فبراير الأول
في شباط/ فبراير 1989، تأزم موقف حكومة الصادق المهدي المنتخبة ديمقراطياً، فأصدر الفريق فتحي أحمد علي، القائد العام للقوات المسلحة، إنذاراً لها بالاعتدال ورفع المعاناة عن كاهل المواطنين، في ظرف أسبوع وإلا فسوف يكون للقوات المسلحة رأي آخر.
كانت الحكومة السودانية متعثرة فعلاً والأمور تخرج عن السيطرة على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى الأمني. فقد فقدت أي سيطرة على موجة ارتفاع الأسعار وفقدت أي قدرة على توقيع اتفاق سلام مستقر مع الجنوب، بعد تظاهرات قامت بها الجبهة الإسلامية بزعامة حسن الترابي وصفت فيها الحكومة بالكفر والردة لأنها وقّعت على اتفاق يجيز تعليق تطبيق الشريعة الإسلامية في الجنوب، غير المسلم في معظمه.
كل الأمور كانت تسير إلى انقلاب...
فبراير الآخر
في شباط/ فبراير آخر، سنة 2021، تأزم موقف حكومة هشام المشيشي في تونس. تمسّك رئيس الجمهورية قيس سعيّد برفض أداء اليمين للوزراء الجدد (11 وزيراً) بعد أكثر من أسبوع على منحهم الثقة من البرلمان. تصاعدت الأزمة الاقتصادية والصحية وأخذت بعداً خطراً خاصة في ظل غياب المحكمة الدستورية للفصل في الخلاف الدائر بين الرئيس من ناحية ووزيره الأول والبرلمان من ناحية أخرى.
تصاعدت الأزمة الاقتصادية والوبائية في ظل عجز المنظومة الصحية التونسية عن العمل في ظل تفشي وباء كوفيد-19 ونزل متظاهرون إلى الشوارع وحُرقت مقرات حزبية. وجمد الرئيس البرلمان وحل الحكومة وجمع السلطات بيده.
كل الطرق إلى البرلمان أُغلقت وكل الطرق إلى قصر قرطاج مفتوحة.
تشابه الطرق
تشابهت الطرق في سودان 1989 وفي تونس 2021 وحملت عنواناً واحداً: الطريق إلى الديمقراطية مسدود.
خرجت تونس من الاستثناء العربي ولو مؤقتاً وعادت إلى بيت أبيها حيث لا تحل الأزمات السياسية إلا بغلق أبواب السياسة نفسها. وتشابهت السيناريوهات تماماً: حكومات منتخبة لكن ضعيفة، مؤسسات سياسية منقسمة، أحزاب غير مؤهلة للحكم، برلمانات مفتتة بين قوى لا تصل إلى حلول وَسَط ثم أزمة اقتصادية واجتماعية ثم تدخّل يعصف بالديمقراطية.
ويبقى السؤال لماذا تفشل الديمقراطية دائماً في التحدث بالعربية؟
النهايات السعيدة تحتاج مقدمات مختلفة
يحب الجميع النهايات السعيدة حيث تنتصر قوى الخير على قوى الشر ويخرج الجمهور ليشيد بالعمل. لا تُصنع الديمقراطية من أعلى ولا بالنوايا الطيبة، والقاعدة الأكيدة أن لا ديمقراطية بغير ديمقراطيين.
الديمقراطية ليست قيمة مجردة بل تستند على ظروف اجتماعية ضرورية لقيامها يمكن أن نلخصها في ما يلي:
1ـ خروج طبقة من تحت تحكّم الدولة اقتصادياً تُراكم قدرة كبيرة على التأثير في المجتمع مثل البرجوازية الأوروبية التي استقلّت اقتصادياً عن سيطرة الدولة وأنشأت سوقاً قوياً وصار لها بمرور الأيام مصالح كبيرة تدفعها للسعي إلى التمثيل السياسي للحفاظ على تلك المصالح. لا تُقام الديمقراطيات في دول الموظفين حيث تغلب ثقافة الموظف التابع للدولة اقتصادياً وبيروقراطياً وثقافياً.
في كثير من دول شمال إفريقيا، ينتشر تصور عن الدولة الراعية التي تخلق بنفسها فرص التوظيف وتقضي بنفسها على البطالة. وفي نفس الوقت، تعجز الدولة في هذه البلاد عن خلق محفزات لسوق قوي يخلق فرص استثمار وعمل.
في تونس، أثار قرار الحكومة بتجميد التوظيف في القطاع الحكومي مع عدم قدرة السوق على خلق وظائف بديلة غضب الاتّحاد العام للشغل، وتركزت المطالب على توظيف المتعطلين عن العمل في القطاعات الحكومية.
"لا يمكن أن تزدهر ديمقراطية في بلاد تمنع الاختلاف السلمي حول الأفكار وتسمح بمراجعة دائمة لكل المسلمات المجتمعية"
2ـ العقلانية: تؤثر الطبقة الخارجة عن تحكّم الدولة بالتبعية على قيم المجتمع وتدفعه إلى قيم العقلانية، أي ارتكاز الأفعال والسلوكيات على المكاسب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا على الموروثات والتقاليد.
تنتشر في كثير من البلاد العربية أفكار غير عقلانية في الطبقة السياسية وفي المجتمع نفسه. وكان استقبال السودان لأسامة بن لادن وتأييد حكومة الإنقاذ للعراق في حرب الخليج أمثلة على انتشار اللاعقلانية في القرارات ما أدى إلى عزلة السودان عربياً وعالمياً.
