تمتلك أنيسة قصة حب طويلة مع القراءة والكتب. بدأت بهواية جمع الكتب النادرة والأعداد الأولى منذ سنوات شبابها. فالإنتاج الأدبي والثقافي الرائع لكاتبة كأنيسة، يعكس ثقافة وثقلاً معرفياً كبيراً لديها. سنتطرّق في حوارنا هذا إلى مكتبة أنيسة وكتبها الأثيرة، ونستمع معاً إلى تأثير هذه الكتب الكثيرة عليها كشخص وإنتاجها ككاتبة وحافظة للتراث.
كيف بدأ حبّك للقراءة والمطالعة؟
لقد اعتدت أن أكون قارئة متحمسة جداً. في سن المراهقة كنت دائماً في غرفتي أقرأ، ولم أرغب بفعل أي شيء آخر مع عائلتي بشكل عام، ليس لأنني لا أحبهم، ولكن لأنني كنت مهتمة جداً بقراءة الكتب. كانت لغتي الأساسية هي الفرنسية، عندما بدأت القراءة كنت أقرأ الكلاسيكيات الفرنسية، خاصة ما حصلنا عليه في المدرسة.
ما زلت أتذكر: بعد الظهر في منزلنا، كل واحد في غرفته، وأمي، التي كانت تحب القراءة كثيراً، في غرفة الرسم مع كتاب، يرافق هذا المشهد عزف موسيقى كلاسيكية، ما يضفي جواً هادئاً للغاية.
وبعد ذلك، عندما أصبحت في السادسة عشر من عمري، اكتشفت الوجوديين الفرنسيين. وكان أول كتاب قرأته "الغريب" للكاتب ألبير كامو، وقد تأثرت به لدرجة أنني قرأته حوالي خمس مرات متتالية، واحدة تلو الأخرى. ثم تعرفت على الكاتبة سيمون دي بوفوار، التي دفعتني لأن أن أصبح نسويّة وامرأة مستقلة.
ويرجع ذلك أساساً إلى كتاب واحد يسمى "الضيف". لا أتذكر تفاصيل القصة ولكنها جعلتني أؤسس فلسفتي وأصبح امرأة عاملة ومستقلة عن جميع أنواع الأعراف الاجتماعية الموجودة في لبنان. ثم قرأت كتاباً جميلاً من تأليف بوريس فيان، وهو وجودي فرنسي آخر، على الرغم من اختلافه قليلاً عن أسلوب دي بوفوار، يسمى "خلاصة الأيام".
القصة مكتوبة بشكل جميل جميل وهي نوع من الخيال حول صديقين أحدهما كريم جداً مع الآخر. وقد وضعني هذا الكتاب على طريق ليس فقط القراءة، ولكن أيضاً التفكير في الحياة بطريقة مختلفة تماماً عما نشأت عليها.
أنيسة الحلو: "من بعض الكتب المفضلة لدي كتاب يتحدث عن الطعام الصقلي اسمه 'خمسة وعشرون قرناً من الطعام الصقلي'. أعتبر هذا الكتاب من الكتب الممتعة للغاية والمليئة، ليس فقط بالوصفات الجيدة جداً، ولكن بالكثير عن التاريخ والسياق الاجتماعي لمدينة صقلية
هذه كانت رحلتي مع القراءة في لبنان قبل انتقالي إلى لندن. ولكن قبل مغادرتي، قررت أن أتعلم اللغة الإنجليزية بشكل أفضل، لأنني كنت بحاجة للتحدث بأكثر من لغتين. لقد كنت جيدة جداً في اللغات، حيث تعلمت اللغة بسهولة. بدأت بقراءة كتاب لست فخورةً بقراءته الآن، بسبب "آين راند" التي تعتبر روائية يمينية، يُدعى "المنبع" وهو عن مهندس معماري.
قرأته مرتين أو ثلاث مرات في صيف واحد لأنني كنت منبهرة به. وقد وضعني هذا الكتاب في طريقي لأتحدث الإنجليزية بشكل أفضل مع قراءتي لكتب أخرى أيضاً. وبعد ذلك عندما أتيت إلى لندن، لم أكن وحيدة تماماً، ولكنها لم يكن لدي الكثير من الأصدقاء، لأنه كما تعلمون، لندن ليست مدينة سهلة. هذا النوع من الحياة دفعني للقراءة كثيراً.
كنت أعيش مع رجل كثير السفر، لذلك كانت عادتي أن أجلس في غرفة الرسم، أضع الموسيقى الفرنسية، وأقرأ المزيد من الكلاسيكيات والروايات الفرنسية، ما جلب لي ذكريات المنزل وشعور الحنين إلى الوطن.
ثم تغيرت حياتي وأصبحت أكثر انشغالاً وبدأت أقرأ بشكل أقل. ولكن عندما انتقلت إلى شقة علوية، لم أشتر تلفازاً لمدة ثلاث سنوات، وهذا أتاح لي فرصة القراءة أكثر، خاصة الكتب المعاصرة والتاريخ والسير الذاتية والروايات. والآن بصراحة، مع الإنترنت، نادراً ما أقرأ، لكن أعتبر أن لدي نوعاً من الخلفية القوية من قراءة كتب رائعة.
لا أعتقد أن كتب الطبخ هي الكتب الأكثر أهمية في القراءة، أعتقد أن كتب التاريخ أكثر أهمية لتقرأ، حتى الروايات التاريخية والأدب بشكل عام...
ماهي كتب الطعام المفضلة لديك؟
بالطبع، قراءتي للكتب عن الطعام والطبخ كانت كثيرة وغنية، لأن هذا هو عملي ولدي إيمان كبير به. من بعض الكتب المفضلة لدي والتي أوصي بها وأقرأها جيداً، كتاب يتحدث عن الطعام الصقلي اسمه "خمسة وعشرون قرناً من الطعام الصقلي" Pomp And Sustenance: Twenty-five Centuries of Sicilian Food. أعتبر هذا الكتاب من الكتب الممتعة للغاية والمليئة، ليس فقط بالوصفات الجيدة جداً، ولكن الكثير من التاريخ والسياق الاجتماعي لمدينة صقلية.
ولدي صديقة أخرى أحب قراءة كتبها كثيراً، وهي امرأة تركية تدعى أليشا، وهي خبيرة في الطعام التركي، أعتبرها مرجعاً رائعاً، فلديها عدة كتب عن الطبخ التركي والصوفي، وأخرى تجمع بين الوصفات الرائعة، والكثير من المعلومات والخلفية والتاريخ والسياق الاجتماعي للحضارة التركية. وأخيراً، كتابي المفضل عن الطعام المغربي من قبل امرأة فرنسية عاشت في المغرب لمدة 30 عاماً أو أكثر.
أنيسة الحلو: "هدفي من كلّ ما أفعله هو الحفاظ على الوصفات التقليدية وتاريخ الطعام وتقاليد الطهي"
وهو كتاب بالفرنسية وهناك نسخة مترجمة عنه بعنوان "أسرار الطبخ المغربي" Les secrets des cuisines en terre marocaine. في الواقع، تجربتي مع هذا الكتاب واقعية. في المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى المغرب ككاتبة طعام، وبعد 30 عاماً أو أكثر من قراءتي له، رأيت أن اكتشفت دقّة الكاتبة وحسن توصيفها للأطباق، وكأنها ماثلة أمامي.
لاحظنا من مقابلاتنا معك مكتبة عظيمة في الخلفية. كيف استطعت صنعها بالرغم من أسفارك الكثيرة؟ ما هي أكثر الكتب الثمينة بالنسبة لك؟
أسوأ أمر بالسفر والتنقل هو الكتب. عندي تقريباً ثلاثة آلاف كتاب من عدة أصناف، أكثر من نصفهم عن كتب الطبخ ونصفهم الآخر من الفنون. عندي أيضاً بعض الروايات والكتب التاريخية.
لدي 100 كتاب أفضلهم، أحبهم وأحملهم معي من منزل لآخر. عندما بعت مجموعتي الفنية، اعتقدت أني سأجمع كتب الطبعات الأولى والكتب النادرة، ولكني استسلمت بعدها لأني أردت معرفة المزيد لأجمع بشكل أفضل. من هذه الكتب الطبعة الأولى من الكتاب المغربي الذي أخبرتكم عنه، والطبعة الأولى لكتاب صديقي الذي كتب عن الطعام الصقلي.
