شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
صناعة المداهنة... تاريخ التصفيق في الفن والسياسة

صناعة المداهنة... تاريخ التصفيق في الفن والسياسة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 26 أبريل 202207:18 م
تعرف المعاجم العربية "المداهنة" باعتبارها فعلاً للتلون والخداع: داهن المسؤول، أي "لاينه" وتعمد المداراة، وترك إنكار المنكر إجلالاً لصاحبه وتقرباً منه. 

والمداهِن هو من يظهر خلاف ما يُضمر للخداع والغش، وهذه تحديداً وظيفة "المصقفاتية" و"الهتيفة" المأجورين، الذين يشيعون صورة من القبول الزائف ويروجونها بين الناس حتى يضللوا وعيهم ويدفعوهم لقبول ما يضر بمصالحهم وهم غير عالمين. 

لا يعرف على وجه التحديد من سبق الآخر في توظيف التصفيق سياسياً، هل كان المصريون أم اليونانيون "الإغريق" هم أول من صنع هذا التحول

من إيقاع إلى نفاق وعبادة 

في دراسته "لماذا يصفق المصريون؟" الصادرة عن دار العين في العام 2010، ناقش الدكتور عماد عبداللطيف - أستاذ تحليل الخطاب والبلاغة بجامعة القاهرة- تاريخ التصفيق في مصر منذ فترات مصر القديمة (عصور ما قبل الأسرات وما تلاها)، وتطور فعل التصفيق من تعبير إيقاعي موسيقي إلى فعل يستهدف إعلان الاستحسان، تمهيداً لاستخدامه سياسياً لإعلان الاتفاق أو الإعجاب. 

لا يعرف على وجه التحديد من سبق الآخر في توظيف التصفيق سياسياً، هل كان المصريون أم اليونانيون "الإغريق" هم أول من صنع هذا التحول. 

في دراسته يشير عبداللطيف إلى تحول التصفيق عند الإغريق من فعل غرضه مشاركة الأفراح والعبادات إلى فعل للتعبير عن الرأي. في البداية، صاحب التصفيق العروض المسرحية للتعبير عن الاستحسان وإظهار الإعجاب، ولأن الديمقراطية والتصويت بدآ عند اليونان، استعان النبلاء (البرلمانيون) بالهتيفة الذين كان دورهم – قبل السياسة- إشعال الحماس في مدرجات المسابقات الرياضية، ليصبح دورهم حشد التأييد والاستحسان لقرارات الساسة، فانتقل التصفيق للاستحسان من المسرح إلى ساحات. وربما كان اليونانيون هم أقدم الشعوب التي عرفت المصفِّق المأجور، الذي يحصل على مقابل مادي عن التصفيق المتحمس، فكان بعض المؤلفين المسرحيين الذين يعرضون مسرحياتهم على مسرح "ديونيسيوس" يؤجرون مجموعات من الجماهير للتصفيق أمام لجان تحكيم المسابقات، فتصفيق الجمهور مقياس نجاح العمل وله تأثير إيجابي.

ماذا لو قابل الجمهور إعلان قرارات السادات باعتقال معارضيه عام 1981 بالتشويش والمقاطعة بدلاً من التصفيق؟

الرومانيون أخذوا مسألة التصفيق بجدية أكبر، ويشاع أن نيرون (37-68 م)، الملقب بالإمبراطور الكريه، افتتح مدرسة تخصصت في تعليم التصفيق ألحق بها نحو خمسة آلاف فارس وجندي من الجيش، حتى يصفقوا له على النحو الذي يرضيه بعد الاستماع إلى عزفه في حفلاته الموسيقية. 

في القرن الرابع الميلادي وانتهاء عصر الشهداء واستقرار الكنائس وازدهارها، أصبح التصفيق ضمن الطقوس الكنسية، إلى جانب بقائه طقساً مبهجاً يعبر عن السعادة في الأفراح والمناسبات، وعن استحسان الجمهور للخطباء والوعاظ.

وفي الإسلام، استخدم التصفيق قبل البعثة المحمدية ضمن طقوس الحج الوثنية. ثم استخدم دعائياً وسياسياً كأداة للتشويش على المحاولات العلنية للدعوة. مع استقرار دولة الدين الجديد وانتصارها، لم تكن بحاجة إلى التصفيق لوجود أشكال أخرى أكثر تعقيداً من المداهنة للحكام وكسب حظوتهم، من مدح القرارات من دون نقاش وإلقاء الشعر أو دس الأحاديث النبوية التي تشيد بآبائهم وقبائلهم، وأصبح التصفيق فعل عبادة، إذ بات يستخدم في تنظيم الإيقاع للتعبد في حلقات الذكر الصوفية. 

