شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ما فائدة  البلاد التي تجعل من انهيارك رفاهية تتمنى حصولها؟

ما فائدة البلاد التي تجعل من انهيارك رفاهية تتمنى حصولها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 5 مايو 202209:08 ص


"كل واحد بهي البلد بيتمنى يكون بيملك رفاهية الانهيار". جملة وردت في أحد حوارات المسلسل السوري الاجتماعي "كسر عضم" جعلتني أتوقف عندها. كأنها الحقيقة التي نسعى دائماً إلى تجاهلها خلال كل هذه السنين، انطلاقاً من مبدأ أن حجم المعاناة الكبير لن يسمح لنا اليوم، بعد كل هذه المدة، بالاستسلام. هل من الممكن بعد كل هذه المدة أن ننهار؟

في الفترة الماضية، اعتدت أن أتحدث مع أناس جدد، أسمع روايات وأحداثاً جديدة. هذه البلد تحمل يومياً في جعبتها الكثير من الأحداث والسيناريوهات التي مهما اعتقدت أنك تعرفها، فإنها تفاجئك في كل مرّة.

هذه البلاد صعبة لدرجة أنّها تعطيك كل المقومات لتنهار، ولكنها لا تعطيك حق الانهيار

أحد تلك الأحاديث كان مع زوجة صديق لي غائب منذ سنة ونصف. بدأ الحوار بالشيء الوحيد الذي كانت تفكر به خلال تلك الفترة التي كان فيه زوجها غير معروف عنه أي شيء. بدأنا بالحديث عن المصاعب التي مرّت عليها، والأمل الذي كان يشع بداخلها خلال هذه الفترة.

لم يكن من السهل معرفة ما تمرّ به حتى سألتها عن الأمر. فمظهرها الذي كانت تخرج به لم يوح بشيء. ثم انتقلنا للحديث عن الوباء الذي تزامن مع غياب زوجها. حينذاك، لفتني حديثها عن عدم إصابتها بهذا الوباء، ولكنّها قالت لي إنّ عقلها، في تلك الحالة، كان شبيهاً بعقول الكثير من السوريين، أي لا يملك أي مساحة للتفكير بالمرض. كانت تفكر بأشياء رئيسية تثقل عقلها فتصبح غير قادرة على التفكير بالوباء أو بغيره من المشاكل العالمية والإقليمية.

"تمنيت في لحظة ما أن أبكي. تمنيت لو أنّني أستطيع الانهيار"

نحن السوريون قد فارقتنا صفة الشخص "الطبيعي" منذ فترة طويلة، ولم تملك زوجة صديقي وقتاً للتفكير بالانهيار على مدار سنة ونصف من الضغط المتواصل.

وفي حديث آخر مع امرأة كانت خارجة لتوّها من وفاة فرد من دائرتها المقربة، قالت لي إنّها لم تذرف دمعة واحدة على المرحوم برغم صغر سنّه والمرض الذي آلمه فترة طويلة.

وأضافت: "تمنيت في لحظة ما أن أبكي. تمنيت لو أنّني أستطيع الانهيار. كنت أختنق من الداخل تماماً. ولكن بعد كل ما حملته عبر هذه السنين من مآسٍ، تأقلم عقلي لدرجة أنني أخاف أن أفقد اليوم أحد أفراد عائلتي. وأرى جميع وجوه الناس حزينة وباكية عليه إلا أنا". لم يقتصر هذا الحديث عن الفقدان وإنّما ارتبط بالمشاعر الجميلة المتعلقة بالحب والإعجاب. العقل أصبح اليوم ممتلئاً، لا يمكنه ترك مساحة، وإنْ صغيرة، للبقاء يوماً واحداً أو ساعة واحدة ضمن مشاعر "الناس الطبيعيين".

تلك الفكرة عادت بي لمحاولة تذكر المرة الأخيرة التي قلت فيها لنفسي: "الآن سأنهار"، فلم تكن الفترات الماضية التي مررنا بها سهلة. هل من حق أي شخص أن ينهار بعد كل هذه المدة؟ وحتى إذا حاولنا أو قررنا تنفيذ هذا الفعل، فهل نملك القدرة؟ الجواب كان دائماً حاضراً مفاده أننا لا نملك القدرة لفعل هذا النشاط أبداً.

عشت في سوريا 27 سنة، عانيت خلالها الكثير كما أنني حصدت خلالها الكثير. كان التفكير في مغادرة البلاد والسفر خارجاً يستغرق ساعة واحدة فقط، ثمّ أعدل عنه مباشرة. كثيرةٌ هي الفرص التي حصلت عليها للخروج، أبرزها منحة دراسية في مدينة اشبيلية الإسبانية عام 2019. ولكن تلك الفرصة لم تأخذ من تفكيري سوى يوم واحد. رفضت لكون كل ما ارتبط بهذه البلاد في تلك السنة كان مؤشرات لعودتها نحو "سكتها الطبيعية". حينذاك جلبوا لنا الكهرباء طوال فصل الصيف، حلم العمر قايضته بثلاثة أشهر متواصلة من الكهرباء. حقاً كانت أحلامنا متدنية، ومن الطبيعي أن يكون الانهيار لنا رفاهية.

كثيرةٌ هي الفرص التي حصلت عليها للخروج، أبرزها منحة دراسية في مدينة اشبيلية الإسبانية عام 2019. ولكن تلك الفرصة لم تأخذ من تفكيري سوى يوم واحد. رفضت لكون كل ما ارتبط بهذه البلاد في تلك السنة كان مؤشرات لعودتها نحو "سكتها الطبيعية"

أكتب هذه التدوينة قبيل أسبوع من موعد طائرتي، كان كل أصدقائي يقولون لي إنني سأغلق باب البلاد ورائي عند الخروج منها لكوني آخر شخص سيغادرها. عشت في سوريا 27 سنة، قضيت منها 12 سنة في دمشق، ولم أتجرأ على اتخاذ قرار السفر خارجها، ولكن انهياري ظهر بصورة أخرى. ثلاثة أيام كانت كفيلة ليصبح كل ما أملكه قد وصل إلى حافة الهاوية، مهنياً وجسدياً وحتى على مستوى العلاقات الإنسانية. خلال ثلاثة أيام، قررت ما عجزت عنه طوال عمري. تركت عملي، وقدمّت على تأشيرة الدخول إلى مصر، وحجزت بطاقتي على متن الطائرة. لا أنفي أنني قمت بتأجيل تلك الرحلة مرتين لأنّي اعتقدت أنني لم أكتفِ لهذه اللحظة من هذه البلاد. لا أدري ربما نحن شعوب العالم الثالث مثقلون بالمشاعر. لفتني منشور لأحد الأصدقاء يتحدث عن الشعور بالغربة داخل البلد الأم، هذا المنشور جعلني مصمماً أكثر على هذه الخطوة.

ما فائدة  البلاد التي تجعل من انهيارك رفاهية تتمنى حصولها؟ ما فائدة البلاد التي تمطرك بالمشاعر السلبية طوال الوقت ولا تقوى حتى على إعطاء تلك المشاعر وقتها اللازم لتمضي؟ ما الهدف من الوجود في البلاد التي تجعلك تعيش غربة داخلها؟

ما الهدف من الوجود في البلاد التي تجعلك تعيش غربة داخلها؟

لم أكن الشخص السلبي طوال حياتي، ولكن حتى المشاعر السلبية تبلغ ذروتها اليوم، وأنت لا تملك الحق في إظهارها. عقلك يمضي لإيجاد مخرج لتلك المشاعر، ومفهوم المخرج مرتبط دوماً بالفرج والحل، ولكن حتى هذا الحق فقدناه.

أكتب هذه التدوينة دون أن أعرف إنْ كانت ستلقي النور ويقرأها الناس أو لا. ولكن المهم أنه لدينا مساحة لتوثيق كل ما نشعر به دون رقيب يمنعنا من التعبير.

هذه البلاد صعبة لدرجة أنّها تعطيك كل المقومات لتنهار، ولكنها لا تعطيك حق الانهيار. نكتب على أمل أن نعود يوماً نحنُ لنكون أشخاصاً "طبيعيين" أو على الأقل لنستطيع العيش "حياة طبيعية"، نفرح ونبكي ونمرض أو حتّى ننهار فيها دون أن يقول لنا عقلنا: "ليس اليوم". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image