معظم كتب الطبخ متعلقة بعملي، فمثلاً عندما أردت الكتابة عن الخبز، بدأت بإحضار كتب متعلقة بخبز أنواع الخبز المختلفة. كنت أشتري أي كتاب متعلق بالشرق الأوسط حتى لو لم يكن مفيداً. الآن لا أشتري إلا الكتب التي أعتقد أنها جيدة جداً ومفيدة. أحب الأكل الآسيوي، ولهذا لديّ قسم خاص بالأكل الياباني، الكوري والصيني، حتى وإن كنت لا أطبخهم، ولكن من الممتع التعلم عنهم.
والكثير من التاريخ العام، تاريخ الأكل بشكل أخص. عندما كنت في عالم الفن، كنت أشتري الكثير من بيانات مصورة لمعارض والكتب الفنية ذات الأعداد الأولى أيضاً. نصف مكتبتي عن الفن والنصف الآخر عن كتب الطبخ والروايات، والكتب التاريخية مركونة الآن في المخزن.
كيف تلهمك القراءة لتكوني خبيرة طعام مبدعة؟
إن مهمتي في عملي هي الحفاظ على الوصفات التقليدية وتاريخ الطعام وتقاليد الطهي. لقد بدأت بكتابة الكتب منذ أكثر من 25 سنة، وأود أن أترك ورائي مجموعة من الكتب والمقالات والكتابات المفيدة التي تساعد في حالات عدة، كما حال السوريين اليوم بعد الحرب على سبيل المثال. كما تعلمون، نصف السكان مشردين والكثير منهم في الخارج.
ربما بعد مرور سنوات على اغتراب السوريين، ستضيع الكثير من الأشياء، لأنهم لا يملكون المال ولا يطبخون الأطباق التي تؤدي لحفظ تراث الطهي في سوريا... لذلك أعتبر مهمتي هي الحفاظ على هذه السلسلة المعرفية من خلال كتبي
ربما بعد مرور سنوات على اغترابهم، ستضيع الكثير من الأشياء، لأنهم لا يملكون المال ولا يطبخون الأطباق التي تؤدي لحفظ تراث الطهي في سوريا. ففي لبنان مثلاً، لا يملك بعض اللاجئين المال الكافي لتحضير وجبة ملائمة وبمعايير دقيقة. ومن ثم يتعين على بعض الفتيات والأمهات الذهاب إلى العمل، ما سيؤدي إلى كسر سلسلة المعرفة بأكملها.
لذلك أعتبر مهمتي هي الحفاظ على هذه السلسلة المعرفية من خلال كتبي، حتى لو فُقدت في الحياة الواقعية، حيث يمكن للناس الرجوع إلى هذه الكتب والعثور على المعلومات والوصفات الخاصة بحضارتهم.
أردت في كتابك "الوليمة، طعام العالم الإسلامي" Feast: Food of the Islamic World إزالة كل المسميات والكليشيهات المتعلقة بالمسلمين والعالم الإسلامي بدءاً بالأكل. كيف يمكن لقصص الأكل أن تقوم بهذا الأمر؟ هل لديك أي ردود أفعال من ناس قرأوا الكتاب وتغيرت نظرتهم للعالم الإسلامي؟
بدءاً من أحداث 9/11، كان هناك حملات تشويه كبيرة بحق المسلمين والإسلام في الصحف من قبل السياسين والعامة. حتى أنا أصبت بنوع من الفوبيا، كنت إذا رأيت فتى ذا لحية طويلة كنت أخاف وأظن أنه إرهابي يريد تفجير نفسه، وكأنهم دخلوا إلى عقولنا وبنوا المفاهيم والتصورات التي أرادوا أن نتبناها بشكل غير إرادي. ولهذا أصلحتها بدءاً من نفسي.
هناك الكثير من أساليب السلوك السلبية بحق المسلمين والإسلام. أعتقدت أن أفضل السبل لتطوير الحضارة الإسلامية بشكل إيجابي هو من خلال الأكل. في الحقيقة، كنت مدهوشة بكمية الاهتمام الكبيرة بهذا الكتاب في أميركا أكثر من إنكلترا، حيث قد تظن أن الإنكليز هم بردود فعل أقل سلبية للأديان، كون شعوبهم متعددة الإثنيات.
