"سئمتُ ترقّب تاريخ انتهاء صلاحيتي".
عندما كان في سوريا، كان تاريخ انتهاء تأجيل الخدمة العسكرية هو مثلث "خطر الموت" الأصفر الذي كلما نظر إليه شعر بالفزع. فزعٌ بلغ حدّ هروبه من البلد، وتسجيل رحلة الشتات الأولى إلى لبنان، ليبدأ في بيروت كابوس تاريخ جديد يهدد بقاءه. تاريخ وثيقة الكفيل، وهي وثيقة يتعهد من خلالها مواطن لبناني بأن يكفل عاملاً سورياً يعمل على الأراضي اللبنانية، دوّنه على الصفحة الأولى في روزنامة المنزل، ليتلقى منه كل صباح إيعازاً بالبحث عن بوابة نجاة جديدة، قبل حلوله.
المنحة الدراسية الهنغارية، هي فُسحة الطالب السوري إلى أوروبا، بعيداً عن طوفان البحار، ومطاردات خفر الحدود. مع ذلك، وصل إلى المجر، ليقارع سيف الوقت مع تاريخ صلاحية جديد؛ تقويم انتهاء إقامة المنحة الجامعية.
في حديث إلى رصيف22، سألته: "متى ستنتهي هذه المعاناة؟". أجابني: "لن تنتهي. وإن سَئِمتنا... ستُسلِّم الراية إلى معاناة أخرى... فنحن سوريون".
بهذه المعادلة، يلخّص بشير.س ( 25 عاماً، طالب ماجيستير سوري)، معاناته في سوريا ولبنان، واليوم مع رحلة شتات جديدة يترقبها ككل طالب سوري بعد نهاية سنتين من الدراسة في هنغاريا، فيبدأ يلهث نحو أي ملاذ في أوروبا يجنّبه شبح العودة إلى الوطن.
المنحة الدراسية الهنغارية، هي فُسحة الطالب السوري إلى أوروبا، بعيداً عن طوفان البحار، ومطاردات خفر الحدود. مع ذلك، وصل إلى المجر، ليقارع سيف الوقت مع تاريخ صلاحية جديد؛ تقويم انتهاء إقامة المنحة الجامعية
لا مفرّ من الـ"كامب"
بدأ بشير يشعر بالقلق حول مصيره بعد المنحة، منذ وصوله إلى المجر، حتى بات هذا القلق كفيلاً بإفساد متعة أي لحظة جميلة. عن هذا يقول: "أشعر بأنني في سباق مع الزمن، الوقت يمضي بسرعة، ويجب أن أقرر مصيري. لا يسمح معدلي الجامعي بمتابعة دراسة الدكتوراه، وتأشيرة البحث عن عمل هي طريق بلا أفق، لأن هنغاريا لا تمنح الإقامة الدائمة للأجانب، ولا تمنح الجنسية إلا بشروط صعبة جداً، قياساً ببقية الدول الأوروبية، لذلك العمل هنا، هو بمثابة فرصة لإطالة مدة الإقامة، ناهيك عن أن متوسط الأجور ضعيف جداً".
كلما مرّ الوقت، أصبح طريق بشير أقرب إلى "كامب" (مخيّم) لاجئين في دولة أوروبية، فيما يحاول هو المكوث بعيداً عنها، هرباً من بداية ترحال شاق جديد. يضيف: "العام الماضي كان خيار اللجوء إلى إحدى الدول الاوروبية مرفوضاً بالنسبة إلي، لأن أهلي في سوريا، ويجب علي زيارتهم بشكل دوري، ولأنني أرى اللجوء مشقّةً جديدةً وطريقاً طويلاً أخشاه، بعد أن تنعمت بالاستقرار سنتين في المجر. لكن مع اقتراب تاريخ التخرج، ربما لن يبقى إلا خيار الكامب أمامي".
تتقبل رهف. ز ( 24 عاماً، طالبة ماجيستير سورية في المجر)، فكرة اللجوء، لا بل تراها تقدم العديد من الامتيازات والفرص. تقول لرصيف22: "بدأت رحلة التوجس من مرحلة ما بعد المنحة منذ قدومنا إلى هنا، فالكل يعلم أن هذه المنحة هي بوابة الخروج اللائق من سوريا، والخطوة الثانية بعد المنحة هي التي سترسم مستقبلنا في أوروبا. أسعى لأجد منحةً جامعيةً ثانيةً، أو عملاً، أو سأطلب اللجوء، على الرغم من أنني لا أستوفي شروطه، فسوريا أصبحت آمنةً بالنسبة إلى الأوروبيين، وأنا في أوروبا منذ سنتين... فكيف سأقنعهم بأني هاربة من الحرب؟".
"العام الماضي كان خيار اللجوء إلى إحدى الدول الاوروبية مرفوضاً بالنسبة إلي، لأن أهلي في سوريا، ويجب علي زيارتهم بشكل دوري، ولأنني أرى اللجوء مشقّةً جديدةً وطريقاً طويلاً أخشاه، بعد أن تنعمت بالاستقرار سنتين في المجر. لكن مع اقتراب تاريخ التخرج، ربما لن يبقى إلا خيار الكامب أمامي"
إلّا حق العودة!
أنت ابن هذه الأرض المنكوبة، تحمل جواز سفر يحتّمُ عليك عراك الأقدار لتهنأ بحياةٍ آمنة. تختلفُ ميادين هذا العراك، وتختلف أيضاً حصيلته من سني حياتك، إلى أن تظفر بنصرٍ مبين يلقي بوثيقة السفر المحلية هذه في صندوق الذكريات، ويستعيض عنها بأخرى تقلّدك رتبة "مواطن مستقرّ".
تحلم ميشلين. ح (23 عاماً)، منذ صغرها، بالعيش خارج سوريا التي تراها محدودة الأفق حتى قبل الحرب، لذلك أنهت مرحلتها الجامعية الأولى هناك، ووصلت إلى أوروبا عبر المنحة الهنغارية. تقول لرصيف22: "منذ وصولي إلى هنا، بدأت أتلقى التحذيرات من طلاب السنة الثانية في الماجيستير بشأن مرحلة ما بعد المنحة. أحاول دائماً الانصراف عن التفكير في هذا الموضوع، وتسكين عامل القلق باحتمال تقديم اللجوء، لكنه عامل أرق يتأجج مع قرب انتهاء الدراسة هنا في المجر".
تضيف ميشلين التي تدرس الصيدلة في واحدة من جامعات هنغاريا: "في سوريا، لا يوجد أفق للتطور. أفضّل البقاء هنا والعمل في 'ماكدونالدز'، على العودة إلى سوريا، والعمل في الصيدلة... هنا دوماً هناك أمل في توفّر فرصة جيدة ترسم من خلالها مستقبلاً جيداً، أما في سوريا فمحال أن تأتي هذه الفرصة".
الجميع يثني على قرار عدم العودة، بل يراه ضرباً من الخيال. حتى لو تهيأت ظروف كفيلة بحياة ترف ورخاء في البلد، سيفسد ترفها أخبار المآسي المسافرة من هناك، وقوافل المهاجرين والباحثين عن أي سبيل للهرب... تقول رهف: "دوماً أسأل نفسي ماذا ينقصني في سوريا لأعيش هناك؟ أضع مخططاً افتراضياً لما يجب أن يتوفر، فأجده غير قابل للتحقيق... لذلك لا أفكر في العودة إلى سوريا، خاصّةً بعد خروج أهلي منها، وتقديمهم اللجوء في النمسا".
الجميع يثني على قرار عدم العودة، بل يراه ضرباً من الخيال. حتى لو تهيأت ظروف كفيلة بحياة ترف ورخاء في البلد، سيفسد ترفها أخبار المآسي المسافرة من هناك، وقوافل المهاجرين والباحثين عن أي سبيل للهرب.