والتصفيق ممارسة ثقافية، وطقس تواصلي لكثير من أشكال التواصل الجماهيري في الوقت الراهن، وتحول إلى عرف مستقر. ففي سياق الخطب الرئاسية يلتزم الحضور التصفيق مراراً ومطولاً.

التصفيق والحرية

في دراسته عن التصفيق وأنواعه وتحليله، ووظائفه ودوره في المجتمع المصري، يبحث أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب في الأبعاد الاجتماعية والسيكولوجية لدى الجماهير، ودور التصفيق في ترسيخ السلطة القائمة، سياسية كانت أو أكاديمية أو فنية، وكيف يتحول التصفيق احياناً من وسيلة للمداهنة إلى أداة لمقاومة السلطة.

يرصد عبداللطيف في كتابه أن هناك طرقاً للاستحواذ على إعجاب المصريين وإشعال حماستهم وكسب رضاهم وتأييدهم أثناء التواصل الجماهيري، وأن التصفيق يستخدم كأداة للتوجيه عبر خداع الجماهير والتلاعب بهم وتضليلهم، من خلال الدور الذي يمارسه "المصفقاتية والهتيفة"، الذين يكونون عادة إما مأجورين أو مقهورين، يتلقون أوامر بـ"التصفيق القسري".

يقول عبداللطيف: "التصفيق معيار وازن للتواصل أثناء الخطابة السياسية"، باعتباره أشهر أشكال التواصل السياسي، وأكثرها انتشاراً وتأثيراً في المجتمع المصري. ويستعرض الأساليب التي استخدمها أربعة رؤساء مصريين، ليس من ضمنهم الرئيس الحالي، في استجداء تصفيق الجمهور، و"الفخاخ التي استخدموها لاصطياده"، مولياً اهتماماً لتنازع التصفيق بين سلطتي الجمهور والسياسيين، وعلاقته بالخطاب السياسي.

في الخمسينيات والستينيات صفق الجمهور المصري للوحدة والقومية العربية وإغراق إسرائيل في البحر وعدم الإنحياز، وفي السبعينيات والثمانينيات صفقوا للقومية المصرية والسلام مع إسرائيل ولكيسنجر وكارتر ونيكسون

في الخمسينيات والستينيات صفق الجمهور المصري للوحدة والقومية العربية وإغراق إسرائيل في البحر وعدم الإنحياز، وفي السبعينيات والثمانينيات صفقوا للقومية المصرية والصلح والسلام ولكيسنجر وكارتر ونيكسون.

ثقافة القطيع

يشير عبداللطيف في كتابه إلى مقال للشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي – لم نتمكن من العثور على أصله بشكل مستقل- يتهم فيه الأبنودي أهل الفن في عصره بتأجير "مصقفاتية" يستحسنون أداءهم في الحفلات الموسيقية، وظلت ظاهرة تأجير المصفقين في ساحة الفن والإعلام تتعملق في مصر وامتدت إلى البرامج الحوارية، إذ شاع عن إعلاميين كبار، أبرزهم هالة سرحان، الاستعانة بجمهور يتلقى بدلاً زهيداً، يتلخص دوره في التهليل والتصفيق والرقص حسب إشارات متفق عليها من المذيع أو طاقم الإخراج، لإضفاء حالة كاذبة من الجماهيرية والنجاح على أداء مقدم البرنامج وضيوفه.

تلك الحالة من صناعة الجماهيرية عبر التصفيق المأجور أو المخلِص لم تكن حكراً على الفن والإعلام، كما لم تكن من ابتكاره، فالتصفيق من أجل إضفاء الجماهيرية على صاحب السياسة المصرية خلال الفترة التي سبقت ثورة 1919، وتحديداً مع ميلاد الحياة النيابية المصرية وميلاد حق الانتخاب والتصويت، إذ شهدت حشود المؤتمرات الانتخابية للتصويت في البرلمان المصري الذي كان عماده البكوات والبشوات تصفيقًا من الجماهير، ثم قابلت تلك الجماهير خطب الزعيم سعد زغلول ورفاقه بالتصفيق المدوي في إعلان جماهيري للمقاومة ورفض سياسات القصر والاحتلال، ليشكل التصفيق أداة مقاومة واحتجاج سياسي. 

وتفرق الدراسة بين نوعين من التصفيق، أولهما سياسي، وينقسم لتصفيق حر وإجباري، وينتشر بالدول الديمقراطية إمتناناً وحباً ورضاءً وإعجاباً تجاه الشخص المصفَّق له، والنوع الآخر يسود في دول الاستبداد البوليسية، ويعبر عن الارتعاب من المصفق له، أو محاولة ادعاء الولاء له خوفاً أو طمعاً.

تذكر الدراسة أن متوسط زمن التصفيق في الخطب السياسية المصرية لا يختلف كثيرًا عن الخطب السياسية البريطانية، فصفق الجمهور خلال خطبة عبد الناصر بجامعة القاهرة عام 1966، 31 مرة.

وبلغ متوسط زمن التصفيقة الواحدة ثماني ثوان، وخلال خطبة السادات 17 أكتوبر/ تشرين الثاني عام 1973، وهي خطبته الجماهيرية الأولى عقب حرب تحرير سيناء، صفق الجمهور 30 مرة، وبلغ متوسط زمن التصفيقة الواحدة تسع ثوان، وفي خطبة السادات عام 1977 التي أعلن خلالها مبادرة الذهاب إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة (إسرائيل)، صفق الجمهور 41 مرة بمتوسط زمن للتصفيقة الواحدة من سبع إلى ثماني ثوان.



ويرتبط التصفيق للخطب السياسية بظواهر متكررة، منها سماع آيات قرآنية وشعارات دينية، كخطاب الساداتغي أيلول/ سبتمبر 1981  الذي أعلن فيه التحفظ على بعض الشخصيات السياسية وخلع البابا شنودة الثالث، ارتفع تصفيق الجمهور بشدة عندما اختتم رئيس "دولة العلم والإيمان" خطابه بالآية الكريمة "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين". 

وتكررت الحالة نفسها بعد خطبته في مجلس الشعب عام 1972 لتهدئة الرأي العام الغاضب من تأخر الحرب، إذ صفق له النواب بشدة بعد قراءته لآية "وما النصر إلا من عند الله".

وكشف الكتاب أن الجمهور يصفق في خطب الرؤساء عندما يتحدث الحاكم عن إنجازاته، كخطبة السادات عام 1973، إذ دوى التصفيق بعد قوله "لقد عاهدتكم وعاهدت الله وحاولت مخلصاً أن أفي بالعهد" وحديثه عن تضحياته: "شاركت عبدالناصر عملية بناء القوات المسلحة، ثم شاءت لي الأقدار تحمل المسؤولية كلها"، وعلا التصفيق خلال خطبة الرئيس مبارك بمناسبة عيد الشرطة عان 2009 قائلاً: "إنني بحكم مسؤوليتي كرئيس للجمهورية أقوم بالتقدير الدقيق للموقف قبل إتخاذ أي قرار".

كما يصفقون لما يعتبر قرارات إيجابية، كخطبة السادات في عيد العمال عام 1974، عندما أعلن عن "قرارات صارمة لمحاربة زيادة الأسعار"، تكرر ذلك عندما أعلن الرئيس مبارك في خطابه أمام الحزب الوطني عام 2008 عن إتاحة المزيد من الأراضي للبناء، للحد من ظاهرة العشوائيات، وهو ما بدأت بعده قرارات احتكار الدولة للأراضي وإتاحتها حصراً لرجال الأعمال من أعضاء الحزب ومواليه.

ارتبط التصفيق للرؤساء أحياناً باستخدام عبارات مأثورة وحِكَم، مع تغييرها وتطويعها لخدمة أغراض الحاكم الدعائية، كخطاب السادات "قلت للإسرائيليين العين بالعين والسن بالسن والعمق بالعمق"، وقوله "أستطيع القول إن هذا الوطن يستطيع أن يطمئن ويأمن بعد خوف، أنه أصبح له درع وسيف".

ماذا لو...؟

ماذا لو قابل الجمهور إعلان قرارات السادات باعتقال معارضيه (مراكز القوى) عام 1981 بالتشويش والمقاطعة بدل التصفيق؟ هل كان الجمهور المشكل من نخبة سياسية خاصة قادراً على عرقلة قراراته اللاحقة التي كان من شأنها فتح المجال للعنف الإسلامي المسلح والقضاء كلياً على الأصوات المعارضة واتخاذ قرارات سياسية مصيرية مرفوضة شعبياً والتأسيس الدستوري لحكم "الجمهورية" مدى الحياة؟ 

يمكننا وضع سؤال "ماذا لو؟" أمام كثير من القرارات السياسية اللاحقة لمن حكموا مصر بعد السادات علانية أو من وراء ستار، لنعرف كيف كان يمكن أن يختلف مصير البلاد، فقط لو أن من أوكل إليهم التصفيق خوفاً أو طمعاً اختاروا ألا يصفقوا. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image