أنيسة الحلو: "عندي تقريباً ثلاثة آلاف كتاب من عدة أصناف، أكثر من نصفهم عن كتب الطبخ ونصفهم الآخر عن الفنون"
ولكن الكتاب حقق نجاحاً باهراً في أميركا وإنكلترا بعض الشيء. بدأ الناس بملاحظة أن الحضارة الإسلامية حضارة غنية بتاريخ قديم جداً وطعام جميل جداً أيضاً. ربما لم أستطع تغيير آراء كل الناس، ولكن استطعت نوعاً ما تمثيل هذا الدين وناسه بطريقة أكثر إيجابية وجاذبة.
كل الناس يتحدثون عن الأكل، وأنا لا أعني أننا نعيش لنأكل، وإنما نأكل لنخبر قصة ما. الأكل مادة سهلة لجمع الناس سوياً، ولهذا كان هذا الكتاب منطلقاً من هذه الرؤية.
ماهي نصيحتك للشباب عن القراءة؟ خاصة أن النسبة العظمى اليوم متعلقة بأدوات التواصل الاجتماعي، وتقوم بالقراءة السريعة لها أكثر من المعمقة للكتب؟
القراءة أساسية لتطور الإنسان، نسبة لما تقرأون طبعاً. ولكن الكتب العظيمة تعطي نظرات مختلفة عن الحياة. تفتح القراءة مجالات واسعة كما فتحت الوجودية الفرنسية مجالات واسعة ومختلفة لي. عندي ابنان وابنتان صغيرتان لأخوتي، وأنا دائماً ما أقول لهم: عليكم أن تقرأوا.
هي حضارة وتفتح لكم عالماً جديداً كاملاً. تتعلمون عن الفلسفة، الحضارات، المجتمعات المختلفة، الإنسان والشخصيات. فحتى الكتب الخيالية مبنية على الحياة الواقعية. لهذا فإنّ الفهم الذي تحصلون عليه للحياة من الكتب لا يُقدّر بثمن.
يقال إن أكثر الكتب مبيعاً في العالم العربي هي كتب الطبخ والأحلام، وهناك تحليل على هذا على أننا أمة تأكل وتنام. ما ردك على هذه المشابهة والمقاربة؟
لأكون صريحة، عندما كنت شابة لم يكن لدي الاهتمام الكبير بكتب الطبخ. ولكنني الآن مهتمة بهذا الشيء كوني كاتبة لكتب الطبخ. الطعام أساسي لحياتنا وهو كذلك لهذه الحضارة. ولكن عندما تتعلمون عن الطعام أو طرق طبخه، تتعلمون الكثير أيضاً عن العادات الثقافية والاجتماعية لمختلف الشعوب.
ولهذا، لا أعتقد أن كتب الطبخ هي الكتب الأكثر أهمية في القراءة، أعتقد أن كتب التاريخ أكثر أهمية لتقرأ، حتى الروايات التاريخية والأدب بشكل عام، بحيث تفتح مجالات واسعة كما قلت سابقاً، وتساهم في تنمية الشخصية الفردية. أما بالنسبة لكتب الأحلام، فأنا لا أعتقد أن الكتب الأكثر مبيعاً تعني أنها الكتب الأكثر الأهمية.
هل تفكرين بالمشاركة في قنوات الطبخ العربية؟
في الحقيقة، طُلب مني مرة أن أظهر على قناة طبخ عربية، وكنت مهتمة فعلاً بهذا الأمر، ولكن عقدهم كان سيئاً بعض الشيء. لست مهتمة بهذا النوع من البرامج. شاهدت مؤخراً مسلسلاً يدعى "عشاء منتصف الليل" كان ممتعاً جداً، وكان عبارة عن طبق عشاء ياباني، وتدور الحلقة عن هذا الطبق والطباخ والشخصيات المحيطة به، فأنا مهتمة بالطعام، ولكني مهتمة بالحضارة أيضاً.
فهذا المسلسل مثلاً كان درامياً والطعام والطبخ كانا كمحرك له. أما تلك البرامج المتعلقة بالمسابقات والعروض المباشرة، فأنا لست مهتمة بمشاهدتها صراحة.
هل تتطلعين لمنتجة أي من كتبك الشخصية لمسلسل تلفزيوني؟
نعم، ولكنها صعبة. دخول عالم التلفاز هذه الأيام هو أمر صعب، فعلى الشخص أن يكون إمّا مشهوراً أو ذا شخصية مسلية، وأنا لم أقم بأي مجهود لذلك بالرغم من أنها اقتصادياً مربحة جداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين