إذا عدنا بالذاكرة إلى مرحلة الطفولة لوجدنا أن العالم كان محفِّزاً على الدوام: فقد كنّا نبدّل الصفوف كل عام، ونلتقي بأشخاصٍ جدد طوال الوقت، ونتعلم درساً ما في كل طلعة شمس، وفي الجامعة نخرج من شرنقتنا ونعتاد الاعتماد على أنفسنا، لندخل بعدها معترك العمل، حيث نحتفل بالحصول على أول وظيفةٍ بدوامٍ كامل، وعندها نظن أننا حققنا طموحنا ووصلنا إلى المكان الذي لطالما حلمنا به.
إلا أن هذا السيناريو لا يبقى "وردياً"، فالعمل في الخارج يعني بذل الكثير من الجهد والمثابرة، مع احتمال الوقوع في كثيرٍ من الأحيان في فخِّ الملل وفقدان الحماسة، خاصة في حال بقينا في نفس الوظيفة لفترةٍ طويلة، فعندها يتسلل الروتين إلى داخلنا، ونجد أنفسنا عالقين في مشهدٍ واحدٍ لا يتغيّر: التوجّه إلى المكان ذاته، التعامل مع نفس الأشخاص كل يوم، إنجاز المهام نفسها، أما بالنسبة للراتب، فمن المحتمل أن يبقى على حاله أيضاً، ما يزيد الأمور سوءاً...
العمل في الخارج يعني بذل الكثير من الجهد والمثابرة، مع احتمال الوقوع في كثيرٍ من الأحيان في فخِّ الملل وفقدان الحماسة، خاصة في حال بقينا في نفس الوظيفة لفترةٍ طويلة
ملل، ضجر، فقدان الحماس وقلّة الإلهام...في حال كنتم تشعرون بهذه الأمور وغيرها، اعلموا أنكم لستم وحدكم، إذ أن معظم الأشخاص يشعرون بفقدان متعة العمل في مرحلةٍ ما من مراحل حياتهم، رغم عشقهم الكبير لوظيفتهم.
تجارب شخصية
"عمري 28 عاماً وأتقاضى راتباً جيداً، لكنني أشعر بأنني عالقةٌ في وظيفةٍ لم تعد تهمني، لديّ طاقات أكبر بكثير من مجرّد ترتيب الملفات وإرسال الرسائل الإلكترونية والإجابة على الهاتف..."، هذا ما قالته زينة لرصيف22، معربةً عن امتعاضها من الروتين الذي يؤثر سلباً على أدائها المهني.
منذ حوالي 3 سنوات توظفت هذه الشابة اللبنانية في إحدى الشركات الرائدة في مجال السياحة والسفر، وشعرت يومها أنها حققت انتصاراً لا مثيل له: "الشغل كان كتير خفيف بالبلد وأنا بوقتا توظفت بمعاش ما كنت بحلم فيه"، غير أن هذه الحماسة سرعان ما تبدّدت مع مرور الوقت، وفق ما كشفته: "بالأول كنت كتير مبسوطة ومتحمّسة بس اليوم تغيّر الوضع، ما عادت المصاري هيي الأولوية بالنسبة إلي، صار بدي حسّ إني عم بعمل شي بيفيدني وبيرضي طموحي...لأنو ما في أبشع من إنو الشخص يروح كل يوم عالشغل من دون حماس وmotivation (حافز).
بدوره يعاني سعيد (اسم مستعار) منذ فترةٍ من قلّة الحماس والإلهام في العمل، رغم أنه يعشق مهنته كما يؤكد: "أنا درست صحافة وما بتخايل حالي بعرف إشتغل شي تاني بس في أوقات بكون راسي منشف متل ما بيقولوا، ولا فكرة بتيجي عبالي تاكتب عنها"، ويضيف لرصيف22: "شغلنا متعب وبدو كتير تركيز ورواق لحتى يطلع شغل حلو، ووضع البلد ما بيسمح للواحد حتى إنو يحلم...".
أما إدوارد الذي يعمل مهندس ديكور فقد كشف لرصيف22 أنه يمرّ ببعض الفترات التي يشعر بها بقلّة الإبداع والإلهام في العمل: "شغلي عحسابي وهون الصعوبة لأني بدّي إتكل على نفسي وحافظ على اسمي وإيام بقعد نهار كامل ما بيطلع بإيدي شغل...".
هذه عيّنة من الشباب الذين وجدوا أنفسهم عالقين في وظائفهم، وبغض النظر إذا كانوا يحبون مجالهم من الأساس، أو اختاروه على مضض بسبب فرص العمل المحدودة، فإن الروتين قاتل في حال لم يتمكن المرء من ابتكار طرقٍ للتغلب عليه.
مرحلة الركود
في مرحلةٍ ما، نشعر بفقدان الوحي وقلّة الإلهام في العمل، وبأننا لم نعد متحمسين لمشروعٍ لطالما عملنا جاهدين على تحقيقه، أو استسلمنا قبل إنهاء شيءٍ بقينا نؤجله لفترة طويلة، فنشعر وكأن هناك عقبة تحول دون إنجاز الأمر.
لا بأس بذلك، فالشعور بالملل هو جزءٌ لا مفرّ منه في العمل، وفق ما تؤكّده ليز فوسلين، التي اشتركت في تأليف كتاب No Hard Feelingsحيث تتناول فيه كيفية تأثير المشاعر على الحياة المهنية: "غالباً ما يفقد الأشخاصُ الدافع، لأنهم لم يعودوا يجدون أهميةً لعملهم".
بدورها، أكّدت مولي ويست دوفي، المؤلفة الثانية لـ No Hard Feeling أن فقدان شرارة الحماس قد يحدث في أيّ وقت: "ربما لا تدركون في بعض الأحيان أنكم في فترة الركود حتى يخبروكم بذلك".
وأضافت مولي في حديثها لصحيفة نيويورك تايمز: "أعتقد أن الأمر قد يتطوّر شيئاً فشيئاً، إنه أشبه بنظرية الضفدع المغلي، إذ يحدث التغيير في البداية ببطءٍ شديدٍ لدرجة أنه لا يثير انتباهكم".
في الحقيقة، إن الشعور بفقدان الإلهام والحافز يؤدي في بعض الأحيان- وإن لم يكن دائماً- إلى ما يعرف بـBurnout اي الاحتراق النفسي، أما الأعراض فغالباً ما تكون واضحة: الشعور بالملل عندما تؤدون وظيفتكم أو الشعور بأنكم عالقون في الروتين.
وقد يكون من الصعب في بعض الأحيان تحديد أو إدراك أنكم في حالة ركود، ولكن المسألة شائعة جداً، في إحدى الدراسات التي أجريت في العام 2018، وجد الباحثون أن واحداً من بين كل خمسة موظفين منخرطين بشدةٍ في أعمالهم معرّض لخطر الإصابة بالإرهاق.
ولكن ما هو السبب الكامن وراء فقدان الحماسة والإلهام في العمل؟
إن أحد أكثر المصادر شيوعاً وراء الحافز الضعيف في العمل هو ما أطلق عليه الباحثون في جامعة هارفارد مبدأ التقدم، والذي تقوم فكرته على أن إحراز التقدم في العمل هو "العامل الأكثر أهميةً في تعزيز عواطف ودوافع الفرد وتصوراته خلال يوم العمل".
وتعليقاً على هذه النقطة، قالت ليز فوسلين: "غالباً لا تشعرون بالحماس، لأن هدفكم كبير جداً"، مشيرةً إلى أن الحل يكون عن طريق تقسيم ذلك الهدف إلى أهدافٍ صغيرةٍ، "مثل ما الذي ستفعلونه اليوم، وتستطيعون تحقيقه في نهاية اليوم؟".
إحراز التقدم في العمل هو "العامل الأكثر أهميةً في تعزيز عواطف ودوافع الفرد وتصوراته خلال يوم العمل"
وأشارت فوسلين إلى أنه حتى الخطوات البسيطة من عملية التقدم، مثل إرسال بريد إلكتروني كنتم تعتزمون كتابته منذ فترةٍ، من شأنها المساهمة في جعلكم تشعرون بالإنجاز، ما قد يعزز من دوافعكم العامة، كما أن التركيز على علاقاتكم، بدلاً من العمل الفعلي، يذكركم دوماً بالتأثير الذي لديكم: "دوّنوا مدى تأثير عملكم على الأشخاص في الشركة التي تعملون بها، فليس هناك دائماً تأثير خارجي، ولكن يوجد تأثير داخلي"، على حدّ قولها.
وعليه وجدت ليز أن إحدى الطرق التي من شأنها تعزيز الإلهام هي أخذ فترة راحة أثناء اليوم، وتدوين ثلاث طرق ساعدتم من خلالها زملاءكم، إذ أن ذلك من شأنه أن يذكّركم بأنه حتى لو كنت تتعاملون دون وجود دافع، فلا يزال بإمكانكم مساعدة من حولكم.
ولكن عندما تفشل كل تلك الأساليب لا بدّ من العودة إلى استراتيجيةٍ مجرّبة وواقعية: أخذ إجازة لبعض الوقت بعيداً عن الوظيفة وهمومها.
وفي هذا الصدد قالت مولي ويست دوفي: "غالباً ما يكون العمل سلبياً لأنكم تعملون كثيراً وتجهدون قدراتكم النفسية...تذكروا أن العمل لا يحدد هويتكم، إنما هو جزء منكم فقط".
خطوات عملية
عندما تشعرون أنكم في حالة ركود يمكنكم ببساطة تجاهل مشاعركم، على أمل أن تمرّ هذه الفترة بسرعة، أو أن تسألوا أنفسكم: "ما الذي يمكنني فعله حيال هذا الموقف؟ وبالتالي التفكير في خطواتٍ عمليةٍ لمساعدتكم على الخروج من دائرة الروتين واستعادة الحماسة في العمل، ومن بين هذه الخطوات:
-كونوا حقيقيين مع أنفسكم: قال ستيف جوبز، مؤسسة شركة آبل الأميركية: "عندما كنت صغيراً قرأت حكمة تقول: إنْ عشت كل يوم كما لو أنه آخر يوم في حياتك، فمن المؤكد أنك ستقوم بعملك بشكلٍ جيد. ومنذ 33 عاماً وأنا أنظر في المرآة صباحاً وأسأل نفسي: لو كان اليوم هو آخر يوم في حياتي، هل كنت سأقوم بما سأقوم به اليوم؟ وعندما يكون الجواب كلا، أعرف أنه عليّ تغيير شيءٍ ما في برنامجي اليومي"، وبالتالي من المهم أن يكون المرء صادقاً وحقيقياً مع نفسه ويعمل باستمرار على كسر الروتين وتطوير قدراته.
-ابتعدوا عن الأفكار السلبية: تتحول معتقداتكم إلى أفكار وتصبح أفكاركم كلمات وكلماتكم تُترجم إلى أفعال، وعليه عندما تعتقدون أن هناك أمراً مستحيلاً قوموا على الفور بتغيير طريقة تفكيركم، واطرحوا على أنفسكم السؤال التالي: هل تدفعني أفكاري إلى الأمام أم تبقيني عالق/ة في مكاني؟ من هنا أوضح موقع فوربس أنه في حال كنتم تشعرون بالملل من وظيفةٍ لطالما احببتموها، فهذا يعني أنه يجب عليكم أنتم أن تتغيروا وليس الوظيفة نفسها، وعليه عندما تنظرون إلى الأمور بإيجابيةٍ فعندها ستظهر الجوانب الممتعة في العمل، وتذكروا دوماً السبب الأساسي الذي جعلكم تختارون هذه الوظيفة دون سواها.
-التركيز على الأشياء الصغيرة التي يمكنكم القيام بها: إن التغييرات الصغيرة يمكنها أن تحدث فرقاً كبيراً، وبالتالي عندما تشعرون بالإحباط فإن مجرّد القيام بخطوةٍ صغيرةٍ قد تحفزكم للقيام بخطواتٍ أكبر في المستقبل.
-الذهاب إلى مكانٍ أبعد: عندما تصابون بالملل في العمل، لا تفكروا فوراً في الاستقالة بل حاولوا التفكير في كيفية دفع عجلة العمل نحو الأمام، من خلال الاستفادة من جميع الموارد المحيطة بكم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...