3ـ ثقافة الحلول الوسطى: بالتبعية، تخلق قيم العقلانية ثقافة الجنوح إلى الحلول الوسطى والتنازلات المتبادلة بين الفرقاء. لا تقوم ديمقراطية في أجواء استقطاب يهدف كل طرف فيها إلى تحقيق كل مكاسبه ومنع الأطراف الأخرى من تحقيق أي مكسب. الجبهة الإسلامية في السودان قبل انقلاب 1989 كانت تهدف إلى تطبيق الشريعة حتى على الجنوبين غير المسلمين وتمسكت بنفس المطلب بعد الانقلاب. فتفكك السودان نفسه ولم تُقام الديمقراطية.
4ـ العلمنة: لا يمكن أن تنتشر الديمقراطية إلا في مجتمعات تفصل بين الوظيفة السياسية القائمة على تنفيذ برامج وسياسات لتحسين معيشة الناس، وبين الوظيفة الدينية التي تدفع الدولة إلى فرض مظاهر التدين في الشارع.
الجهاز السياسي بشكل عام يقوم بوظيفة واحدة وهي تنظيم حياة المجتمع بطريقة سلمية تمنع النزاع والاعتداء على الحقوق المادية لأفراد المجتمع. حينما يتعدى الأمر ذلك إلى أداء وظيفة أخلاقية أو دينية يصاب بتصلب يمنعه من المراجعة والمحاسبة والتغيير، وهي الصفات الأساسية اللازمة لتطوير أداء النظام السياسي.
في تونس نفسها، ثار جدل حول القوانين التي لها طابع ديني ودور أخلاقي للدولة، ما أثار حفيظة قوى تشعر بأن هذا الدور يؤثر على حرياتها. وفي السودان توسع الدور الأخلاقي والديني لجهاز الدولة حتى قبل انقلاب 1989، ما أدى إلى العصف بالتجربة من أساسها.
"لن تظهر الديمقراطية في دولة الموظفين التابعين للدولة اقتصادياً وبيروقراطياً وثقافياً ولن تظهر في بلاد تقل فيها درجات العقلانية وتزيد فيها المشروعات الدينية"
5ـ الجدل السلمي: هناك حاجة إلى حالة جدل سلمي عام في الفلسفة والفنون والقيم المجتمعية دون أن يُمنع هذا الجدل بقوة السلاح أو بقوة القوانين، طالما التزم بالسلمية وعدم التحريض على العنف.
تفتقر الدول العربية إلى ذلك، فإعدام المثقفين أو المخالفين لما تراه الدولة إجماعاً عاماً كان أحد سمات دولة جعفر النميري في السودان مثل إعدام المفكر محمود محمد طه. لا يمكن أن تزدهر ديمقراطية في بلاد تمنع الاختلاف السلمي حول الأفكار وتسمح بمراجعة دائمة لكل المسلمات المجتمعية.
6ـ الثقافة المؤسسية: بعد كل ذلك، يأتي دور خلق المؤسسات التي تلتزم بتلك القيم وتؤكد على التنافسية السياسية السلمية بين الأفكار والبرامج السياسية وتمنع أي محاولة لتركيز السلطة والقوة. كما تؤكد الثقافة المؤسسية على قيم الديمقراطية القانونية مثل حكم القانون والحكم الرشيد والفصل بين السلطات والشفافية والحق في المراجعة والنقد، وتمنع أي محاولة لاستغلال المنصب السياسي لتحقيق مكاسب شخصية.
كانت إحدى أهم أزمات المؤسسات الحاكمة في تونس انتشار الفساد وعدم الكفاءة وتحوّل المنصب السياسي إلى مغنم شخصي، ما أدى إلى تردٍّ عام في أداء الجهاز الإداري للدولة.
ففي دراسة لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أُجريت مع 391 تونسياً بين تموز/ يوليو وآب/ أغسطس 2017، قال 76% من المُستطلعة آراؤهم إن الفساد في عصر ما بعد زين العابدين بن علي تجاوز الفساد في عصره. فقد تحوّل الفساد إلى ممارسة يومية يستفيد منها موظفون عموميون وسياسيون حوّلوا المنصب السياسي والبيروقراطي إلى فرصة للكسب السريع.
تستقيم الديمقراطية العربية حين تقف على قدميها لا على رأسها، وتؤسَّس من أسفل لا من أعلى، وتصبح هدفاً واقعياً لا حلماً يوتوبياً، وحين يتأسسس ظهير مجتمعي يدافع عن الديمقراطية براغماتياً وعملياً وليس لمجرد اعتبار الديمقراطية قيمة عليا تتردد في صالونات النخب والمثقفين.
لن تظهر الديمقراطية في دولة الموظفين التابعين للدولة اقتصادياً وبيروقراطياً وثقافياً ولن تظهر في بلاد تقل فيها درجات العقلانية وتزيد فيها المشروعات الدينية الدوغمائية أو الأفكار القومية الحِمائية المتطرفة ويُستسهَل فيها اللجوء إلى القوة لحسم الخلافات غير العقلانية في طبيعتها وفي طريقة إدارتها.
وأخيراً، لن تظهر ديمقراطية في بلاد ليس فيها ديمقراطيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...