في مجتمعات عربيّة تضجّ بالاتجاهات الدينيّة المتنوّعة والمتجذّرة بسرديّاتها التاريخيّة القارّة، ليس بالهيّن على من يلهج بعكس ما له علاقة بالغيب والخوارق والمعجزات والحتميّات أن يشهر رفضه لها جميعها، أو أن يعلن عن اتجاهه العَقَدي على أقلّ تقدير، من دون استخدام لفظ "رفض"، لما قد يكون له من دلالات مسيئة للآخر، وإن كان هذا الاتجاه المغاير يستبطن دلالة عدم القبول والإذعان لنقيضه في الاتجاه الأول.
ليس مصادفة أن ترد لفظة "تضجّ" في المقدمة، إذ إنّ العقيدة الدينيّة لأيّ جماعة لا تبقى في حيّز الإيمان الفردي/ أو الجمعيّ، بما هو ممارسة خاصة في علاقة الفرد بقوة عليا وسلوك اجتماعي يحظى بقبول الجماعة حيث ينتمي الفرد، بل ثمة تجييش قوي لوسائل الإعلام، إمّا للتبشير لجذب مؤمنين محتملين إلى عقيدة دون سواها، وإمّا للإبقاء على جذوة إيمان بدأت تخبو مع تطوّر الزمن وعلومه ومدارك الإنسان وفق تصوّرات العصر.
إزاء أيّ أزمة خارجيّة، تلجأ الجماعة إلى مآويها الداخليّة، والدين - والحال هذه- أقدر على الحماية والتسوير من مخاطر حقيقيّة أو متوهّمة، طبعاً من وجهة نظر هذه الجماعة التي تتوسّل العقيدة الإيمانيّة للمّ شمل أفرادها بادّعاء حمايتهم، والأغلب الأعمّ للإبقاء على امتيازات سلطة تحظى بها طبقة تجاه رعيّتها.
هذه السطور تحيلني إلى واقعة وردت في رواية "بيريتوس مدينة تحت الأرض" لربيع جابر، حيث إنّ حرّاس المدينة الجوّانيّة، المطمورة والمغيّبة تحت بيروت البرّانيّة، يحمون سكانها من "ناس الوحل" الذين لم يرهم أحد، وهكذا يبقون داخل الأسوار فلا يرون السماء، ولا يخرجون أو يفكّرون بالخروج إلى الشمس والنور.
نظرية الرهان
من أسوأ ما نسمع من محاولات جذب أو إقناع، أو فلنصنّفها في أي خانة نشاء، نظرية الرهان، وقد سمعت بها على مقاعد الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية. قوامها وفق مزاعم من طرحها أو نقلها، أن تراهن على وجود إله للكون، وعلى يوم دينونة تالياً، وتعمل وفق هذا الرهان. فإن صحّ وجاء يوم الوعد كسبتَ رهانك، وإن لم يحدث فلن تكون خاسراً، فأنت رابح نفسك في الحالتين كلتيهما. للقارئ أن يتبيّن سخف هذا الطرح وإفلاس قائله، وهو لا يرضي المؤمن بقدر ما ينفّر اللاديني منه، لما يتضمّنه من شك في الحالتين.
لا يبتعد عن ضحالة هذا الطرح ما جاء من حوار مزعوم في كتاب مصطفى محمود "حوار مع صديقي الملحد"، وهو محاكاة -أراها هزيلة- لمحاورات سقراط. وستكتفي هذه السطور بالمحاججة في فصل "معنى الدين" من وجهة نظر صاحب الكتاب. يفرّق فيه بين الدين ومقتضياته؛ بوصف المقتضيات أنها حسن السلوك ومعاملة الإخوان بالحسنى. أما الدين فهو معرفة الله والمعاملة الخاصة بين الإنسان/العبد وخالقه سجوداً وخشوعاً...
ويرجع الكاتب حسن السير إلى الكياسة والفطنة لا إلى الدين، ويرى أن السلوك الكيّس ذريعة لكسب الناس والدنيا فحسب، وهذه طباع غالبية "الكفّار"... وفي تصوّر "صديقه الملحد" لقوّة ما غير مفهومة وراء الكون بوصفها قوّة كهرومغناطيسيّة عمياء تسوقه في عبثيّة، يردّ عليه مفنّداً حجته بالقول إنّه "الكافر بعينه"!
"إن كان الأنبياء يأتون بمثل ما يمليه العقل علينا، فليس لنبوّتهم ضرورة، إذ تغنينا قدرة العقل عنهم، وإن كانوا قد أتوا بما ينافي ما يمليه هذا العقل فعلينا ترك ما أمرونا به"ابن الراوندي
لا يعنينا تقييم الأسلوب بقدر ما يعنينا ردّ السؤال: الكفر ههنا بالنسبة لمن، ولأي معتقد يا صديقي؟ وهل الملحد يعبأ بمعجميّة وبدلالات لا تخصّ سوى الدينيّين؟ لا غرو أنّ التباين في الرؤى يطرح مسألة النسبيّة، وإشكاليّة إطلاق التسميات، وغالباً ما تأتي إجابة الواقع لصالح الفئة الأقوى، المهيمنة والقاهرة لإرادة المختلف.
متعة البحث لإيجاد معنى لحياتنا
الشك ليس حديث العهد بالفكر الإنساني، وبسبب هشاشته، يتنازعه شعوران، نزوع باتجاه الطمأنينة التي تمنحها السرديّات الدينيّة بما تقدّمه من معارف جاهزة، وتصوّرات تفاؤليّة بسعادة مرجوّة، وخلاص نهائي وفوز حتمي؛ وفي الوقت نفسه يبقى الفكر قلقاً لا يستكين إزاء ما لا يتقبّله من التباس وتشوّش في علاقة الإنسان بالعالم. فهل يلجأ العربي إلى التقيّة في مجتمع متشدّد، ليظهر عكس ما يُبطن، أم يمتلك جرأة أسلافه، أمثال أبي العلاء المعرّي وابن الراوندي، على سبيل المثال لا الحصر؟
اشتهر عن الأوّل قوله: "اثنان في الأرض ذو عقل بلا دين وآخر ديّن لا عقل له"، كما أنّه يقول: "في كل جيل أباطيل يدان بها فهل تفرّد يوماً بالهدى جيل؟". أمّا الآخر، أي ابن الراوندي، فيقول: "إن كان الأنبياء يأتون بمثل ما يمليه العقل علينا، فليس لنبوّتهم ضرورة، إذ تغنينا قدرة العقل عنهم، وإن كانوا قد أتوا بما ينافي ما يمليه هذا العقل فعلينا ترك ما أمرونا به".
يسلّم ريتشارد نورمان بالهشاشة الإنسانية في كتابه "عن المذهب الإنساني"، ويرى أنّ النزعة الإنسانية ليست بالضرورة نظرة مأساويّة للعالم، لكنّها تعترف بإمكانيّة المأساة ووقوعها. وكما لا توجد ضمانات مقدّمة وفق خطّة إلهيّة بأن يكون كل شيء في صورة حسنة، فلا يوجد أيضاً ضمانات في الطبيعة الإنسانيّة بأننا سنكون، بإمكاناتنا ومصادرنا، قادرين على خلق عالم مثالي.
ويدفع الكاتب تهمة عدم اتّسام النزعة الإنسانيّة بالعمق، مرجعاً هذه المواقف إلى محدّدات عقلانية علمية تزعم تفسير كل شيء، ولا تتيح مجالاً لمعاني الغموض والسرّ والعمق، وهذه الأخيرة حاجة ماسّة لدى الإنسان، وبالمثل هي دعاوى الديانات بأنّ لديها كلّ الإجابات عن كلّ التساؤلات، مع اتخاذها الطابع المؤسّسي.
يفصح نورمان عن أشياء وممارسات تعلو بالروح وترقى بالإنسان في ردّه على الزعم بأنّ الحياة بدون روحانية دينيّة هي حياة موحشة وقاحلة. تلك التي على غرار تحقيق الإنجاز الخلاق، أو ما يدعوه بأنشطة "فعاليات الفراغ"، وإثارة الكشف ومتعته، باستهداف المعرفة لذاتها، وبإقامة علاقات مع الآخرين والتعرّف بالاختلافات والهموم/ الاهتمامات المشتركة، واختبار العواطف والوجدانيات، بشقّيها الإيجابي والسلبي، لإثراء الحياة وتعميقها (مثل مشاعر الحب والفرح والشك والخوف والغضب والنفور...)، فضلاً عن الاستمتاع بالجمال في الفنون والطبيعة.
أبعد من الحتميتين العلمية والدينية
تتفق هذه السطور مع الزعم بأنّ للسرديات الدينيّة قيمة "صدق خياليّة"، وليس لها قيمة "صدق حرفيّة" في ادعاء امتلاكها الحقيقة. وللسرد العظيم، كما لحكايات البشر وسرديّاتهم، قيمة في تمكينهم من أن يروا أنفسهم فيها، وفي عونهم على التفكير بكيفيّات وعلاقات جديدة مع العالم، بعيداً من النزعة الهروبية إلى التخييل أو اللاعقلانيّة.
مسألة الإيمان الديني مسألة وجدانيّة لا تناقش عقليّاً، والنبذ بالمثل، وإن كان ثمة أسباب عقليّة تقود إلى رفض السرديّات الدينيّة، بما تتضمّن من خوارق يعجز الفكر عن تقبّلها، وفق مبدأ فلسفي يرى في العقل الصحيح أنه لا يتعصّب للعقل، فالرفض، والحال هذه، اختيار بين إمكانات، وليس الفرد مطالباً بتقديم ما يؤيّد اختياره، أو أن يعلّل أسباب ما آمن به من معتقد، وما شبّ عليه من مذهب.
تطرّقت إلى اللاحتمية العلمية يمنى طريف الخولي في كتابها "العلم والاغتراب والحريّة"، موضّحة أنّ اللاحتمية مرهقة ومقلقة لكنها رحيبة وواعدة، فافتراض أنّ كلّ الأحداث محدّدة سلفاً بدقة مطلقة تنفي اللاحتمية؛ غير أنّ ذلك لا يعني أنّه ليس ثمة من حادثة ترتبط بأخرى، بل يعني أنّ القوانين التي تربط هذه الأحداث ليست حتميّة. فتنكر إذ ذاك أبدية المبدأ العلي، بحيث إنّه لو اشترط حدث ما آخرَ، كظرف أساسي أو أوّلي له، فلا يعني هذا عليّة.
وتذهب الكاتبة إلى مبدأ الاحتمال والإمكان والممكن، حين تقول: "نجد عدّة عوامل تؤدي علاقاتها ببعضها إلى عدّة احتمالات، كلّها ممكنة، وحدوث أيّ منها أو عدم حدوثه، لن يهدم العلم ولن يحيله إلى فوضى وعماء. إنّه تعاقب الأحداث اللاحتمي لا تسلسلها الحتمي، وتتابعها وفقاً لقوانين الاحتماليّة لا العليّة". كما يباعد ريتشارد نورمان أيضاً بين النزعة الإنسانيّة واعتقاد العلمانيين الأوائل في حتميّة التقدّم الإنساني، مفصحاً بالقول إنّ "إنسانيّتي توجد في الهوّة الموجودة بين الممكن والفعلي، بين المحتمل والواقعي".
القانون اللبناني وعقوبات التجديف
ليس من المستحيل أن تعلن مذهبك الإنساني، أو أي اتجاه لاديني تنتمي إليه (إلحادي، لاأدري، ربوبي)، لكنّ ذلك لا يكون ببساطة تخمّنها وتركن إليها نفسك مطمئنة
ثمة صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لا تعبّر عن حريّة الرأي بقدر ما تبيّن أزمة تجاذب عنيف في الواقع بين فريقين: مؤمن وملحد، على غرار صفحة "الملحدون يدخلون الجنة". فالتناقض واضح في التسمية، وهو دليل على ردّ فعل انفعالي متصلّب لا سيّما إذا ما رصدت المنشورات التي تتضمّن تهكّمات فاضحة من كل ما هو ديني. علماً أنّ اختيار طريق مماثل ينبغي له أن يكون اختياراً لاانفعالياً، لا يكترث بتقوّلات الآخرين، أو بتفنيد حجج يلبسها المؤمنون لبوساً عقلانيّاً لإثبات ما هو متجاوز للعقل البشري، وبذلك يبقى الملحدون بمنأى عن استحالتهم طائفة دائمة التحفّز للمواجهة.
تجد شريحة واسعة من المؤمنين بالدين دعامة سيكولوجيّة لمواجهة الصعوبات، وفي "العين التي ترى ولا تُرى" عصمة أخلاقيّة، فيستحسن والحال هذه الإبقاء على ما تراه حبل نجاة، وعلى الاعتقاد بأنّ خلاصها لا يأتي إلا من مصدر متعالٍ ومفارق. لكن يجدر بنا التذكير بمبدأ فلسفي آخر، فيما يتعلّق بالجانب الأخلاقي، وهو أنّ الأخلاق لا تبنى على الدين وإنما الدين يبنى على الأخلاق.
ولكي لا نتوه عمّا جاء من سؤال إشهار الرأي بحرية ويسر، فنجد أن ليس من المستحيل أن تعلن مذهبك الإنساني، أو أي اتجاه لاديني تنتمي إليه (إلحادي، لاأدري، ربوبي)، لكنّ ذلك لا يكون ببساطة تخمّنها وتركن إليها نفسك مطمئنة. يكفي أن نشير، في هذا المقام، إلى المادتين 317 (التجديف)، و474 (إثارة النعرات الطائفيّة) من قانون العقوبات اللبناني، لنرى أنهما تشكلان خطراً وأداة قمع قد تستخدمها السلطة (أكانت سلطة دينية أم سياسية) ضد من لا يتوافق معها في الرأي.
الإشهار، وإن لم يكن من باب التباهي أو التحدّي أو الاستقطاب، وهو غالباً ليس هدف اللاديني، فسيبقى وسط جماعته المؤمنة/ أو جماعات دينية أخرى مماثلة (لا متماثلة)، سيبقى "الحمل الضالّ" كما تصفه، و"كبش فداء"، والخاسر، وسيقاسي النبذ والاغتراب. وهي نفسها –أي الجماعة التي ينتمي إليها- ستطالبه بأن يمارس التقيّة الدينيّة كي ينجو ويكسب الرّهان – رهانها الاجتماعي الدنيوي- وإن خسر الرهان الأخروي، لكنه يختار أن يكسب صدقه وحرية اختياره، وهذا هو رهانه!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع