شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عن العصبية في خلافات اليمنيين... لماذا نتقادم ولا نتقدّم؟

عن العصبية في خلافات اليمنيين... لماذا نتقادم ولا نتقدّم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 10 مايو 202207:52 ص

كعادتها، تستطيع المعارك إيجاد سبيلها الى اليمنيين، سواء أكانت سياسيةً أو دينيةً أو قبليةً أو مناطقيةً أو طبقيةً أو نفسيةً وغيرها. قبل أيام استعرت الحرب بين الهواشم والأقيال*، بسبب أغنية "أنا اليماني وهذا زماني".

وبعيداً عن أنها جاءت في زمن يقبع فيه اليمني في الدرك الأسفل من الحياة الإنسانية، إلا أن الخلاف المحتدم لم يتعلق بالعمل الفني، بل بشخوصه المشاركة فيه، وتجلت فيه "عصبية نتنة" لطالما كانت سبباً في معظم خلافات اليمنيين. وفي أثناء متابعة ذلك، لمعت في ذهني بعض ذكريات الطفولة.

ذات مرة قالت صديقتي: "نحن قبائل ممنوع نزوج حلّاق أو جزّار". سألتها: "ليش؟".

-"لأنهم مزاينة"*.

-"يعني أيش؟".

-"يعني هم يتزوجون منهم وإحنا نتزوج منا، حتى لا تختلط الأنساب".

ظللت أُرفّس*: "ليش؟ ليش؟". كنت أنتظر سماع قصة مدهشة أو اكتشاف أمر خطير، فهذه معلومة مثيرة بالنسبة إلى طفلة قادمة من تنشئة عدنية* (عدن زمان لا "زماني" هذا). ولأن صديقتي أيضاً طفلة لم تكن تفهم منشأ هذه الفكرة، فقد تلقنتها كغيرها في مجتمع عشائري يؤمن بالطبقية البشرية أكثر من إيمانه بـ"كلكم لآدم وآدم من تراب"، كما لا يؤمن بالمنهج العلمي في تفسير الظواهر والظروف التاريخية.

كعادتها، تستطيع المعارك إيجاد سبيلها الى اليمنيين، سواء أكانت سياسيةً أو دينيةً أو قبليةً أو مناطقيةً أو طبقيةً أو نفسيةً وغيرها. قبل أيام استعرت الحرب بين الهواشم والأقيال*، بسبب أغنية "أنا اليماني وهذا زماني"

المهم أنها لم تستطع توضيح الأمر لتشبع حشريتي: مرةً تقول: "هم حق مشاكل" (مشكلجيون)، ومرةً "هم فقراء"، ومرةً "هم مش حلوين"، وفي كل مرة كنا -هي وأنا- نتذكر نماذج مسالمةً وغنيةً وجميلةً من أبناء الحلاقين والجزارين وبناتهم، وببراءة نقول: "لا والله معهم زلط* أكثر من بيت فلان القبيلي"، وإنهم "حلوين، شفتي فلانة ما أحلاها"، و"علان مؤدب وأهله طيبون"... وفي كل مرة نأتي بمبرر طفولي لهذه الطبقية، نناقضه سريعاً بصدق فطرتنا.

أخذتني الحماسة، وقلت: "والله لن أتزوج إلا جزاراً أو حلاقاً حتى آكل كل يوم لحماً أو يتسرح شعري".

عدت إلى البيت بنيّة إحداث مشكلة لفهم السبب الذي عجزت صديقتي عن توضيحه.

-آبااااه... لو تقدم لي جزّار أو حلّاق، تقبل تزوجني به؟

قال والدي: "سأزوجك من دكتور أو مهندس" (أسطوانة أخرى مشروخة).

-"لكن لو أنا أحببت حلّاقاً أو جزاراً؟".

-"طز فيك".

-"يعني عادي؟ لم أفهم".

-"طز فيك يعني طز فيك".

وعلى الرغم من قسوة الكلمة "طز فيك"، إلا أني فرحت، لأن ذاك يعني أني حرة، أتمتع بخيارات أكثر، وأحب قبيلي، وأحب مزين، فلا ممنوع عليّ. يحيااااا الحب.

طبعاً مع الوقت كبرت وعقلت وأدركت أن تعدد الخيارات ما هو إلا تعدد كمّي لا نوعي، وأن جميع ذكور مجتمعاتنا الشرقية داخلهم عُكفي*، فرفعت شعاراً آخر: تحيااااا العزوبية.

البعض يعيدون أسباب الحروب المتكررة في تاريخ اليمن الحديث إلى الفقر والديكتاتورية وتصادم المصالح مع الخارج. نعم هذه قد تكون أسباباً منطقيةً لنشوب أي حرب، لكن في حالتنا اليمنية تمثّل هذه النتائج لا الأسباب، نتائج الجهل؛ فلا حروبنا الأزلية أنهت الفقر ولا قضت على الديكتاتورية ولا فرضت السيادة الوطنية

على كل حال، لم تكد تنتهي المعركة حتى دخل اليمنيون في معركة أخرى للدفاع عن الفنان الكبير المرحوم أبو بكر سالم. عاصفة غاضبة اجتاحت أصل الفنان وفصله، والذي خانه ذكاؤه وانتقص من فنّه، ولم يخلُ الأمر من المرور بالتصنيف الذي بات يشكل معياراً لأحقية الناس: هل هو قِيل أم متورد؟*

أي متابع سيلاحظ أن الحرب عززت الطبقية في المجتمع اليمني، بدلاً من القضاء عليها، وساهمت أكثر في تجريد الفنون والتخصصات على اختلافها من مضامينها وقيمها، وهذا مع الأسف حصاد طبيعي للثقافة المتوارثة التي حجّمت المرء في مجتمعاتنا واحتجزته داخل إطار الطبقة الاجتماعية، ومهما بلغ إنجازه وعطاؤه، سيظل سجين هذه القوقعة، ومرفوضاً لدى الآخر، إلى أن يكسرها قبل غيره.

وعلى الرغم من كل البؤس الذي يتجرعه اليمني جراء العصبية النتنة، إلا أنه يرفض الاعتراف بارتباط "قوقعته المصونة" بمعاناته سياسياً واقتصادياً وإنسانياً، بل حتى المحسوبون على الـ"نُخب"، لا يؤمنون بضرورة تعزيز الوعي في القضايا الفكرية كأولوية في سبيل تحقيق الاستقرار الأمني والرفاهية الاقتصادية والتنمية الشاملة، إذ يعتقدون أن الوعي الفكري ترف يتأتى بعد الاستقرار والرفاهية!

وعلى سبيل المثال: البعض يعيدون أسباب الحروب المتكررة في تاريخ اليمن الحديث إلى الفقر والديكتاتورية وتصادم المصالح مع الخارج. نعم هذه قد تكون أسباباً منطقيةً لنشوب أي حرب، لكن في حالتنا اليمنية تمثّل هذه النتائج لا الأسباب، نتائج الجهل؛ فلا حروبنا الأزلية أنهت الفقر ولا قضت على الديكتاتورية ولا فرضت السيادة الوطنية، بل إنها تصالحت مع الفقر كقيمة دينية: "لهم الدنيا ولنا الآخرة"، وأعادت إنتاج الأصنام فأصبح لكل قبيلة ومنطقة سيد وشيخ، واستخدمت بغباء فاحش عباءة الدين والمذهب لبيع المصلحة والسيادة الوطنيتين، والأخطر أنها جردت اليمني من إنسانيته كقيمة تعلو كل شيء.

اليوم، واليمنيون يتصارعون "طبقياً وسلالياً"، بسبب أغنية، أفكر في أبو بكر سالم وكيف أنه لم يكن أبداً سوى الباذخ فخامةً، ورافع رأس اليمن، كل اليمن. كان -رحمه الله- أكبر من التصنيفات، فهل لأن استثناءً سماوياً رعاه من عبثنا؟ أم أنه ابن جيل لم ينَل منه التشوّه مانال منا؟ أم أن عجلة التطور والتقدم في اليمن تتحرك بالمقلوب؟

هوامش:

*أقيال: ومفردها قِيل، مصطلح يمني قديم يشير إلى أبناء الملوك وأحفادهم، وقد برز هذا المصطلح حديثاً للتصدي للهاشمية السياسية التي تدّعي الحق الإلهي للهواشم في الحكم وأفضليتهم على الخلق.

*مزاينة: مصطلح عنصري يطلقه بعض اليمنيين على فئات من المجتمع تعمل في بعض المهن.

*تنشئة عدنية: نسبة إلى مدينة عدن التي تأثرت فكرياً بالاستعمار البريطاني ومن ثم بالأفكار الشيوعية جراء حكم الحزب الاشتراكي، أما اليوم فيطغى عليها الفكر السلفي المتشدد.

*رِفّاس: باللهجة اليمنية تستخدم بمعنى الإلحاح أو الإصرار.

*زلط: أموال.

*عُكفي: مصطلح يمني يشير إلى عسكر الإمام وحرّاسه، ويُستخدم للتعبير عن الجهل وعدم الرغبة في التحرر.

*متورد: بعد سيطرة الحوثيين على الحكم برز هذا المصطلح في إشارة إلى أن أصولهم ليست يمنيةً، بل يعود أصلهم إلى قريش (مستوردون).

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard