شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لنقرأ التجارب وليس الكلمات

لنقرأ التجارب وليس الكلمات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 17 يونيو 202211:00 ص

كم مرة قرأت كتاباً وأكملته حتى النهاية؟

كم مرة قلتُ: سأعود إلى حيث وقفتُ، لكني اخترت كتاباً آخر، وكررت معه ما قمت به مع الكتاب الأول؟

كم مرة أنّبت نفسي على ذلك، واعتقدت أني فقط من يفعل ذلك ووعدت نفسي بألا أقوم بذلك ثانية، لكني فشلت؟

لست وحدي... فهذه سمة العصر الجديد.

التركيز المسروق

كتب المؤلف الأمريكي يوهان هاري في كتابه "التركيز المسروق - Stolen focus": "بمرور الوقت كنت ألاحظ أن انتباهي يزداد سوءاً، وبمرور الوقت شعرت بأن الأشياء تتطلّب مني تركيزاً عميقاً، سواءً كنت أقرأ كتاباً أم أشاهد فيلماً طويلاً".

"شعرت كأني أحاول الصعود على سلّم متحرّك في حالة هبوط، كلما حاولت الصعود ازداد الأمر صعوبة".

قديماً، كانوا يرجعون تلك الصعوبة إلى الكبر والشيخوخة، بشكل يجسّد تمييزاً ضد تلك الفئة العمرية. فهم هاري ذلك حينما قرأ رسالة بين راهبين عمرها 100 عام، يشتكي فيها أحدهم بأن تركيزه لم يعد كما كان من قبل.

أعاد هاري التفكير في الأمر، "حينما كنتَ صغيراً كان من السهل عليك تعلم مهارة ما أو استكمال فيلم طويل أو حتى مملّ، هذا لأنك كنت تحتفظ بكامل تركيزك، وانتباهك، وصبرك، وبعد أن بلغ بك العمر أرذله، لم يعد الأمر سهلاُ كما كان".

وبعد بحث، بدأ هاري يفكر في احتمالات أخرى، فثمة مستويان من تدهور الانتباه، الأول على المستوى يخص الفرد ذاته، والثاني يرتبط بالانتباه الجماعي بشكل عام، الذي اعتبره "مسروقاً".

القراءة رحلة شخصية

نعيش الآن في عالم مُشتَّت، يكاد يكون الأكثر تشتتاً في تاريخ البشرية، وإذا كنت جزءاً من هذا العصر، فأنت بالتأكيد غارق في الخيارات والأدوات والشاشات، ويتم جذبك في مليون اتجاه دفعة واحدة.

أنت تعرف هذا جيداً، خاصة إذا كنت تقضي الكثير من الوقت على الإنترنت.

قد يكون الملل أيضاً هو المتهم، لا تقلق.

لا تخجل من عدم قدرتها على إنهاء الكتاب الذي بدأت قراءته.

تقول الكاتبة والسيناريست الأمريكية، سوزان مينوت، إنها لا تخجل من عدم قدرتها على إنهاء الكتاب الذي بدأت قراءته.

تعتقد مينوت، أن الناس لا يقدرون على إنهاء ما بدأوا في قراءته لأنهم يلزمون أنفسهم بإنهاء قراءته، كما لو أن الهدف هو إكمال الكتاب بصرف النظر عن الاهتمام بما يحويه الكتاب.

لا ترى مينوت أي مشكلة في شعورك بالملل، وعدم قدرتك على إنهاء كتاب.

طرح أحدهم سؤالاً على موقع، التواصل المعرفي كورا "quora"، لماذا لا أستطيع أن أنهي قراءة كتاب؟ فجاءت إجابة واضحة، وفي نفس السياق، إذا تعاملت مع الكتاب باعتباره رحلة شخصية في حياتك فلن تشعر بالذنب.

الحياة، قد لا تتمكن من رؤية جميع جوانبها، ولكن تستطيع التمتّع بالجانب الذي تراه.

إن أدهشتك فقرة في كتاب ما، واستغرقتك، فأنت تستمتع بهذه الفقرة، وهذا يكفي. أما أن تجبر نفسك على إنهاء كتاب بدأت قراءته، فهو سبب كاف لعدم إنهائك الكتاب.

لهذا، نصحت إحدى القارئات على "كورا"، أن تختار ما يثير اهتمامك حقاً، لا أن تقرأ لمجرد أن تقرأ، "عليك أن تتعمّق في قراءة الكتب التي تعجبك، ستجد نفسك في النهاية متشوقاً لإنهائها في أسرع وقت ممكن".

وتنصح أيضاً باختيار روايات مبنية على أحداث وشخصيات واقعية، "عندها لن تحس بالملل".

هذا بالضبط ما يفعله أحمد رجب، قارئ مصري (24 عاماً)، وهو طالب في كلية الطب، والذي اختار الابتعاد عن كتب يراها مملة، والدنوّ من كتب سردها يعجبه، سواء بغرض التسلية أو الثقافة، مثل "sapiens" لنوح هراري، أو "قلق السعى إلى المكانة" لآلن دو بوتون، وبالتالي يستطيع أن يكمل الكتاب إلى آخره.

حسابات أحمد بسيطة، إذا أحس بالملل، فذلك يعود إلى أن الكتاب بالنسبة إليه غير جدير بالقراءة، أو أنه لم يكتب لقارئ مثله.

"القراءة الحرة غايتها النهائية بالنسبة الي هي الوقت اللطيف والونس، وأن أدخل إلى رأس إنسان آخر لديه ما يستحق أن أقرأه، وأستمتع به، من خلال عينيه أرى الحياة".

لكن قد لا يستكمل أحدهم كتاباً بدأ قراءته لأنه ينسى ما قرأه أو أنه يعتقد ذلك.

مثل عبدالواحد الصيفي، أحد القراء المصريين، يقول إنه بمجرد أن يبدأ في قراءة كتاب ينسى معظم ما قرأه، فيشعر بالضجر، وأنه لا طائلة من استكمال قراءة ما بدأه، ويشرع على الفور بقراءة كتاب آخر أو رواية أخرى، ويتكرر الأمر، وصل به الأمر إلى الدرجة التي عرض نفسه فيها على مختص، اعتقاداً منه أنه يعاني من مشكلة انتباه أو تركيز، لكن دون فائدة.

الموضوع المقروء يجب أن يكون متعلقاً بالتجربة لا بالكلمات.

مشكلة عبدالواحد، وفقاً للكاتبة الأمريكية باميلا باول، طبيعية، فمن الطبيعي ألا تتذكر ما قرأته؛ فالموضوع المقروء يجب أن يكون متعلقاً بالتجربة لا بالكلمات.

"تجربة القراءة، خاصة في الموضوعات الثقافية، تشبه الغوص في حوض استحمام، ومن ثم مشاهدة المياه تتدفق في البالوعة. لكن في كل الأحوال سيبقى أثراً مما قرأته".

الأمر له تفسير علمي، كما تقول فاريا سانا، الأستاذة المساعد في علم النفس بجامعة أثاباسكا في كندا: "ذاكرتنا تشبه عنق زجاجة، حيث يكون (منحنى النسيان)، كما يُطلق عليه، أشد انحداراً خلال الـ 24 ساعة الأولى بعد أن تتعلم شيئاً ما. يختلف مقدار ما تنسى بالضبط من حيث النسبة المئوية من شخص إلى آخر، لكن يظل جزء مما قرأته عالقاً في ذاكرتك".

ما يعاني منه هؤلاء هو تدهور الانتباه على المستوى الفردي، أما الآخر لا فهو أعم وأشمل، وليس لنا "ذنب فيه"، كما يقول هاري.

الانتباه الجماعي المنهار

ربما تحاول التغلب على مشكلة الانتباه لديك، لكن آخرين لن يتركوك وشأنك. لكي نفهم كيف سُرق انتباهنا بشكل جماعي، لنعود إلى فترة الثمانينيات، حيث ظهرت أزمة "طبقة الأوزون" التي ثُقبت بسبب مركب "الفريون"، الذي أطلقناه عن دون قصد.

يقول هاري عن تلك اللحظات، "حينها استطعنا وبشكل علمي مبسط أن نشرح للعامة تأثير تلك المادة على جودة حياتنا، وهم بدورهم فهموا الأمر، وميزوه عن نظريات المؤامرة والأكاذيب، واستطاعوا أن يضغطوا على ساستهم لإقرار سياسات تحمي طبقة الأوزون، حتى أن بعض الساسة تفاعلوا مع الموضوع، وبدوا معارضين لتلك السياسات الحكومية التي تؤذينا، مثل مارغريت تاتشر، وجورج بوش الأب".

"تجربة القراءة خاصة في الموضوعات الثقافية، تشبه الغوص في حوض استحمام، ومن ثم مشاهدة المياه تتدفق في البالوعة. لكن في كل الأحوال سيبقى أثراً مما قرأته"، "القراءة رحلة شخصية"

كان انتباه وتركيز الجميع موجهاً ناحية تلك المشكلة.

الآن تخيل تكرار الأزمة في العصر الذي تعيشه حالياً، ماذا تتوقع أن ترى؟

ما سنحصل عليه هو بعض الأشخاص الذين يرتدون شارات طبقة الأوزون، وآخرون سوف يقومون برسم جرافيتي لأشخاص يطلقون مُركّب الفريون في الهواء من أجل جذب تعاطف للقضية، بينما سيخرج البعض ليشكك في ماهية طبقة الأوزون، وهل هي موجودة بالأساس.

في هذا العصر لن تكون قادراً على جذب انتباه، واهتمام الناس لتلك المشكلة الفعلية.

يقول هاري، هذا يحدث، لأن انتباهنا الجماعي سُرق ولم ينهر.

ولكن من سرقه؟

"اللصوص في وادي السيليكون"، يقول هاري.

النموذج الاقتصادي المطروح لا يفكر سوى في جني الأموال، وليس تحسين جودة حياتك، ويتم ذلك من خلال سرقة انتباهك لأغراض تجارية بحتة.

بمجرد أن تبدأ في استعمال فيسبوك أو أي تطبيق من تطبيقات التواصل الاجتماعي السائدة، تبدأ هذه الشركات في جني الأموال، إما بطريقة مباشرة من خلال الإعلانات أو بمعرفة اهتماماتك وبيعها للمعلنين، أي كما يقول أحدهم في وادي السيليكون: "تصبح أنت المنتج الذي يبيعونه للعميل".

إنهم يكرسون أنفسهم لهدف واحد فقط، كيف يمكننا أن نجعله يلتقط هاتفه لأطول فترة ممكنة.

التكنولوجيا تتغذى على تشتيت انتباهنا، ومن مصلحتهم أن تستمر تلك الحالة.

الرغبة المجنونة

وضعت صحيفة "الغارديان" عدة خطوات للتغلب على إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، وكيفية العودة إلى الكتاب، إذا كان التخلي عن السوشال ميديا يبدو صعباً، فمن الممكن أن تبدأ بمتابعة الحسابات المهتمة بالكتب ومحتواها، بدلاً من متابعة الصفحات العادية أو صفحات الكوميكس، وقالت أيضاً إنه يمكن أن تبدأ بقراءة أشياء تثير اهتمامك حتى لو كانت بسيطة، ثم تنشيء لنفسك قائمة بالكتب التي قرأتها، والكتب التي ترغب في قراءتها، ومن الممكن أن تجرب أيضاً الكتب المسموعة.

أحد المثقفين على موقع "ميديم" كانت لديه طريقة أبسط، ويعتبرها أكثر فاعلية، يمكنك أن تضع تحدياً بإغلاق وسائل التواصل الاجتماعي لـ 30 يوماً، وفي كل مرة ترغب في تصفح السوشال ميديا، افتح كتاباً، مع الوقت وخلال الـ30 يوماً سوف يختفي الشعور بالحاجة إلى تصفح تلك المواقع نهائياً. 

أما القارئ المصري، أحمد، فيقول: "لما باندمج في مزاج الكتاب أو الرواية، بتختفي الرغبة المجنونة في إني أسكرول داون على السوشال ميديا، بالعكس، بحس إني بافصل منها تماماً، لدرجة إني باضغط على نفسي عشان افتح فيسبوك تاني".

"لما باندمج في مزاج الكتاب أو الرواية، بتختفي الرغبة المجنونة في إني أسكرول داون على السوشال ميديا، بالعكس، بحس إني بافصل منها تماماً، لدرجة إني باضغط على نفسي عشان افتح فيسبوك تاني"، "القراءة لأجل المتعة وليست عقاباً"

الدكتور أحمد سعيد، الناشر والمترجم، يرى أن وجود الإنترنت والسوشال ميديا أثر على إيقاع عملية الاختيار والقراءة، فالمجتمع بات يميل إلى الإنجاز والسرعة، وينفر من الطرق الكلاسيكية الرتيبة. لذلك تظهر الحاجة لتلخيص الأعمال من قِبل اليوتيوبرز، وقراءة المراجعات الشارحة على منصات إلكترونية، مثل "أبجد"، و"جودريدز" وغيرها لتخطي ما لا يناسب ذوق القارئ، حفاظاً على الوقت.

ويرى سعيد، على عكس الشائع والمتداول، أن السوشال ميديا حتى الآن هي عامل مساعد لانتشار الكتاب الورقي وتسويقه، وليست منافساً له،  "المشكلة الحقيقية تكمن في سؤال ماذا ترشّح وتسوّق السوشال ميديا؟ هل الجيد أم ما أنفق صاحبه على تسويقه دولارات أكثر؟".

أما الكاتب محمد شعير، مدير تحرير أخبار الأدب، يرى أن سلوكيات القراء لم تتغير حتى في ظل تأثير السوشيال ميديا، ولا يزال هناك الكثير من القراء الذين يقرأون الكتاب كاملاً "من الجلدة للجلدة"، مضيفاً: "من الوارد أن يحدث الأمر لدى الأجيال الصغيرة، التي تتراوح أعمارهم بين 18 و 20 عاماً، أما نحن فقد ظهرت السوشال ميديا تقريباً بعد أن تخطينا الثلاثين".

ونصح شعير، القارئ الذي يشعر بالملل عند قراءة كتاب معين، ألا يستكمل الكتاب، يقول: "القراءة قراءة لأجل المتعة، وليست عقاباً". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image