"سوريا جميلة لزيارة قصيرة لا تتجاوز السبعة أيام! في اليوم الثامن، سيبدأ شعور الندم والحنين إلى هذه البلاد، والنظام فيها"، يقول بشار ويؤكد صعوبة التأقلم مع الظروف في سوريا، خاصةً بعد العيش في أوروبا لسنتين، والتنعم بعلاقة ودية مع القانون والنظام، بعيداً عن الفوضى والعبثية والفساد الفاحش.
قفصٌ مرصّع بالجنسية
فرص العمل بعد المنحة الدراسية قليلة في هنغاريا، لا سيّما أن بعض المتقدمين إلى المنحة يتوجهون نحو اختصاصات شروطها يسيرة، لكنها لا تجد لخريجيها شواغر بالقدر الكافي، مثل اختصاص العمل الاجتماعي، والصحة العامة، والعلوم الإنسانية، وحتى من وجد فرصة عمل، يعدّها "وثيقة إقامة" إلى حين إيجاد وظيفة في دولة أخرى أجورها أعلى، وتمنح دولتها الإقامة الدائمة للأجانب العاملين على أراضيها.
هذا الواقع جعل تقديم اللجوء هو الخطوة الثانية لعدد كبير من طلاب المنحة الهنغارية السوريين، لكن حال نادين. أ (28 عاماً، طالبة ماجيستير صحة عامة في هنغاريا)، يختلف. لا فرصة لديها لتقديم اللجوء، لأنها مقيمة في لبنان منذ الطفولة، ولم ترَ سوريا إلا عندما درست في الجامعة وتقدمت إلى المنحة، لذلك اختارت الطريق الأسهل؛ الزواج الصوري بغرض الحصول على الجنسية الأوروبية.
تقول نادين لرصيف22: "بعد انفجار المرفأ، سافرت إلى سوريا، وتقدمت إلى المنحة. وعندما وصلت إلى أوروبا عبر المنحة الهنغارية، كنت على يقين بأن القدر سيمنحني فرصةً أخرى للنجاة بعد المنحة، والهرب من شبح العودة إلى لبنان... وأتت الفرصة على هيئة شابٍ مصري حاصلٍ على الجنسية السويدية تعرفت إليه في بودابست، واتفقنا على الزواج!".
تتحدث نادين عن مشاعرها تجاه كارم. ج (33 عاماً)، لرصيف22: "أشعر أحياناً بأنني أحبه، وأحياناً أعترف لذاتي بأنني أدّعي هذه المشاعر بغرض إتمام زواج الخلاص هذا... وحتى المكر والخديعة أبرّرها لنفسي، عندما أفكر بالجحيم الذي ينتظرني إذا قررت العودة إلى سوريا، أو لبنان".
"أشعر أحياناً بأنني أحبه، وأحياناً أعترف لذاتي بأنني أدّعي هذه المشاعر بغرض إتمام زواج الخلاص هذا... وحتى المكر والخديعة أبرّرها لنفسي، عندما أفكر بالجحيم الذي ينتظرني إذا قررت العودة إلى سوريا، أو لبنان"
"فوبيا" ذلك الوطن
هؤلاء هم النخبة في ميزان التقسيم الطبقي المستحدث في سوريا، الذي أصبحت الطبقة الدنيا فيه من نصيب كل مواطن سوري عادي لا يحظى بمنصب، أو رأس مال، أو مفسدة تملأ جيوبه، وترفع منزلته إلى الطبقة المتوسطة. أما الطبقة الأرستقراطية الحديثة في سوريا، فهي أولئك الذين نجوا وعبروا خارجاً مقلَّدين بوسام "مغترب/ ة". وكما يتشبث صاحب المنصب بكرسيه، ويداري ذو رأس المال أرصدته، يخشى أبناء ترف الاغتراب على وسام "الأجنبي"، ويحرصون على عدم فقدانه، ليبقى ترقّب تواريخ "وثائق الإقامة" سيّد الحدث في الغربة، وكابوس "رحلة One way" إلى الوطن سيّد القلق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...