بسعي الفرد جاهداً لبلوغ الكمال من خلال وضع معايير عالية جداً للأداء، يرافقها تقييمات نقدية مبالغة للذات وهاجس من تقييمات الآخرين. واللافت أن الكمالية ليست حالة نفسية، إذ لا يوجد رمز معيّن وضعته منظمة الصحة العالمية لتشخيص حب الكمال، كما أنه غير مدرج في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، الذي أصدرته الجمعية الأميركية للطب النفسي. من هنا اعتبرت الصحيفة أن حب الكمال هذا يمكن أن يحلّق عبر شاشة الرادار، تحت غطاء مسمى "المعايير العالية"، مشيرةً إلى أنه يتداخل مع مجموعة كبيرة من الاضطرابات مثل اضطراب الأكل، الوسواس القهري، القلق، الاكتئاب والانتحار.تشير الأبحاث إلى أن الهوس بالكمال في تزايد في عصرنا الحالي، وبأنه يصيب كافة الناس على مختلف أعمارهم وأنماط حياتهم، إلا أنه ينتشر بشكلٍ متزايدٍ بين الشباب
أبسط الحلول لشعورنا الدائم بالفشل، هو الاحتفال بكل خطوة والاستمتاع بالإنجازات الصغيرة على طول الطريق
الخوف الزائف من الفشل
يعرّف نيكول حب الكمال على أنه "خوف من الفشل"، لكن خوفه عظيم، ليس فقط لإيمانه بالكمال، وإنما لاعتقاده أنه مرّ به عن تجربة. ففي عام 2014/2015 عاش نيكول ما أسماه "عامه المثالي"، حيث اختبر الكمال بشكلٍ تفصيلي تام لدرجة أن بإمكانه أن يروي تلك التفاصيل بحذافيرها لحظة بلحظة: في كل يوم كان يتوجه إلى النادي الرياضي في الثامنة صباحاً، ثم يعمل من التاسعة صباحاً حتى السادسة مساء، ثم يحضر طعام اليوم التالي ويخلد بعدها إلى النوم، وكان يقوم بكل ذلك لمدة 5 أو 6 أيام في الأسبوع، أما في اليوم السابع فكان يقيّم مثابرته وإنتاجيته عن طريق حساب معدل إتمامه لقائمة المهام التي عليه فعلها. أما المكافأة على كل هذا المجهود فكانت إحرازه لمعدل 86% في رسالته للماجستير (مع العلم أن شقيقته كانت قد حصلت على 95%). ومنذ أن بدأ برنامج الدكتوراه لم يعد "توم" قادراً على إعادة تهيئة الأجواء والظروف التي عززت نجاحه:"كل يوم أشعر أنني دون المستوى المثالي". لطالب الدكتوراه فلسفته الخاصة عن الكمال، فمن جهة يعرف أن الكمال غاية لا تدرك: "إن الطبيعة الفوضوية لعالمنا تعني أن الكمال مؤقت لا يدوم أبداً، وحتى لو حققت الكمال للحظة إن كنت شخصاً مجداً، فسرعان ما ستطمح في إحراز أمرٍ آخر"، ومن جهة أخرى ينتقد نفسه على تقصيره: "لا يوجد أي مبرر. لو نمت لمدة ساعتين فإني أوبخ نفسي على عدم القدرة على العمل حتى لو كان دماغي يشعر بالتعب". من هنا يقاتل نيكول "المصاعب النفسية" لحب الكمال، ذلك الطبع الذي "كحلقة تدور لتعود من جديد وتؤنبك".أنواع الكمالية
تعتبر "روز شافران"، التي ساهمت في تأليف كتاب Overcoming Perfectionism أن نقد الذات سمة مميزة لحب الكمال، وغالباً ما ترصد "نقطة تحول" بين الطلاب كبدء الحياة الجامعية مثلاً: "فالمجال الدراسي يتغير، أو رد الفعل تجاه الفشل يتغير، فبالنسبة للكثيرين يبدأ الأمر بطريقة جيدة"، إلا أن هذه النظرية لا تحظى بإجماع الباحثين. فقد عمل "بول هيويت" في هذا المجال طوال 30 عاماً، وفي مقالٍ ورد في العام 1991، وضع مع زميله عالم النفس غوردون فليت 3 أنواع لحب الكمال هي: الكمال المطلوب اجتماعياً (الذي يظن المرء فيه أن الآخرين يطالبونه بالكمال)، الكمال الموجّه للآخر (الذي يطالب المرء فيه الآخرين أن يكونوا هم كاملين) والكمال الموجّه للنفس (يتطلب أن يكون المرء مثالياً). وعليه يرى "هيويت" أن حبّ الكمال هو "أسلوب للشخصية"، لكنه لا يوافق على نظرية أن المثابرة الواعية بامكانها أن تتحول إلى حب للمثالية: هذا ليس حباً للكمال، فهذان أمران مختلفان جداً. يدور الكمال حول محاولة تصحيح أو التعامل مع إحساس بعيب في الذات".أسباب انتشار حب الكمال وكيفية التغلب عليه
يصف "كوران"، رئيس فريق دراسة المثالية بجامعة باث حب الكمال، بـ"متلازمة الدجل"، والتي أصابته شخصياً، عازياً السبب إلى كونه ينحدر من بيئةٍ فقيرةٍ جداً، كما أنه يحمل المسؤولية للنيوليبرالية، شارحاً ذلك بالقول: "يتم التسويق لنوعٍ من التنافس دفع الشباب إلى التركيز على إنجازاتهم"، مضيفاً أن الشبكات الاجتماعية جعلت من كل شيء أمراً أدائياً يمكن تحسينه حتى الكمال. فالضغط الذي نضعه على أنفسنا، على حياتنا المهنية وأجسادنا هو حملٌ هائلٌ في هذا العالم العصري الذي تبرز فيه الحاجة إلى الظهور بشكلٍ مثالي والتحكم بمفاصل الحياة الواقعية والافتراضية. وفي ظل تنامي هذه الظاهرة، خاصة بين الطلاب الجامعيين، وضعت "جيسيكا بريور"، الأخصائية النفسية في جامعة "نورث واسترن"، بعض الخطوات التي يمكن اتباعها من أجل الحدّ من الهاجس بحب الكمال. -إدراك أن الكمالية وهم: يجب أن نتذكر دوماً أن الكمالية ليست ممكنة إذ لا يمكن تحقيقها، وبالتالي عوضاً عن لوم الذات على عدم القيام بشيء صحيح، يجب وضع هدف أكثر واقعي لتحقيقه. -التدرب على عدم الكمال: يجب إختبار الفشل الطفيف في بعض المواقف في الحياة والتحلي بالمرونة رغم الفشل. -التركيز على العملية أكثر من النتيجة: من الطبيعي للغاية بالنسبة للمتفوقين والأشخاص الذين يسعون إلى الكمالية، أن يركزوا على النتيجة النهائية بمعزل عن عدد الساعات والأيام والأسابيع والأشهر والسنوات التي قضوها للوصول إلى هذا الأداء النهائي، وهذا النمط من التفكير يمكن أن يؤثر سلباً على مسألة التحفيز، من هنا يجب تحويل الأهداف الكبرى إلى أهداف صغيرة يمكن تحقيقها. -الاحتفال بكل خطوة: يمكننا الاستمتاع بالإنجازات الصغيرة على طول الطريق، ويمكن القيام بذلك ببساطة عن طريق التواجد ذهنياً في اللحظة الحالية. -التوقف عن النقد الذاتي:ما نقوله لأنفسنا يتحول في نهاية المطاف إلى ما نعتقده عن أنفسنا، من هنا فإنه يجب التوقف عن انتقاد الذات بصورةٍ قاسيةٍ، من خلال التفكير بالجوانب الإيجابية في الحياة عوضاً عن تحليل العيوب.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 19 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...