يجتاح وسط الخرطوم، ليلاً، ظلام مخيف، وتبدو شوارع المدينة وبناياتها شديدة الكآبة والوحشة. يفرّ السكان مهرولين صوب بيوتهم منذ وقت مبكر، فتتجول الكلاب الضالة في الشوارع وهي تنبش أكوام النفايات المنتشرة في كل مكان، وتلعق مياه الصرف الصحي التي تجري كأنهار قذرة، تفوح منها روائح كريهة. ويرتبط ذلك عضوياً بغياب الأمسيات الفنية والفعاليات الثقافية عن المدينة.
باطمئنان شديد، يمكن لمخرج سينمائي تصوير فيلم رعب مذهل وسط الخرطوم، فالتجهيزات المريعة متوافرة: العتمة الخانقة وهدوء الأشباح المتربصة، والتشوهات المماثلة، والطرقات الجانبية التي تخبّئ أكسسوارت الخوف بالكامل، والخفوت المرعب، والبنايات الصامتة كشواهد المقابر. ذلك كله وزيادة، متوافر وسط الخرطوم ومجاناً.
سقطت المدينة كثيراً في أزمنة شبحية؛ في نهاية انقلاب حقبة أيار/ مايو الجنونية، وبدايات انقلاب الإنقاذ الطائش في 1989، لكنها لم تشهد مثل هذا الرعب الذي وفّره انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر، بينما كانت تحاول التعافي في الفترة الانتقالية المخذولة، طوال السنتين الماضيتين، بعد الثورة؛ إذ لملم المثقفون أطرافهم وبدأوا بإناراتٍ هنا وهناك، وابتدروا مشاورات بشأن السياسات الثقافية، يحدوهم أمل كبير بإعادة العاصمة إلى مجدها الأول، وبرزت مبادرات عديدة لتحسين صورة المدينة بعد الثورة: كافيهات مثقفة، ومنتديات، وحراك مجتمعي وثقافي وليالٍ حالمة بالسينما والشعر والمسرح. ذلك كله قطعه انقلاب البرهان-حميدتي، من دون أن يبالي بمعرض الخرطوم الدولي للكتاب في نسخته الـ16، أو بمهرجان سما الدولي للموسيقى اللذين تزامنا مع الانقلاب الأحمق.
مبادأة جماعية
في الصيف الماضي، أطلقت مبادرة "الخرطوم بالليل"، نداءً لتنظيف وسط العاصمة، المحصور بين المقرن غرباً وضفاف النيل الأزرق شمالاً، بمساحة تبلغ نحو 15 كيلومتراً مربعاً، وبدأ المتطوعون فعلاً حملات نظافة وخططوا للبحث عن مشروعات لإنارة المدينة وإعادة الحيوية إليها، ومساعدة الحكومة المدنية التي تكابد تربص الكثيرين، لكن المشروع الذي ابتدر أعماله في ساحة "أتني"، المعروفة والموصوفة ببيت الحمام وملتقى المثقفين والفنانين والهواة، توقف. وتوقف زخم مُبادرات "مفروش، وجماعة عمل" وحضورها، والشعر والغناء المفتوح والتلوين والتمثيل في الهواء الطلق والأنس في الساحة نفسها الآن، ويلف الصمت والظلام جنباتها الأربع.
باطمئنان شديد، يمكن لمخرج سينمائي تصوير فيلم رعب مذهل وسط الخرطوم، فالتجهيزات المريعة متوافرة: العتمة الخانقة وهدوء الأشباح المتربصة، والتشوهات المماثلة، والطرقات الجانبية التي تخبّئ أكسسوارت الخوف بالكام
يقول الورَّاق كمال وداعة، صاحب معرض دائم للكتاب المستعمل في الساحة: "لم أرَ الخرطوم بمثل هذه الوحشة والرعب سابقاً". يضيف لرصيف22: "كنت أجمع كتبي على عجل وأنا أفكر في أين سأقضي أمسيتي في مدينة تتعدد فيها الفعاليات الثقافية في الليلة الواحدة: هل أذهب إلى منتدى الخرطوم جنوب الموسيقي، أو إلى مسرح قاعة الصداقة، أو إلى منتديات الشباب المفتوحة في شارع النيل؟". ثم يؤكد: "كنت أحياناً أتوزع بين أكثر من مناسبتين، لكن كل ذلك لم يعد موجوداً، وبدلاً منه حلَّت تلك الرائحة".
... والخرطوم ليلاً
اشتهر الخرطوميون بالأنس والونس ليلاً، في مدينة الشمس والنهار، التي شيّدها خورشيد باشا في العام 1838، في موقع مميز، وخلَّاب ونادر، حيث يقترن النيلان الأبيض والأزرق قبل أن يشكّلا ملحمة النيل الكبير، البديعة. يصف أحمد أحمد سيد، في كتابه "تاريخ مدينة الخرطوم"، ولع السودانيين بالأنس والتأسّي بإقامة الأمسيات وليالي الغناء، بعد بطش الحر في النهارات الغائظة، ويصف، من جهة أخرى، نظافة بعض الطرق، وقتها، ما دعا الرحالة الأمريكي بايارد تيلر إلى أن يتمنى أن تكون طرق روما وفلورنسا بمثل نظافتها، وعدّها سيد من أجمل مدن الجنوب وأنظفها. وواظبت الخرطوم، عبر الحقب، على هدهدة ليلها بالسهر وأنوار المقاهي والكازينوهات والشدو وفتون الجمال: سماء صافية ونيل مبهر، مع الاحتفاظ بهوية هادئة، وبسيطة ومعمقة.
تصف الروائية كلتوم فضل الله، الحياة في الخرطوم بالمرفّهة والمرنة. تقول لرصيف22: "نقضي إجازاتنا في الخرطوم التي نأتي إليها من الريف الأخضر". تضيف فضل الله المشغولة أيضاً بالتشجيرين العام والمنزلي: "كانت في شوارع الخرطوم أزهار متفردة، تختلط الخضرة بالشوارع المنتظمة والأسواق الحاشدة بجميل البضائع". وتتابع بنوستالجيا: "أمسيات الخرطوم تعني السينما والكازينوهات والعشاء الأسري خارج البيت، إذ يعود السكان إلى البيوت حاملين أغذيتهم في ظروف ورقية بنية اللون، تبدلت إلى هذا "النايلون" الذي شوّه الرؤية والبيئة معاً". وتقف الكاتبة شاهدةً على انطماس المدينة، فلا هي بالقرية ولا هي بالمدينة، مثلما ترى، "إذ اختلت المعايير وأُحرقت المراكب خلف الوافدين الجدد الذين انتُزعوا من أماكنهم انتزاعاً للّحاق بالعيش، والتمسك بالحياة، وهرباً من جحيم الفقر بعد توقف الإنتاج في الريف بفعل الحرب وجحيم الإنسانية، أو بحثاً عن الخدمات والأمن".
طموح معطَّل وليل كسلان
لاحظ الشاعر بابكر الوسيلة، في أثناء إفطار رمضاني في شارع النيل، غياب الموائد الأسرية على غير العادة، مثلما كان يحدث في السنوات الماضية؛ صخب الأطفال حول ذويهم، والغناء الشبابي الممراح، وانحسار التجمعات الساهرة في الشارع نفسه حتى وقت متأخر من الليل. قال: "أصبح الليل في الخرطوم كسلان". وعزا الوسيلة، ذلك إلى تهديدات أمنية راجت مؤخراً وإلى غياب الدولة الذي وصفه بالمتعمَّد. سألت يوسف حمد، مدير الثقافة في ولاية الخرطوم في الحكومة المدنية المقوّضة، وكان مشاركاً في الإفطار المعني، عن خطة وزارته قبل أن ينقلب عليها العسكر. وضع حمد فنجان القهوة أرضاً، وحدّق بعيداً، وقال: "في الواقع، كان وسط المدينة يحتكر غالبية الأماكن ذات الصلة بالثقافة، لذا شرعت الوزارة في صناعة أماكن وساحات ثقافية بعيدة عن مركز المدينة، مثل مكتبة عامة في حي أمبدة الممتد، ذي الكثافة السكانية العالية".
"أمسيات الخرطوم تعني السينما والكازينوهات والعشاء الأسري خارج البيت، إذ يعود السكان إلى البيوت حاملين أغذيتهم في ظروف ورقية بنية اللون، تبدلت إلى هذا 'النايلون' الذي شوّه الرؤية والبيئة معاً"
دفع حمد بخطة وزارته مكتوبةً إلى رصيف22،، وأكمل: "كانت خطة وزارة الثقافة المجازة تنظر إلى المجال العمومي بوصفه مجالاً عاماً ثقافياً، ما يعني العمل مع الفنانين والمبدعين لملء هذا الفضاء بما هو ثقافي". وأضاف: "من منطلق الخطة المجازة للوزارة، كان يتعين عليَّ الشروع فوراً في تنمية الساحات العامة، وقد بدأت الوزارة عملياً بتأهيل حدائق الشهداء وتأهيلها، وهي فضاء معروف في وسط الخرطوم، إلى جانب تأهيل الشوارع الرئيسية المطلة عليها لتكون بمثابة ملتقى ثقافي".
يتابع: "ضمن خطة الوزارة للسيطرة الثقافية على المجال العمومي، كان من المأمول أن تكتسي المباني المطلة على شوارع رئيسية لوناً محدداً يتم اختياره بواسطة تشكيليين وخبراء في علم الاجتماع وعلم النفس، وقد بدأت الوزارة فعلياً في تلوين ‘كبري الحرية’، تمهيداً لترتيب المدينة بصرياً".
ويقول حمد: "بجانب تنمية الساحات العامة، أعدت الوزارة مخططاً لتنمية الفضاء المطل على بيت الخليفة ومسجده في مدينة أم درمان التاريخية من جهة الشرق، ليكون هذا الفضاء مشتملاً على مسرح ليلي، ومن شأن هذه الخطة أن تزيد من الإقبال على متحف بيت الخليفة بوصفه مزاراً ثقافياً مهماً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين