شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كيف أفقدتني

كيف أفقدتني "العلاقة" صوابي وأنا ممارسة تأمل؟ رواية "حبك درباني" وحكايات التعلق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 17 مايو 202212:19 م

أعدت قراءة رواية "حبّك درباني" لرائد الرواية التونسية، البشير خريّف (1917- 1983)، بعد مروري بأزمة نفسية، إثر فشل علاقة عاطفية، جعلتني أطالع ما هو جديد في علم النفس المرتبط بالعلاقات.

هالني وعي الرواية الحدسي والمستبصر بهذا المجال، إذ وجدتُ في هذه الرواية، التي نُشرت سنة 1958، شخصيات نمطيّة تتطابق بدقّة شديدة في وصفها وتحليلها مع الأنماط التي صَنّفَتْها، في مجال العلاقات العاطفية، النظريّة النفسية للتعلّق، وهي نظرية رائجة منذ بضعة سنوات في العالم الأنجلوسكسوني للتنمية البشرية، لكنّ عالم النفس الأمريكي جون بولبي، لم يضع أولى لبناتها إلّا ابتداءً من سنة 1969. قبل أن يُطوّرها إلى جانب زملائه في العقود اللّاحقة.

الأنماط الآمنة وغير الآمنة في التعلّق

انطلقت نظريّة التعلّق من توصيف لنوعيّة تعلّق الأطفال بأوليائهم/ ن قبل أن تتوسع، ويتم تطبيقها على العلاقات العاطفية.

الناس أنماط أربعة في علاقاتهم العاطفية، بحسب النظرية: نمط آمن، يشعر بالراحة إزاء المعاشرة، ولا تطرح الحميميّة بالنسبة إليه إشكالاً، وغالباً ما يكون إنساناً مُحبّاً ودافئاً، وثلاثة أنماط غير آمنة، تمثّل المعاشرة، والحميمية بالنسبة إليها إشكالاً، وهي:

النمط القلِقُ في التعلّق، يكون فيه الشخص مشتاقاً إلى علاقة عاطفية، ويوليها جلّ انتباهه، ولديه نزعة إلى القلق بشأن مبادلة شريكه العاطفي له الحبّ.

- النمط الاجتنابيّ للتعلّق، ويعتبر أنّ الحميميّة تُفقده استقلاليته، وهو يسعى دوماً إلى الحدّ من تقّرب الشريك العاطفي إليه.

-والنمط المخضرم القلِقُ-الاجتنابيّ في التعلّق (ويُعرفُ أيضاً بالنمط المضطرب) وهو نادر، ولديه سمات النّمطين السابقين، تظهر حسب الظروف.

التعرّف على الأنماط في تعلقنا كبشر بأحبابنا وشركائنا ييسر فهمنا لأنفسنا والآخرين، وتنبؤنا بمواقفهم العاطفية، إذ إن نظرية التعلّق توحي بأنّ النمط الذي نتّخذه يجعلنا مُبرمجين للتصرّف بطريقة معيّنة أو بأخرى في علاقاتنا الغراميّة

اهتممتُ بهذه النظرية إثر فشلي في علاقة عاطفية انجرّ عنه اضطراب في نفسيّتي وتصرّفاتي.

وجدت نفسي أطالع بنهم أوّلاً كتب تنمية بشريّة متعلّقة بالعلاقات العاطفية، ثمّ مقالات وكتباً في علم النفس، في محاولة لأن أفهم ما حلّ بي، وكيف كدت أفقد عقلي بسبب علاقة عاطفية، في حين أنّني من ممارسي رياضة التأمّل واجتهاد النفس.

اكتشفتُ نظرية التعلّق، وفهمت أنّ تصرّفي، الذي بدا لي ولغيري غريباً ومضطرباً ومحيّراً، إنّما يستجيب إلى توصيف علميّ، حدّدته تلك النظرية.

وكما يكتب ليفين وهيلير في كتابهما، فإن التعرّف على الأنماط في التعلّق ييسّر فهم التصرّفات، والتنبؤ بردودهم في المجال العاطفي، إذ إن نظرية التعلّق توحي بأنّ النمط الذي نتّخذه، يجعلنا مبرمجين للتصرّف بطريقة معيّنة أو بأخرى في علاقاتنا الغراميّة.

شخصيات مُركّبة وعلاقات مُعقّدة

يبدو أن الكاتب التونسيّ البشير خريّف، قد اختبر مثلي، حالة وجدانيّة حادّة، على حسب ما قرأته لصديقه، الناقد الأدبي المختصّ في أدبه، فوزي الزمرلي، أدّت به إلى كتابة رواية "حبّك درباني".

وما شدّ انتباهي وأثار إعجابي، أنّ وصف خريّف وتحليله لشخصيّاته لا يكاد يختلف عن الأمثلة الحيّة التي يُطعِّم بها المؤلّفون اليوم، من علماء نفس وغيرهم، كتبهم عن نظريّة التعلّق.

هذا ما يؤكّد ولع خرّيف، صاحب الرائعة الروائيّة "برق اللّيل"، " بسبر أغوار الحياة العاطفيّة" منذ إصدار خريّف لأقصوصته الأولى "ليلة الوطيّة" سنة 1937، إلى جانب حنكته في تشريح النواحي النفسية، وهو تشريح كان قد أُخِذ عليه من النقّاد في تلك الفترة التي كانت فيها الرواية التونسية بالأساس اجتماعية وسياسية.

محور رواية "حبّك درباني" هو العلاقات العاطفية المعقّدة.

محور رواية "حبّك درباني" هو العلاقات العاطفية المعقّدة، بين شخصياتها: سليم، وفوزيّة، رابح والشيخ إسماعيل.

سليم عاشق ولهان، متيّم حدّ الهوس بفوزية، الشابة التي عملت بالبغاء سابقاً، المتزوجة من الشيخ إسماعيل، رئيس فرقة المسرح التي تجمع ثلاثتهم.

وفوزية عاشقة هي الأخرى؛ تُحبّ رابح، أحد زبائنها وخلّانها الأقدمين، إلّا أنّه لا يقبل بالاستقرار مع امرأة كما هو معروف عنه.

ورغم ذلك، فقد أصرّت فوزية على أن يتزوّجها عندما اقترب موعد قرانها من الشيخ إسماعيل، بل وهدّدته بالانتحار.

ويمكن التكهّن بأنّ شخصيّة البطل، سليم، تعبّر على الأقلّ عن جزء من تجربة الكاتب البشير خريّف، وحالته النفسية.

ويمثّل سليم في رواية البشير خريّف نموذج الأسلوب القلِق، فهو الذي "ينقصه الحبّ، حبّ عميق يملأ فراغ قلبه". فتملؤه فوزيّة حدّ الهوس، ويغدو حسّاساً حيال أدقّ/ أرقّ التغيّرات في مزاجها أو تصرّفاتها.

وكأيّ قلِقٍ، لا يقدر على التعبير عن رغباته، فيضع الخطط لمحاولة جذب انتباهها، وكأيّ قلقٍ أيضاً، يشوّش ولعه بها أفكاره، فيغدو عاجزاً عن التركيز على دوره في المسرحية. يرفع سليم من شأن فوزية، عالياً، رغم اكتشافه أنّها بغيّ، في حين يرى نفسه فاشلاً على جميع المستويات، ولا يستطيع أن يتذكّر إلّا ما يراه إيجابيّاً في علاقته بها، ويظنها، وحدها، القادرة على إسعاده؛ فيُبطل مشروع انتقاله إلى مدينة "الكاف"، وزواجه من امرأة أخرى هناك.

أمّا رابح، فهو نموذج شخصيّة الاجتنابيّ في رواية "حبّك درباني"، إذ يصفه البشير خريّف بأنّه "رجل ناجح أي ليس له قلب"، وقد عُرِف بـ"عدم استقرار عواطفه"، وهو لا يفهم معنى أن يتعلّق الإنسان بامرأة حرّة، قد تكون يوماً له ويوماً لغيره.

"يرى الحبّ ألعوبة وملهاة لمن ليس له ما أهمّ"، ويرغب دائماًَ في تجديد علاقاته النسائية، ببائعات الهوى اللاتي ألِف التردد عليهنّ.

فوزية: النمط المضطرب

تمثّل شخصيّة فوزيّة في الرواية نموذج النمط المُضطرب في التعلّق، أي ذلك الذي لديه وجهان: وجه قلق، ووجه اجتنابيّ.

وعادة ما يكون للشخص ذي النمط المضطرب رغبة قوية في إقامة علاقات عاطفيّة وثيقة، ولكنه لا يثق بالآخرين، ويخشى الحميميّة، فيبقى بين كرّ وفرّ من العلاقات العاطفية وإليها.

وكذلك هي فوزية، التي تتمنّى بيتاً وأسرة، وزوجاً تخدمه وتحنو عليه، ولمّا يتوفّر لها ذلك مع الشيخ إسماعيل تهرب منه إلى أكثر من عشيق.

تجمع فوزية من جهة بين الأسلوب الاجتنابيّ للتعلّق لتقابل به حبّ سليم لها، وبين الأسلوب القلِق الذي تتعلّق من خلاله برابح من جهة أخرى.

سليم عاشق ولهان، متيم حد الهوس بفوزية، وفوزية شابة عملت في البغاء ومتزوجة من الشيخ إسماعيل، وتحب رابح أحد زبائنها الأقدمين، ولكن رابح لا يقبل بالاستقرار مع أي امرأة... 

ومن اللّافت للانتباه أنّ خريّف وضع محور روايته شخصيّة فوزيّة، التي تعتمد النّمط المضطرب، في حين أنّه لم يقع تشخيص هذا النمط في علم النفس إلّا في السنوات التسعين من القرن الماضي.

ولقد حلّل خريّف في شخصية فوزيّة حتّى تلك الخصائص التي تقدّمت بها دراسة حديثة سنة 2019.

أثبتت الدراسة أنّ الأشخاص ذوي النمط المضطرب تكون لهم عادة علاقات جنسية أكثر عدداً من الأنماط الأخرى، كما أنّ لديهم نزعة أكبر للموافقة على ممارسة الجنس حتى عندما لا يرغبون فيه.

وكذلك هي فوزيّة، التي كانت بغيّاً في وقت ما، و"ذاقت مُرّ الصنعة وحلوَها، ولم تكن تدري: أهي الحاجة التي تدفعها في هذا السبيل أم توق؟".

كيف نكتسب نمطاً في "تعلّق" دون آخر؟

تقوم نظريّة التعلّق على فكرة أنّ الأطفال يكتسبون أنماطاً محدّدة في طريقة تعلّقهم بمن يرعاهم من أمّهات أو آباء أو غيرهم، وذلك حسب استجابة "الوليّ"، وتوفّر حضوره المعنويّ للرضيع.

إن كان "الوليّ" مستجيباً، ومُتاحاً، طوّر الرضيع نمط تعلّق آمن، وإذا كان الوليّ مستجيباً ومتاحاً بطريقة عشوائية، ومتقلّبة، اكتسب الرضيع نمط تعلّق قلِق.

أما إن لم يكن الوليّ مستجيباً أو مُتاحا بالمرّة، أو إن كان على العكس غامراً إلى حدّ الاختناق، اتّخذ الرضيع نمط تعلّق اجتنابيّ.

وقد ثَبت فيما بعد أن النمط الذي يكتسبه الإنسان وهو رضيع، يرافقه طوال حياته. لذلك استطاع علماء النفس أن يعتمدوا النظريةَ لدى الكهول، وأن يطبّقوها على علاقاتهم بشركائهم العاطفيّين، لكنّهم يُجمعون على أنّ الشخص الذي يعتمد نمطاً غير آمن يمكن له أن يعالج نفسه ويتغيّر في اتّجاه النمط الآمن.

تفاعل أنماط التعلق

كثيراً ما يجد النمط القلق نفسه، مثل سليم، في طلوع وهبوط بين مشاعر الجذل والإحباط، خاصّة عندما يرتبط بشخص ذي نمط اجتنابيّ، وهو ما حدث بين سليم القلق وفوزيّة، بوجهها الاجتنابيّ من جهة، وما حدث أيضاً بين فوزيّة بوجهها القلق ورابح الاجتنابيّ البحت من جهة أخرى.

لاحظ أخصائيّو نظرية التعلّق أنّ نمطي القلِق والاجتنابيّ يتجاذبان كالمغناطيس، وهو ما نقرأه مرّة أخرى بدهشة لدى خريّف، عندما يكتب عن سليم وفوزية: "لا سبيل إلى نكران استعدادهما الطبيعيّ: هي للاجتذاب وهو للاندفاع".

لكنّ مثل هذه العلاقة توصف عادة بأنّها فخّ، لأنّ القلِق والاجتنابيّ يعيشان على مبدأين متضادّين: الأوّل على الاقتراب، والثاني على الابتعاد، وهي عادة ما تقود النمط القلِق إلى أن يعيش جحيماً، كما كان الأمر بالنسبة إلى شخصية سليم، أو بالنسبة إلى كاتب الرواية، البشير خريّف، أو إلى كاتبة هذه السطور قبل أن تنجو بأعجوبة.

المراجع:

1. Amir Levine and Rachel Heller, Attached, Penguin. 2010

2. فوزي الزمرلي، "مسيرة البشير خريف"، توطئة الأعمال الكاملة للبشير خريّف، وزارة الثقافة والمحتفظة على التراث، دار الجنوب للنشر، تونس، صفحة 12.

3. فوزي الزمرلي، "مسيرة البشير خريف"، المرجع المذكور سابقا، ص.21.

4. Bartholomew, K. and Horowitz, L. M. (1991). Attachment styles among young adults: A test of a four-category model.” Journal of Personality and Social Psychology, 61, 226-244, doi:10.1037/0022-3514.61.2.226.

5. Nicolas Favez and Hervé Tissot, “Fearful-Avoidant Attachment: A Specific Impact on Sexuality?”, Journal of Sex & Marital Therapy, Volume 45, 2019 - Issue 6, doi:10.1080/0092623x.2019.1566946 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image