شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
شوارع طاردة للأطفال... لماذا تراجعت الألعاب الشعبية في حواري القاهرة؟

شوارع طاردة للأطفال... لماذا تراجعت الألعاب الشعبية في حواري القاهرة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 11 مايو 202202:08 م

حارة ضيّقة ننطلق منها إلى شارع عريض، حفظ حباتِ ترابه وقعُ خطواتنا، التي تعزف لحن البراءة كل يوم في ساعات العصر المنعشة شتاءً أو الليالى المقمرة صيفاً. هذه الحارة كانت شاهدة على ساعات لعبنا الطويلة التي لم يشِبْها خوف أو قلق.

كهربا، استغماية، الحجلة أو الأولى، البلي والقال، تريك تراك أو المضرب والعصفور، ثبت صنم وكيلو بامية، السيجا وفتحي ياوردة قفلي يا وردة... كلمات لا يعرفها من ولدوا بعد صرعة الآيباد والموبايل، إذ ساهمت التغيرات التي طرأت على تركيبة الشوارع المصرية والتطورات التكنولوجية في حرمان الصغار من متعة اللعب في الشارع.

دعاء صبحي عيد، مقدمة برامج إذاعية، تخطى عمرها 45 عاماً، تفوح رائحة الحنين من ابتسامتها وهي تحكي لرصيف22 عن سنوات طفولتها: "لم أكن طفلة شقية، كنت محظوظة بنشأتي في حي شعبي بمدينة بنها بمحافظة القليوبية. فيه تفتح وعيي على الحياة، وارتبطت بالناس وأحببت اللعب مع أبناء الجيران. فقد كان اللعب على سلم العمارة طقساً يومياً يعطي المكان حياة وروحاً، عكس ما تتسم به بنايات اليوم".

الليم، الحجلة، الأولى، كلها أسماء لنفس اللعبة، التي تتذكر دعاء مهارتها فيها. تقول: "الليم كانت لعبتي المفضلة. كنا نرسم بالطباشير على الأرض مربعات بشكل معين، ونقفز فوقها بقدم واحدة لننقل طبّة صغيرة (قطعة حجر) نسميها شقفة، نحركها من مربع لآخر باستخدام قدم واحدة. وعلى الرغم من استمتاعنا كان الأهل يعارضون لعبنا بها لأنها تجلب الفقر، لكننا لم نكن نهتم".

تتحسر مي، أنه في ظل عدم قدرتها على تحمل تكلفة الاشتراك في أحد النوادي، التي تبدأ تكلفة اشتراكها من مبلغ يصل إلى ضعف راتبها لمدة عام كامل، باتت الأم الشابة لا تملك لتسلية أطفالها غير شاشات الموبايل والتلفزيون

فقدت دعاء والدها وهي في الصف السادس الابتدائي، لكنها تجزم أنها عاشت طفولة سعيدة جداَ، تبتهج ملامحها كلما تذكرت تفاصيلها رغم مرور السنوات، مؤكدة أنها كانت أجمل أيام العمر.

تلك التفاصيل البسيطة التي تحاول دعاء، رغم اختلاف الزمان والمكان، أن تمنح ابنها الصغير الفرصة لصنعها، فتتركه يلعب أمام العمارة أو في ساحة المسجد بحي الرحاب في القاهرة، ليقع بلا تدخل منها، في حب الألعاب الجماعية في الشارع، وينفر من الألعاب الإلكترونية، ما سبب لها فرحة كبيرة، "هذا النوع من اللعب يمنحه فرصة مثالية لاكتشاف قدراته واكتساب مهارات اجتماعية مختلفة لن تمنحها له شاشة التليفون".

ثبِّت صَنَم

محمود عبدالحكيم، الصحافي في أحد المواقع الإخبارية المحلية، يحكي لرصيف22 عن طفولته التي قضاها في حي ميت عقبة بالقاهرة: "كنت ابن الأحياء الشعبية، أعشق اللعب في الشارع مع الأصدقاء، لم أترك لعبة شعبية إلا ولعبتها، صيادو السمك والبلي والنحل والسبع طوبات، ومتثبت التي تعرف في مناطق أخرى باسم ثبِّت صنم، وهي لعبة تشبه الاستغماية".

طلبت من محمود أن يوضح الفرق بينهما فقال: "في الاستغمايه كان لازم اللي بيستغمى يجري ورا الهربان منه لحد ما يمسكه، قبل ما يروح لباب الدكان اللي بنغمي عنينا عنده. لكن متثبت مجرد بس ما يلمحه من بعيد يقول بصوت عالي متثبت، كده يبقى خسر. كان فيها كر وفر وحذر وتفكير في المكان المناسب اللي يكون قريب من مكان انطلاق اللعبة، بس ما يخطرش على بال اللي بيدور واللي بيكون مغمض عنيه لحد ما كل اللاعبين يستخبوا ويبدأ يجري يدور في كل مكان، والشاطر اللي يرجع لنقطة الانطلاق من غير ما حد يلمحه عشان مايخسرش".

أستاذ في التربية الرياضية: الألعاب الشعبية تساهم في تنمية مهارات الطفل الإدراكية، وتنمي حواسه وتساعده على الاختلاط بالمجتمع والتكيف معه، خلافاً لما هو سائد حالياً من توحد الطفل مع الشاشات الإلكترونية التي تعزله عن العالم الواقعي، وتؤثر سلباً على أجهزة جسمه

يرى عبدالحكيم أنه وجيله أسعد حظاً من أطفال الجيل الحالي. يقول: "ظلمتهم التكنولوجيا، وجعلتهم منفصلين نفسياً عن المحيط لأنهم لا يمتلكون رفاهية اللعب في الشارع". أيدته مي نجم الدين، المهندسة المعمارية البالغة من العمر 37 سنة، والتي باتت أماً لتوأمين يبلغ عمرهما ثماني سنوات. تقول لرصيف22 إن فكرة لعب أطفالها في الشارع "مرفوضة ومستحيلة التنفيذ"، وتفسر ذلك: "الزمن تغير كثيراً، حتى الشارع نفسه اختفى والزحام أصبح طاغياً ومرعباً، وعبوري الشارع بأطفالي مهمة ثقيلة على قلبي، وفكرة أن يترك أحدهم يدي ويختفي فجأة لأي سبب تثير رعبي دائماً. لذلك أشعر دوماً أن حظي أحسن من حظهم بكثير. فقد نشأت بحي الهرم بمحافظة الجيزة، كان كل سكان العمارة أهلاً، نقضي أوقاتاً طويلة معاً، عائلات أو أطفالاً، كنا نجتمع أنا وبنات العمارة لنلعب بعرائسنا على السلالم. أو نركب العجل في الشارع ونلعب كهربا واستغماية دون أن يخشي علينا الأهل من خطف أو تحرش. الآن للأسف الشديد لا أعرف اي أحد من سكان العمارة التي أقطنها ولا هم يعرفونني. ولا أطمئن لأن يلعب أطفالي نفس الألعاب في ظل انتشار حالات الخطف والتحرش بالأطفال".

"كهربا وشد الكُبس"

سألت مي عن أكثر ألعاب الطفولة متعة بالنسبة لها، فقالت بمرح كما لو أنها عادت طفلة من جديد: "كنا بنعمل فريقين، فريق يجري وفريق يحاول يمسكه. وأول ما يجي حد يقرب جدا من الفريق المنافس ويحاول يمسك حد؛ اللاعب يقف ويقول كهربا، ويفضل واقف مكانه لحد ما يجي واحد من فريقه يراوغ ويحاول يلمسه ويقول شد الكبس (يبقي كده تحرر) ونفضل كده لغاية ما الفريق المنافس يقدر يمسك أكبر عدد ونخسر ونبدل الأدوار". تتحسر مي لعدم قدرتها على تحمل تكلفة الاشتراك في أحد النوادي الاجتماعية والرياضية إذ تبلغ ضعفي راتبها لمدة عام كامل. باتت الأم الشابة لا تملك وسائل لتسلية أطفالها غير شاشات الموبايل والتلفزيون.

الألعاب الشعبية تحمي من الأمراض

لكن جلوس الأطفال لساعات طويلة أمام الشاشات يعرضهم لخطر الإصابة بأمراض مختلفة، على العكس من ممارسة الألعاب الشعبية كما أكد الدكتور كمال زكي، أستاذ بكلية التربية الرياضية، بجامعة الزقازيق، لرصيف22: "الألعاب الشعبية تلعب دوراً مهماً في تشكيل الطفل جسدياً ونفسياً وسلوكياً. واختفاؤها بسبب العديد من العوامل، أثر بشكل سلبي على النشء. فالألعاب الشعبية المختلفة تساهم في تنمية مهارات الطفل الإدراكية، وتحفز نشاطه الذهني وتنمي حواسه وتساعده على الاختلاط بالمجتمع والتكيف معه من خلال مشاركة أقرانه واحتكاكه بمحيطه، خلافاً لما هو سائد حالياً من توحد الطفل مع الشاشات الإلكترونية التي تعزله عن العالم الواقعي، وتؤثر سلباً على أجهزة جسمه".

لذلك يطالب زكي المؤسسات القائمة على الرياضة والتعليم بضرورة تطوير تلك الألعاب الشعبية وإعادتها للحياة، وإدراجها في النظام التعليمي بشكل أو بآخر، وتخصيص مسابقات لها في مراكز الشباب، مضيفاً: "بما أن اللعب في الشارع أصبح أمراً مستحيلاً، والاشتراك في الأندية الرياضية بات أمراً يرهق ميزانية الأسر المصرية ويعد رفاهية لا يقدر عليها الكثيرين؛ فمن الضروري توفير المساحة الآمنة للأطفال للعب، سواء في المدارس أو مراكز الشباب، لأن الاشتراك في النوادي أصبح عبئاً لا تقدر عليه أغلب الأسر المصرية".

مراكز لا تفي بالغرض

على الرغم من الاهتمام بالمنشآت الرياضية خلال السنوات الأخيرة ووصول عدد مراكز الشباب في المدن والقري المصرية إلى نحو 4500 بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، الصادر في نهاية عام 2021، فإن هذه المراكز تتيح فرص المشاركة سنويا لـ13 مليون شاب وشابة، وطفل وطفلة. وهي نسبة ليست بالكبيرة إذا ما عرفنا أن عدد الأطفال في مصر دون سن 18 سنة قد بلغ 41 مليوناً وفقاً لأحدث بيان حكومي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard